الاثنين ٢٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٦
بقلم جميل السلحوت

رواية «الهروب» في اليوم السابع

ناقشت ندوة اليوم السّابع الثقافية الأسبوعيّة في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في القدس، رواية "الهروب" للأديب الفلسطينيّ سليم دبّور، وتقع الرّواية الصّادرة بدايات العام 2016 عن دار الجندي للنّشر والتّوزيع في القدس في 450 صفحة من الحجم المتوسّط.

ممّا يذكر أنّ الأديب دبّور مبدع معروف في المجال الرّوائي والسّينمائي. كتب الرّواية والمسلسلات الدّرامية والأفلام الرّوائيّة والمسرحيّات.

بدأ النّقاش ابراهيم جوهر فقال:

هذه رواية جريئة في نقدها للنّاس والمؤسّسات وتجّار المرحلة السّياسيّة، وهي توثّق لمرحلة مفصليّة في مسيرة الصّراع مع الاحتلال.

استعان الكاتب بأسلوب الرّسالة إلى الأب ممّا أتاح له مبررا فنّيّا للبوح وإبداء الآراء والتّعليق. إلا أنّ أسلوب الرّسالة لم يشفع دائما في تبرير تلك المباشرة وتفاصيل الأحداث والعلاقات المتشعّبة بين الشّخصيّات والانفعالات التي بدت جليّة في ردود الفعل لعدد من المواقف.

الهروب: هروب من المصحّة في بيت لحم، والهروب من الوطن، والهروب إلى الجبال للمواجهة وإعادة القطار إلى سكّته: تحرير الوطن من محتلّيه ومن تجّاره ولصوصه.
كان يمكن للكاتب أن يتخلّص من بعض المآخذ الفنّيّة في روايته (الهروب) التي بلغ عدد صفحاتها 451 صفحة بمراجعة متأنّيّة ليقف على:

 المصادفة دائمة الحضور عند كلّ مأزق ابتداء من سيّارة نقل الحمير التي نقلته من بيت لحم إلى القدس، وانتهاء بالحمير التي كانت تعينه في نقل الموادّ التموينية.
 التعليق على الحدث الذي بدا زائدا في غير محلّه.
 نقل الحوار بأسلوب الإخبار: الرّاوي السارد يتولى مهمّة الإخبار بما جرى من حوار.
 أسلوب المقالة بلغة الرّاوي واستخدام أوصاف للجمال والمخيّمات بلغة مباشرة.
 يبدو أن الكاتب كان يوثّق يوميّات الاجتياح - يوميّات الحرب الشّارونيّة على رام الله وجاءت يوميّات إخباريّة توثيقيّة.
 لم تخدم سيرة طفولة الرّاوي (صابر) المسيرة الرّوائيّة ولا علاقة لها بشخصيّته الحاليّة في الرّواية.
 الإكثار من التّربيت (ربّت على كتفه) حتى باتت الجملة لازمة لكلّ لقاء فيه مواساة أو إعجاب.
 المصادفة غير المعقولة: الجارة الشّابّة القادمة من نابلس إلى مخيّم الجلزون وسهولة الزّواج منها لأنّها عشقته، ثم هذا الثّراء في المسكن والأثاث.
 مع هذه الملاحظات فقد وجدت رواية توثّق المرحلة وتنتقد الفساد وتنظيماته ومنظّماته وناسه، وهي ترسل رسالة واضحة حين تنتصر للحق الذي يجب أن يسود في النهاية. وقد أجاد الكاتب الإمساك بشخصيّاته وأحداثه وحرّكها في بيئة ملتهبة لم يغب عنها للحظة ظلم الاحتلال.

وقال عبد الله دعيس:

"سعادة الدّنيا تكمن في الجنون. بالجنون وحده تتجاوز الفكر البشريّ المحدود وقوانينه العقيمة، وتحلّق إلى ما هو أبعد بكثير مما وصل إليه معظم العقلاء." ص 345
عند قراءتك رواية الهروب لسليم دبور، تتأرجح على حبل الجنون وتهتزّ عليه بعنف؛ لتعيش مع شخصيّات اختارت الجنون، لتهرب بعيدا من واقع أقلّ ما يمكن وصفه أنّه مجنون. فالرّواية تصف بدقّة، عن طريق شخصيّاتها المجنونة وأحداثها الأكثر جنونا، فترة مهمّة من تاريخ الشّعب الفلسطينيّ بعد اتّفاق أوسلو، وتبيّن تعلّق البعض بخيوط السّلام الواهية، وانطلاء خدع الاحتلال وعملائه على الكثيرين، بينما وجد العقلاء أنفسهم تائهين في خضمّ هذا الوضع الآسن، لم يستطيعوا تقبّله؛ فهربوا منه ولم يجدوا ملجأ غير الجنون. ثم ينتقل الكاتب إلى فترة انتفاضة الأقصى حيث تبدّد وهم السّلام، وغاب القناع الذي غطّى وجه العدوّ ليعود لممارسة قمعه، والذي لم يتخلَّ عنه أبدا، بجلاء.

تبدأ الرّواية بصابر الذي قضى ست سنوات داخل مصحّة عقليّة، وقرّر الهروب منها إلى عالم العقلاء؛ ليجد نفسه يعيش في مصحّة عقلية أكبر منها، ويتمنّى في لحظة من اللحظات أن يعود إلى تلك المصحّة بعيدا عن المآسي التي رآها خارجها. صابر يشعر بارتباط كبير بتراب هذا الأرض؛ فنراه كلّ حين يتمرّغ فيه بعنف ويعفّر نفسه به، وينظر النّاس إليه كمجنون غير مدركين مكمن عشقه، وأنّ المجنون فعلا هو ذاك الذي يتبرّأ من هذا التّراب ويتحوّل إلى أداة للاحتلال.
يتنقّل صابر في ربوع الضفّة الغربيّة وفي مدينة رام الله، التي بدأ التّوسع العمرانيّ يغزوها مع قدوم السلطة الفلسطينيّة؛ ليكتشف بنفسه زيف السّلام مع الاحتلال، وحقيقة أولئك الذين انتشوا تحت ظلّه وأصبحوا سوطا في يد الأعداء مسلّطا على شعبهم، ونقلوا كلّ أنواع الفساد التي خبروها في الدّول العربيّة إلى الأرض الفلسطينيّة، ليجتمع الاحتلال والفساد وكأنّ الاحتلال وحده لم يكن كافيا!

ويبقى صابر، مع ذلك، يؤمن بالسّلام! ويأمل أنّ العدل سيتحقّق يوما ما، ويحسن الظنّ فيمن أوصل الشّعب الفلسطينيّ إلى هذه الحال، مع أنّ كلّ خطوة خطاها كانت تشير خلاف ذلك. فقد خسر قدمه في انفجار لغم، ثم طرق جميع أبواب السّلطة فلم يجد الوظيفة التي تقيته وتسد رمقه رغم مؤهلاته الجامعيّة، بينما تعجّ مكاتبها بكثير من الذين يسمّون مدراء دون أن يقوموا بأيّ عمل. ينتقد الكاتب أداء السّلطة الفلسطينيّة بشدّة تنمّ عن عمق الألم وخيبة الأمل، وبشكل تهكّمي ساخر فيقول: "أبو البرابير أصبح مديرا عاما." ويقول في في موضع آخر "أبو القرون (في إشارة إلى العملاء) أصبح نقيبا."
ويلجأ صابر إلى الحمير في كلّ مرحلة من مراحل الرّواية، فيفرّ من المصحّة العقليّة في شاحنة تحمل الحمير، ويجد حمارا دائما في كلّ تنقلاته، يستطيع سرقته بسهولة واستخدامه لأغراضة، ولا تختفي ظاهرة الحمير حتّى نهاية الرّواية. فماذا أراد الكاتب بهذا؟ فهل يرمز الحمار إلى الصّبر؟ أم يرمز الحمار إلى غباء أولئك الذين تشبّثوا بأهداب السّلام مع العدوّ، فأصبحوا وسيلة تسرق وتمتطى ثمّ تترك.

يصف الكاتب من خلال أحداث الرّواية الحياة أثناء انتفاضة الأقصى وصفا دقيقا شاملا، ويوظف الكثير من أحداث الرواية لذلك؛ فزفاف أيّوب مثلا وإحضار العروس من نابلس، وضّح المعاناة الشّديدة على حواجز الاحتلال الكثيرة في تلك الفترة، ومنع التّجوال الذي كان يفرض على مخيم الجلزون ومدينة رام الله وإغلاق المدرسة وغيرها من الأحداث كانت شاهدا صادقا على تلك الفترة، التي عانى فيها الفلسطينيّون معاناة لا يدركها إلا الذي اكتوى بنارها وعاصرها.

ويظهر الكاتب نظرة الفلسطينيّين إلى الأنظمة العربيّة وتخاذلها ودورها السّلبيّ في القضيّة الفلسطينيّة، من خلال الحوار الذي يدور بين صابر الذي يتشبّث ببعض الأمل فيها، وأيّوب الذي يفهم دورها جيّدا في صناعة ورعاية دولة الاحتلال. وكذلك أظهر دور الدّول الغربيّة وخاصّة الولايات المتحدة وسياساتها الظّالمة التي تدين الضّحية وتكافئ الجلّاد.
ويصف الكاتب أيضا حال سجون الاحتلال والتّعذيب الوحشيّ الذي يتعرّض له الأسرى الفلسطينيّون فيها. ويعرّج الكاتب على دور عملاء الاحتلال الهدّام، ودورهم في تصفية المقاومين والتّحقيق معهم في السّجون.
ويرسم الكاتب صورة حقيقيّة واقعيّة لحياة النّاس الاجتماعيّة في المخيّم والقرية والمدينة، ويبيّن التّفاعلات والعلاقات المتشابكة والمترابطة بين أبناء المجتمع الفلسطينيّ، خاصّة في ظلّ الحصار.

بنى الكاتب حبكته الرّوائية بإحكام، مستغلّا الصّداقة التي نشأت بين صابر وأيّوب، اللذين اختار اسميهما بعناية؛ فكلاهما يشير إلى الصّبر الذي لا مناص منه لمن يعيش على هذه الأرض. صابر وأيّوب مختلفان يتبنّيان وجهتي نظر مختلفة، فصابر يؤمن بالسّلام رغم إدراكه لخداع الاحتلال، ويرى بصيص أمل وخير في بعض رجال السّلطة الفلسطينيّة ويسعى ليطرق أبوابهم، بينما أيّوب يدرك حقيقة الاحتلال، ولا يثق بتاتا بما أنتجته خدعة السّلام معه. تحدث مشادّات بينهما، لكنّ الصداقة تطغى، ويشقّ الرّجلان طريقهما معا، يواجهان المصاعب ويتغلّبان على التّحدّيات، لا يفرّقهما اختلافهما في بعض الآراء، ويتّحد مصيرهما عندما يخسر أيّوب قدمه أيضا برصاصة متفجّرة، ويسير بقدم اصطناعيّة تماما مثل صابر، ثمّ يتخلّى أخيرا عن حياته في القرية؛ ليعيش في مخيّم للاجئين إلى جانب صديقه. هذه الصّداقة الفذّة، إشارة لطيفة من الكاتب لوحدة هذا الشّعب الذي يواجه جميع أبنائه نفس المحتلّ ويكتوون بسياطه، ولا يفرّق بينهم بسبب مكان سكنهم أو انتمائهم السّياسيّ، فهي دعوة للوحدة ونبذ الخلاف.

يعمد الكاتب، في روايته، إلى الجمل القصيرة المكثّفة واللغة الواضحة السّلسة، في سرد مباشر وحوار مقتضب بين الشّخصيات، وإلى الحوار الداخليّ. ويبني الرّواية كحكاية يرويها صابر لوالده الميّت، الذي يتخيّله شاخصا أمامه، ويبتدع هذا الأسلوب الجميل في التّحدث إلى رجل ميّت في رمز إلى هذه الأمّة العربيّة التي نحدّثها ونشكو لها حالنا، لكنّها لا تتحرّك، فهي ليست أكثر حياة من أبيه الميّت، الذي يحبّه ويشكو إليه همومه، لكنّه لا يستطيع أن يعينه في شيء.
وقد أبدع الكاتب عندما خلق شخصيّة جرعوش، الذي كان يتظاهر بالجنون، والذي كان الخيط الذي يربط أحداث الرّواية وشخصيّاتها، ويظهر دائما في الوقت المناسب ليجعل الأحداث أكثر منطقيّة.

هذه الرّواية جميلة مشوٌّقة يجد القارئ متعة بقراءتها، ولا ينتقل من صفحة إلى أخرى قبل أن يستفيد معلومة جديدة، ويعيش وجدانيا مع الأحداث، ولكن هناك بعض الأحداث غير المنطقيّة التي لم تخدم هذا العمل الأدبيّ الرّائع، منها: عودة الطّفل صابر إلى أبيه، وتقبّله العيش في المخيّم واندماجه في الحياة ضمن عائلة يحكمها الجنون برفقة جرعوش، الطّريقة التي تزوج فيها صابر حنان، والدة حنان المتديّنة الرّزينة تتحوّل فجأة إلى شخصية هزليّة، تريد أن تشاهد مسرحيّة كوميديّة خلال الحصار وأثناء انقطاع الكهرباء، إيداع مبلغ عشرة آلاف دولار في حساب أيّوب مع أنّ صديقه أغلق شركته، وهرب من الضّرائب الباهظة التي فرضتها السلطة الفلسطينيّة، عودة نضال وحصول صابر على مبالغ خياليّة، وتحويل هذه المبالغ إلى فلسطين وسحب مبلغ مليون دولار من أحد فروع البنك! ثمّ ابتياع المؤونة والغذاء بهذا المبلغ الضّخم وتوزيعه على أهالي المخيّم في غفلة من الاحتلال الذي كان يحاصره، وتحوّل صابر الذي عانى من الفقر إلى محسن كبير، وتخلّيه عن هذه الأموال بيسر منافٍ لطبيعة النّفس البشريّة.

ظهور المرأة في الرّواية ضعيف، لم يعط الأمّ والزّوجة الفلسطينيّة حقها، ولم يظهر معاناتها وبطولتها خلال الانتفاضة والحصار، حبّذا لو اهتمّ الكاتب بهذا الجانب بشكل أكبر. وأعتقد أنّ نهاية الرّواية لم تكن كبدايتها، فقد كانت نهايتها مسرحيّة تذكّرنا ببعض الأفلام التي تتسارع الأحداث في آخرها؛ لتنتهي نهاية يتوقّعها مشاهد ملّ من طول الفيلم. لكنّ هذا لا يضع من قيمة الرواية وغناها بالتّشويق والمتعة والمعلومة، فهي رواية رائعة بحقّ لا غنًى عن قراءتها.

وقالت نزهة الرملاوي:

ترى لِمَ اختار الكاتب عنوان الهروب لروايته؟

هل كان هروبا من واقع سياسيّ غير عادل وغير متّزن يتمثّل بالمؤامرات والقتل والتّشريد والمعاهدات التي تحطّمت عليها آمال الشّعب؟
هل كان هروبا من واقع اجتماعيّ مؤلم يتمثّل بالبطالة والفقر والجريمة والاتّهامات والمحسوبيّات؟
هل كان هروبا من جيش الاحتلال الذي يطارده بعد مقاومته إلى الجبال؛ لتصبح أسود المقاومة أسرته الجديدة التي علّمها الصّبر وعلّمته الشّراسة والخشونة؟

هل كان هروبا من مصحّة عقليّة بعد أن اتهم بالجنون، ومكث في المصحّة ستّ سنوات... مع أنّه يدرك أنه أعقل العقلاء؟
لقد تميزت بداية الرّواية بالتّشويق، وبلغت ذروة تأزّمها حينما قرّر الرّاوي الهروب من المصحّة لأنّه يؤمن بعقلانيّته، ولقد بيّن الكاتب مواقف كثيرة أدّت بعقلاء في مصحّة للمجانين.
تميّز الخطاب بالمفردات السّياسيّة والاجتماعيّة، ولقد اختار الكاتب أباه ليوجّه خطابه أو استياءه أو تذمّره من الأمور السّياسيّة، أو الأحداث في كثير من المواقف في الرّواية.

تطرّقت الرّواية للحياة الاجتماعيّة والسّياسيّة في فلسطين تحت نير الاحتلال، وفي ظلّ السّلطة الفلسطينيّة. فترة الانتفاضة الثّانية، ما بعد معاهدة السّلام حيث انتقد اتّفاقات السّلام بين السّلطة وإسرائيل وانتقد المرحلة، لما لها من نتائج سلبيّة جدّا على الشّعب الفلسطينيّ، فقد ازدادت المجازر والاعتقالات وهدم المنازل وبناء المستوطنات، ولم يتطرق لبناء جدار الفصل ولم يستوقفه حاجز تفتيش أثناء دخوله القدس، ( أظن أنّ الجنود لم تفتش شاحنة الحمير التي أقلّت الرّاوي حينما اختبأ بها) لقد أجاد الكاتب الوصف في روايته، فقد اتّسمت لغة الكاتب بالبساطة والعذوبة في انتقاء المفردات، وتركيب الجمل التي تشدّ القارئ، فيتذوّق الرّقي والثّقافة في مضامينها ومقاصدها بذكاء وحنكة أثناء تسلسل أحداث الرّواية، أضف إلى ذلك السّلاسة في سرد الأحداث، وتمكّنه من إدارة الحوار بطريقة ملفتة ومتعمّقة في معانيها.
يلفت الكاتب انتباه قرائه (بعد كذبه) إلى عدم تصديق كلّ ما يقال........لأنّ ذلك مكّن عدوّنا منّا.

استخدم الكاتب في حواره ( المونولوج ) السّرد الدّاخلي والتّشبيهات والكنايات والأمثال، والحوار الهادف والجادّ والايحاء أثناء خطابه الموجّه لأبيه وشخوص الرّواية ...وضع الكاتب قارئ الرّواية بصور اجتماعيّة وسياسيّة حقيقيّة، فقد رسم الحواجز والجدران والجنود والقتل والمصحّة والاشخاص بدقّة، وتطرّق الى تفاصيل دقيقة أثناء سرد الأحداث حينما تمكّن من الهرب ووصل القدس؛ فرأى الجنود في كلّ مكان، وتمنّى أن لا يطلبوا هويّته التي لا يحملها..ثم طرق بابا مقدسيّا لعلمه بكرم المقدسيّين بعد هروبه، فكانت الفاجعة حينما خرج منه يهوديّ أراد قتله، فانتقل إلى بيت آخر، فوجد فيه ما أراد من كرم ومأوى ص ١٩، لم يصف الكاتب تفاصيل الأماكن بدقة.
القدس: وهنا برزت عبقرية الكاتب لأنّ الهارب لا يلتفت إلى جماليّة الأماكن .وفي حالته هو يبحث عن الأمن لا عن الجمال ...الا أنّ الأحداث كانت تحتوي على الكثير من التّفاصيل التي أسهب في طرحها، وعالجها بشفافية وطبع صورها بوضوح .

زخرت الرّواية بالمشاهد المؤثّرة والمؤلمة، وأظنّ أنّ رؤية الكاتب الفنّيبّة (كمخرج سينمائي) جعل من نصوص الرّواية فلما مشاهدا أمام عيني القارئ، وإن دلّ ذلك فإنّما يدلّ على نظرة الكاتب الثّاقبة لما يدور في أحاسيس القارئ وشعوره تجاه الأحداث السّياسيّة والاجتماعيّة...وقد طرح الكاتب مضامين وأفكار روايته بشكل يثري الرّواية الفلسطينيّة، حيث أظهر الكثير من الحقائق المجتمعيّة والسّياسيّة بذات سلبيّة مؤثّرة على الأفراد والقضيّة الفلسطينيّة، مع ابراز الكاتب لبعض القيم والاخلاق السّائدة في مجتمعنا، إضافة إلى اعترافه بالسّرقة ومعرفته بتحريمها حتّى يخبئ وجهه أثناء هروبه ص٢٧.

أبرز الكاتب النّمو والعمران في مدينة رام الله، وصورها بلا جنود للاحتلال، وقد رفرفت الاعلام الفلسطينيّة فوق البنايات والشّوارع بعد استلام السّلطة للحكم، بعد أن كانت تلك الصّور غير مألوفة، وفي الوقت ذاته وصف حال الشّارع في رام الله، وتطرّق إلى نقد السّلطة والخوف من التّسلط التي تمارسه السّلطة مع الأفراد.

أثار الكاتب معاناة الشّعب في الطّرق المتعرّجة الموحلة، والالتفاف حول المناطق، من هنا نجد أنّ الرّواية قيمة فنيا، وتمتاز باستخدام صور حقيقيّة تتكرّر مشاهدها أمام عينيّ الفرد الفلسطينيّ صباح مساء، إذا صحّ التّعبير، فلقد أرخت الرّواية لفترة ما بعد الانتفاضة واتفاقات أوسلو، وحاكت ما نتج عنها.

من الملاحظ أنّ رواية الهروب جاءت كجزء ثانٍ لرواية صابر؛ لذا لم يشأ الكاب إعادة بعض الأحداث في الرّواية السّابقة، كتذكير للقارئ إذا ما احتاج الحدث لذلك، كصابر الذي أصبح ثريّا فجأة، فلو اننا قرأنا رواية صابر أوّلا لفهمنا مصدر الأموال والثّراء المفاجئ لصابر..فكان من الأفضل لو أن الكاتب أرجع القارئ إلى روايته الأولى بايجاز، وأثار من جديد موضوع شقيق صابر الثّريّ الذي كان يعيش في امريكا ثم توفي، ليتّضح ثراء صابر الذي كان يعاني من الفقر كأهل المخيم.

لقد أمطرنا الكاتب بغزارة العمق في الأسئلة التي أثارها، ممّا جعلها تفتح أمامنا إجابات واقعيّة كقوله: مواطن بلا وطن..وزير بلا وزارة، سجين بلا تهمة من أنا يا أبي؟

وحينما أثار عدة أسئلة ( أين انتم يا شعوب العالم ؟ لا صوت لكم ..أيّ قادة ؟ ذات الشيء يحرمونه على العراق ويبيحونه لاسرائيل ...أسئلة تدور حول السّياسة والقادة والمصالح العالميّة وسخط الزّعماء على الشّعوب، أراد الكاتب أن ينمّي في النّاس روح التّحرّك، وأن لا يغطوا في سبات عميق، وأن لا ينتصروا لأحلام مدسوسة، وأن يحطمو تلك المرآة التي تزوّر الحقائق وتلغي وجودهم.

نهاية الرّواية كانت مؤلمة كألم هذا الشّعب، حشد من الجنود يقتحم المنازل وينزلون غضبهم على أهالي المطلوبين، ويحطّمون ممتلكاتهم، يشرّدونهم إلى الجبال حيث يتعانقون مع الأسود ليتعلموا فنون القتال والمهارات العسكريّة. وهنا يبرز الرّاوي تحدّيات الشّعب ومواجهاته للأحكام الجائرة، أمّا جرعوش فقد قبض عليه وسجن وعُذّب؛ لأنّه يوزع المؤونة على فقراء المخيّم.

اعترافات جرعوش على التّهم الخياليّة كانت ليتخلّص من التّعذيب الوحشيّ، الكاتب يتحدّى من جديد، ويعدنا أنّه سيخبرنا بأيّ جديد إذا أمطرت سماؤنا الجافّة بأيّ جديد. ولكن يعدنا أن يكون فرحا عوضا عن الأحزان، وعدلا عوضا عن الظّلم، وحرّيّة عوضا عن العبوديّة.

لقد غطّت صور المعاناة والألم التي تتجدّد في حياة الفسطينيّين معظم صفحات الرّواية، فلقد صوّر حال الهارب وحال المشرّد، وحال من تهدّم بيته، ولجأ الى الجبال، وحال المقاومين والسّجناء الذين لا ينحنون ولن يهزموا، بالرّغم من أمعائهم الخاوية وحلوقها التي تشتاق للماء النّقيّ الممنوع، وأجسادهم التي يحاصرها البرد وأحلامهم التي تتقطّع..وعن ذلك ردّ الكاتب باصرار أنّنا سنتعلّم ونعلّم الآخرين فنّ الممكن من المستحيل، ونعلّمهم كيف يُهزم الظلم أمام الحق.ص٤٥١. لا شكّ أنّ رواية الهروب تضيف إلى الرواية الفلسطينيّة بعدا تاريخيّا وسياسيّا متمثّلا في المجتمع الفلسطينيّ القابض على جمر التّرحال والاغتراب والمقاومة، لذا من الممكن اعتبار رواية الهروب كمصدر أدبيّ يعالج فترة مهمّة من أدب المقاومة الفلسطينيّ.

وكتبت نزهة أبو غوش:
الايقاع في رواية الهروب:
في روايته " الهروب" نهج الكاتب سليم دروب، أن يسرد روايته بإِيقاعات مختلفة:
الايقاع الزّماني:
ابتدأ الكاتب روايته بإِيقاع بطيء يسرد فيها أحداث شعب عانى ويعاني من سلطة الاحتلال، على لسان إِنسان قضى ستّ سنوات من عمره بمصحّة نفسيّة، ظلمًا.

بدأت الأحداث منذ ذلك الزّمان الّذي سكن فيه المستوطن الاسرائيليّ داخل القدس القديمة، قريبًا من الأقصى؛ حيث التجأ هاربًا من المصحّة إِلى أيّ بيت مقدسيّ، فوجيء بمستوطن يفتح له الباب، حينها كانت صدمته الكبرى.
تطوّرت الأحداث، حيث قُطعت رجل صابر، بسبب تعفّنها لكنّ إِيقاع الزّمن ظلّ غير بعيد.
كان الزّمان يعلو ويهبط في رواية الكاتب. نلحظ بأنّه كان يسير على الٌإِيقاع البطيء، وأحيانًا على الايقاع السّريع. من حيث تصوير الوضع في السّجن وفي المخيّمات، وعلى الحواجز؛ كانت تسير بشكل أبطأ، بينما يتطوّر الوصف وتتسلّق اللغة وتتدحرج بين السّطور لتعبّر عن المآسي المتعدّدة من زمن الانتفاضة الأولى، إِلى ما بعد سلام أوسلو.
امتدّ الزمن حتّى منتصف الرّواية تقريبًا حيث وجد صابر طفله المفقود.

أمّا الأحداث العالميّة، فنلحظ بأنّها جاءت بإِيقاع سريع جدًّا، واعتبرها الكاتب وكأنّها وسيلة تخدم الفكرة الأساسيّة، وهي القضيّة الفلسطينيّة المتشعبّة الخيوط؛ نحو أحداث المركز التّجاري العالمي في نيويورك. كذلك حرب بوش في أفغانستان، وحرب بوش الثّاني على العراق، وغيرها.

أمّا بالنّسبة لنقاط التّفتيش على الحواجز، فكانت تسير بإِيقاعات مختلفة، حيث تسهّل الأمور أحيانًا فيدخل صابر الحاجز دون سؤال، هذا لأنّه ركب في شاحنة الحمير. وأحيانًا كان يقف الزّمن لدرجة وصف الكاتب المسافة الجّغرافيّة من الحاجز حتّى رام الله، كأنّها المسافة من باريس لرام الله.

الايقاع في الرّواية قدّم لنا الصّورة الكئيبة الّتي حدّقت طويلًا بالانسان الفلسطيني المتأرجح ما بين الحواجز والمعابر والأسوار الاسمنتيّة العالية، والسّجون، ومنع التّجوال.

لم يتوقّف إيقاع الموت عند الكاتب دبور في روايته الهروب، إِذ نجد بأنّه قد امتدّ من أوّل الرّواية حتّى نهايتها بنفس الايقاع، متذبذبًا بين الأحداث القويّة فترة الانتفاضات: الأولى والثانية؛ وبين الأحداث اليوميّة والمواجهات مع العدوّ المحتلّ. على الحواجز وداخل المدن والقرى.ِ كان ايقاع الحزن والمرارة والألم مرتبطًا بإِيقاع الموت حاضرًا في كلّ زمان ومكان من الوطن.

إِيقاع حركة البطل صابر العبثيّة في الرّواية، تأرجحت ما بين حياته سجينًا: في المصحّة، وسجينًا بين الزّنازين الاسرائيليّة، وسجينًا في المجتمع، وسجينًا داخل نفسيّته. حاصره الجتمع من كلّ جهة وعامله كإِنسان مجنون هارب من المصحّة، أو كانسان ضائع متشرّد، شحّاذ، يتلقّف اللقمة من هنا وهناك، يبحث عن ابنه الّذي فقده إِثر حبسه بالمصحّة.
أمّا السّجن النّفسي الّذي عاشه صابر، فهو أصعب بكثير من كلّ هذه السّجون، حيث قتلت زوجته على الحاجز أثناء المخاض؛ ممّا سبّب له ألمًا نفسيًّا عاش معه طوال حياته.

أمّا الايقاع السّياسي لأحداث الرّواية فقد تزامن من خلال لغة الكاتب بالأحداث المجتمعيّة: الأعراس، الأفراح والأتراح والمصائب، والموت و....غيرها، كان للإيقاع السّياسيّ تموّج واضح في رواية الهروب، الوضع السّياسي المفروص من قبل المحتل،: سيطرة وعربدة وعنجهيّة، وتخريب بيوت وتدميرها، وتدمير الشّجر والحجر، المدارس، المستشفيات.
الوضع السّياسيّ الّذي يحمل شكلًا آخر في الرّواية، هو الوضع السّياسي الفلسطيني، حيث وضعه الكاتب سليم دبور تحت المجهر، حلّله ونقده بقسوة: نقد المحسوبيّات، نقد عمليّة السّلام الفاشلة، نقد ضعف السّلطة، الاهمال والتّسيّب. نقد موقف الدّول العربيّة السّلبي تجاه ما يدور في فلسطين.

إِنّ استخدام الكاتب للّغة المنسابة العفويّة، ولغة السّخرية ساعدته على التّوازن في الايقاع الرّوائي بشكل عامّ.
وقال نمر القدومي:

أحاول قراءة سرّ الواقع والخيال، والنّوم الطّويل الخالي من الأحلام وأزيز الرّصاص، أبحث عن السّيادة في ترويض الأقوى وصولاً إلى نشوة الإنتصار. هو الذي تمكّن منّا وحشرنا تحت تسلّطه .. هو ساديّ يُمتّعه التمزيق، وكفّ الوسادة على فم النّشوة وخنقها. في دراما فلسطينيّة نابضة، خرج إلينا الرّوائي "سليم دبور" بروايته الجديدة "الهروب" هذه الرّواية تُعيد إلينا لحظات الألم والبؤس التي عاشها معظم أبناء الشّعب الفلسطينيّ إبّان سنين الإنتفاضة الثّانية.

لم أعد أستطيع الخروج من ذاتي لكثرة تحليلي لما يدور في هذه المنطقة من أحداث ودمار وخراب، يُصيب فقط الشّعوب الضّعيفة المُتآمر عليها. أمّا على هذه الأرض فقصص أهلها كثيرة وكبيرة ومؤلمة، فقد إختار الكاتب حكايته الإجتماعيّة السّياسيّة الدّراميّة الحافلة بالأحداث المفصّلة، والتي تدور على محاور عديدة، شخصيّات رئيسة وأخرى ثانويّة، بأسلوب السّرد الرّوائيّ والحوار المكثّف، حكاية أبناء المخيّمات والقرى الفلسطينيّة ومقارعتهم للّحياة أيّام المدرسة والجامعة بحثا عن الأعمال الشّحيحة، وبناء المستقبل كسائر شعوب العالم. لكن يبدو أنَّ العالم نسي أو تناسى أنَّ هناك شعبا واحدا ووحيدا لا زال يجثم تحت نير الأحتلال، كما يُشير الكاتب، وأنَّ هذا الإحتلال يعيث في الأرض والجسد والنّفس فسادا مريرا لا يقاس بالمكاييل.

دمج الرّاوي مجريات روايته بالتسلسل التاريخيّ لأحداث الإنتفاضة، كسرد موجز لأخبار الوطن آنذاك من إقتحامات وتدمير وإغلاقات، ومحاصرة شعبنا في مدن الضّفة الغربيّة والقرى والمخيّمات. دمجها مع بعض الحكايات المجتمعيّة وحياة الأفراد والعائلات وصنوف العذاب، التي طالت حياتهم وبيوتهم، وذلك بأسلوب عاطفيّ أثار لدينا مآسي ما عانيناه ورأيناه. الكاتب "سليم دبور" إبن الزّمان والمكان، إبن مخيّم الجلزون الصّامد، عاش جميع لحظات روايته بصدق وواقع حقيقيّ، أحيانا كان يتنقّل بنا بلغة سهلة مع توتير أعصاب عالٍ، وأحيانا أخرى عَبْرَ سيارة إسعاف تحمل شيئا ما، مريضا أو ميتاً\ أو خبزا، وربما يكون عريسا وعروسه في أوج زينتهما؟ وضع الكاتب لنفسه الأدوات المساعدة الكثيرة لضبط مجريات الرّواية، بعضها كانت غير مُقنعة، والبعض الآخر كانت تحت قاعدة "الضّرورات تبيح المحظورات". نظرا لطول الرّواية وتعدّد شخصيّاتها، كان تقاطع خطوط الأحداث كثيرة ونتائجها متناثرة ومترامية الأطراف. وعليه كان على الكاتب أن يتدخّل لوضع حدّ لنزيف التّشتت الذي قد يصيب القارئ للرّواية. أمّا إذا تكلّمنا عن عنصر التّشويق، فكان في البداية كبيرا ومثيرا، لكن مع الإقتراب من أحداث النّهاية، أصبحت توقعاتنا للنّتائج وإستباقنا للأحداث صائبة، وهذا بالتالي قد يكون خللا بسيطا في بناء الحبكة الرّوائية؛ تأكدنا أخيرا أنَّ "صابر" و "جرعوش" و "أيوب" لن ينقطعوا لا من أكل ولا من أموال، ولا حتى من الحمير كوسيلة نقل، وأمورهم ستبقى سالكة طول أحداث الرّواية. بتر قدم "أيوب" كانت متوقّعة من ذِكر نوع الرصاص، أمّا تدفّق الدولارات على "صابر" و "أيوب" بشكل غير منطقيّ، وتداخل الحرام بالحلال في مسألة دينيّة لم يخرج بها الكاتب بحل ناجح ومُرض. ومسألة سلب "نضال" للملايين من الدّولارات بسبب الوكالة التي يمتلكها، فكانت متوقّعة وواضحة جدا. بينما العودة لنقطة الصّفر والتّشرّد في نهاية الرّواية، فهذا المصير المحتوم ضمن الكبت السياسيّ والإجتماعيّ القائمين.

أحدثَ الكاتب "الدبور" فجوة إجتماعيّة سلبيّة تُثير الكراهيّة والحسد بين النّاس، حين أدخلَ مسألة الرأسماليّة داخل المخيّم بإعتباره شعب مثاليّ، وهذا أيضا يصبّ في عالم الخيال ويخمد لهيب العاطفة المتأجّج داخل قلوب القرّاء تجاه المخيّمات.
إحتوت الرّواية على نصوص بلاغيّة قويّة المعنى والمضمون، تأخذ القارئ للبحث عن مكنون المعاني التي يرمز إليها الكاتب، الست سنوات لم تكن عبثا، فهي سنوات المخاض في الإنتفاضة الأولى تُسفر عن حمل واهم وولادة كاذبة. الكثيرون مثل "صابر" تماما يودّون وبلهفة العودة إلى المصحّة وإنهاء المسرحيّة الهزليّة المُشبّعة برائحة دم الأبرياء. أفاض الكاتب من خلال الشخصيّات بما يجول في نفسه وخاطره، فصرخ بصوتٍ كاتم يُسمع به فقط الأموات، ويناجي فيهم وطنيتهم وتاريخهم وإيمانهم المساعدة في نَيل أدنى حقوق العيش بكرامة على تراب الوطن. تزيّنت الرّواية بالصور البلاغيّة الجميلة، ومعاني المفردات العميقة الهادفة، تلك الرّموز الفنيّة المؤلمة هي نتاج حصاد سنين المعاناة من الإحتلال الأول مدعوما بإحتلال ثانٍ؛ فلو كان الحمار يملك ذرّة عقل لأدرك أنَّ كلينا مُستهدف من قِبل الوحوش البشريّة، ولن نتحرّر أبدا إلاّ إذا أنصفنا بعضنا، وتوقّفت الكلاب عن النباح أثناء سير القافلة.

تساؤلات فلسفيّة كثيرة يطرحها الكاتب في الرّواية، وتبقى إجاباتها مُعلّقة تَبَعا للظّروف المُتغيّرة على أرض الواقع. فالسّياسة لعبة يُسيّرها مُهرّج محترف، يُجيد الرّقص على الحبال ويمزج العجل بالقدم بالصوت بالإنسان، ويصبح أمرا واقعيّا لا يفهمه أحد. أمّا الحديث المتواصل مع أموات غائبين حاضرين، إنما رمز عظيم ودروس في الإنسانيّة التي انفرد بها فقط شعبنا المناضل.

يراعكَ الجميل أيها الكاتب "الدبور" كان بمثابة ذلك التّنويم المغناطيسيّ العاطفيّ الذي ضرب الدّمعة من سباتها، ونفّض المشاعر من معاقلها، وسلب الرّوح إلى حيث تهيم الأحلام في سمائها .. (الهروب) يا أديبنا كان من المخيّم إلى المخيّم، من الحلم إلى الكابوس، من الضّياع إلى الفقدان ومن وجه الأرض إلى القبر؟
وقالت رائدة أبو الصوي:
.
استطاع الرّوائيّ أن يخرج بعمل عظيم، استطاع أن يوثّق أحداثا تاريخيّة، ويصيغها لنا في صورة رواية أعتقد أنّها قدّمت رسالة للأجيال القادمة .

الرّسالة التي حملتها الرّواية هي ضرورة الصّبر والتّمسك بالأرض .
أحداث الرّواية التي تدور في 451 صفحة فتحت النّوافذ على حقائق لا يقبلها شرع ولا دين .
الرّواية فيها من الكثير من الرّموز والصّور التي تعطي القاريء فرصة للتّحليق في الفضاء ومراجعة حساباته .
الهروب أنواع، وكلّ شخص منّا يحتاج في بعض مراحل حياته للهروب، ربّما هروب من نفسه ومن روحه، هروب من واقع اقتصاديّ سيء، وواقع اجتماعيّ سيء .واقع سياسيّ سيء.
بطل الرّواية صابر كان يعيش تحت أقسى أنواع وصور الظّلم .
بداية الرّواية هرب من نفسه ... تاه في مستشفى الأمراض النّفسيّة والمجانين.
هروب صابر من المستشفى .

اختيار الرّوائي لرقم 6 سنوات ترمز للغز؟واختيار عدد المجانين 9 سنة حكومة.
في الرّواية كلّ حدث يحمل في داخلة مأساة .
حكم كثيرة موجودة في الرّواية، ومن بينها تصرف (جرعوش) عندما بنى العلاقة في المغارة مع القطط حتى تحميه من الأفاعي. من هي القطط ومن هي الأفاعي؟
الرمزية قوية جدا في الرّواية .
قطع قدم صابر وتحليل قطع القدم إذا كانت فاسدة، لماذا تحسب على الجسد، تشبيه علاقة قدمه بباقي جسده كعلاقة الزّعامة العربيّة بالقضيّة الفلسطينيّة .
استخدام الأدعية الدّينيّة في الرّواية والتّوكّل على الله سبحانه وتعالى وتكرار البسمله والحمدله والحوقله .رواية من العيار الثّقيل .

عشق صابر لتراب الوطن وتمرّغه بالتراب والشّعور بالأرتياح عند قيامه بهذه العادة .
عرض الرّوائي مشاكل كثيرة يعاني منها المواطن الفلسطينيّ، ومن أهمّها البطالة والفقر والجوع، صابر يمتلك شهادة جامعيّة لكنّه لا يمتلك فيتامين (و) كان عاطلا عن العمل .هارب من مصحّ الأمراض النّفسيّة وفقير.
عشنا مع صابر مرارة الفقر والألم والمعاناة .تناولنا الخبز اليابس في بداية الرّواية وشعرنا بالألم عندما تغير اسم صابر الى (جربوع) وهنا وقفة عميقة .
سجل أنا "جربوع" استطاع الكاتب أن يجمع بين أبطال الرواية بطريقة تدل على غزارة الاطلاع والمعرفة بأدق تفاصيل الأحداث .طرح مختلف القضايا في رواية واحدة .
هذه الرواية تستحق أن تتواجد في مختلف المدارس الفلسطينية حتى يعرف الطلاب معنى الصبر .ومعنى التمسك بالأرض .
الأب صابر والأبن صابر وأيوب صابر .
الهروب في وطننا نهرب من أنفسنا لنجد الوطن ونهرب من الوطن، لنجد أنفسنا الوطن والروح والنفس ثلاثي لا ينفصل.
أمّا هدى خوجا فقد قالت:

الهروب هروب وبؤس واستسلام وظلم، أم هروب من حكايا الحبّ والموت والعتاب والذّّكريات،هروب من حياة أم واقع مرير.
"لا أحد يحسّ بصابر إلّا صابر " " أعيدوا لي صغيري " أعيدوا لي دلال"ص9 الهروب
عبارات من الرّواية ستبحر في مكنوناتها لحلّ الألغاز المتراكمة في الهروب، لتجد الكاتب
" سليم دبور "يعرّج على قضايا تربويّة اجتماعيّة تعليميّة اقتصادية، ليحلّل القارئ حكاية الأرض الممكن والمستحيل، الظّلم والعدل.
ومن الواقع المرير الفساد الإداريّ، والشّح الإقتصاديّ وهجرة العقول والشّباب، وعدم احتضان الإبداع، ومحاربة الأفكار الخلّاقة، ودخول ما أسماه الكاتب فيتامين ( واو) الواسطة والمحسوبيّة؛ في التّدخل في التّعيينات الإداريّة والأكاديميّة، حيث كان تقدير صابر وأيوب في الجامعة امتياز، ومع ذلك صعوبة الحصول على وظيفة متلائمة مع الاختصاص والتّقدير،
اتّسم الوصف في الرّواية بعمق وجمال وإبداع، لتجسيد الصّورة للقارئ.

ركّز الكاتب على شهر أيلول ورمضان المبارك والخريف كخريف العلاقات، وكان لمحبة دلال أثر واضح في الرّواية، لما يتخللها من محبّة للأرض وفدائها؛ والتّمرغ بأجمل الملابس البيضاء بتراب الأرض الطّاهرة المباركة؛ وعمق المشاعر الجيّاشة؛ ومنها قول صابر"تذكرت الشّعرة فأجهشت بالبكاء"ص44 الهروب"بتمسك صابر بشعرة دلال ووضعها في سبابته؛ دلالة على عمق الإخلاص والمحبة بالحياة والموت،" أردت أن أتمرغ بالأرض الّتي تضم أجساد أحبتي " ص51
جمع الكاتب بين الطّفل والمرأة والشّاب والشّيخ، فالطّفل يفكر كرجل والرّجل كشيخ طاعن بالسّن، من فرط التّجارب ،والمرأة السيّدة في الإخلاص والأنثى في الاحساس. تشويق بين مرارة وألم يمرّ الحدث، والذّكريات تتوانى، تشابيه وارتباطات بين بكاء وضحك، دموع وابتسامات، مثل (ترمس مثقّف)، المضحك المبكي حيث قام صابر بتصوير مئات من السّيرة الذاتية للبحث عن وظيفة، وأصبح بائع ترمس متجول في تغليفه بسيرة بامتياز، لاثبات الواقع الأليم الّذي يمر به شباب الوطن، وتهميش جهة الشّباب المتعلّم؛ حيث كان لجانب الشّباب الجزءالأكبر من الرّواية؛ لأنهم شعلة التّغيير في المجتمعات.

احتوت " الهروب " على عدّة شخصيّات أساسيّة وثانويّة مع التّركيز على شخصيّة صابر وأيّوب وحنان؛ وطيف دلال، وصابر الّذي اتّخذ عدّة مسمّيات من النّاس؛ منها الغريب وجربوع والمجنون وماجد.
أشار الكاتب إلى أنّ الإعاقة بالفكر وليست بالجسم، فقد صابر عينه اليمنى وبترت ساقه، وفكره ينير ويتألّق، أسهب الكاتب في العرض في الرّبع الثّالث قبل الأخير من الرّواية، حبذا لو تمّ الاختصار قليلا.
برزت عدّة أماكن في الهروب، منها القدس، رام الله، مخيّم الجلزون، مخيّم جنين، البيرة، ونابلس. وأخيرًا سنقيم طقوساً للتّمرّغ بالأرض وصعود الجبال، ومعانقة السّماء وشعاع الشّمس، بثوب أبيض بعطر العنبر.
شارك في النّقاش عدد من الحضور منهم: محمد عمر يوسف القراعين، طارق السيد ورشا السرميطي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى