الخميس ٤ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم جميل السلحوت

اليتيم

ممّا لا شكّ فيه أنّ رحيل والدتي مساء الجمعة 22 كانون ثاني-يناير- 2016 شكّل علامة فارقة في حياتي، بل سيشكّل تاريخا أيضا، قبل وفاة الوالدة وبعد وفاتها، ومع أنّي تجاوزت السّادسة والسّتين ببضعة شهور إلّا أنّني أشعر باليتم حقيقة كما الأطفال الذين يفقدون أحد والديهم أو كليهما، ويبدو أنّني كنت طفلا أمام والدتي، تماما مثلما كانت هي الأخرى تعتبرنا "أولادا" ورحم الله من قال "اليتيم هو يتيم الأمّ" فالأمّ عماد البيت، ومظلّته التي يستظل بها الجميع. وحسرتي على كلّ انسان فقد والدته وهو طفل، ولم يتذوّق حنان الأمومة كما يجب، هذا الحنان الذي تعطيه الأمّهات بلا مقابل، ويحتاجه الأبناء مهما بلغوا من العمر، وإذا كان عطاء الأمّهات بلا حدود، فإنّهن على استعداد دائم بأن يفدين أبناءهنّ بأرواحهنّ، وهنا أستذكر ما كانت تقوله والدتي لي ولأشقّائي وشقيقاتي وأبنائنا الذين هم أحفادها:" ليت يومي قبل يومك يمّه" و" إن شاء الله ستدفنني بيديك يمّه" و"يا ربي لا تذوّقني طعم لوعتك يمّه". فهل هناك من يتمنى الموت فداء للآخرين غير الأمّهات؟ وهل هناك من لا يحتمل لوعة الفراق الأبديّ غير الأمّهات؟ وهل هناك من يتمنّى أن يدفنه الآخرون بدلا من أن يدفنهم هو غير الأمّهات؟ وهل هناك من يحمل هموم الآخرين أكثر ممّا تحمله الأمّهات من هموم أبنائهن؟ فلله درّك يا أمّي الرّاحلة، ولله درّ الأمّهات كلّهنّ!

وها هي أمّي ترحل بهدوء وهي بكامل قدراتها العقليّة، رحلت وهي تفتقدنا فردا فردا، ذكورا وإناثا، حتّى أشقائي داود وراتب وابني قيس المغتربون في أمريكا لم تنسهم حتّى وهي تودّع الحياة، وطلبت أن تسمع أصواتهم، فكلّموها من خلال الهاتف...سمعت أصواتهم وابتسمت لهم وأمطرتهم بوابل من دعوات الرّضا، والأمنيات لهم بالصّحة والعافية والتّوفيق، سمعتهم ودعت لهم وهي تعاني سكرات الموت، أبدت رضاها واعجابها بلينا ابنة حفيدها قيس البالغة من عمرها ثمانية شهور، تبادلتا الابتسامات، حدّثتنا عن اعجابها بلينا، وتمنّت لها عمرا مديدا وصحّة جيّدة وحياة هانئة في ظلّ والديها، سألت عن اخوتنا الآخرين "محمّد، أحمد وجمال" فهل هذا الحرص على الأبناء والأحفاد في السّاعات الأخيرة من العمر يحصل من غير الأمّهات؟

تعود بي الذّاكرة إلى عشرات السّنين السّابقة، وأستذكر كيف كانت تشقى وتسهر وتجوع وتبرد من أجل أن تسعدنا، وتنيمنا، وتطعمنا، وتدفئنا، لم تتذمّر يوما أو تتأفّف وهي تقدّم لنا ما تقوى على تقديمة. تعود بي الذّاكرة عندما كانت تجلسني بحضنها وتطلب منّي أن أقرأ لها درسي، لترى إن كنت أحفظ دروسي أم لا! تستمع لي بانتباه، ولم أعلم أنّها كانت أمّيّة لا تجيد القراءة والكتابة إلا في سنوات لاحقة، فأكبرت فيها هذا الحرص وهذه الرّعاية.

أتذكّر كيفت رعت أبناءنا أكثر من رعايتنا نحن وزوجاتنا لهم. وكأنّي بها تواصل مهمّتها أُمّا وجدّة، وتجد متعة في ذلك.
أتذكّر كيف كانت تتحامل على نفسها بعد أن أصيبت بتآكل مفاصل الرّكبتين، كي تخدم نفسها بنفسها، لم ترد الاثقال على أحد منّا. وممّا يواسيني أنّنا لم نبخل عليها بشيء نستطيعه، حرصنا على علاجها وتوفير كلّ ما نستطيعه لتوفير الرّاحة لها، لكنّنا لم نردّ لها جزءا ممّا قدّمته لنا.

فلروحها الرحمة، ونسأل الله أن تكون في جنّات الخلود مع الأنبياء والصّدّيقين والشّهداء. وسنبقى ندعو لها بالرّحمة ونطلب رضاها حيّة وميّتة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى