الخميس ١١ شباط (فبراير) ٢٠١٦
سامي العامري

في بعضِ شذراته الساحرة

هـــاتف بشبــوش

من سيئاتي أني قلتُ لنفسي مرة:

القمرُ وردةٌ
رحيقُها الشعاع...
فسمعتني النحلاتُ والفراشاتُ
فما عادت تطيرُ إلاّ في الليل!
.........
بحلولكِ
حلَّ الخريفُ أيضاً!
لا تتعجَّلي....
حلَّ الخريفُ
فاستقبَلَتْهُ جميعُ أحزاني!
..........
مثلما النحلة حين تلسعُ المعتدي فتؤذيه ثم تموت
هكذا أنا مع شِعري،
أبقى ألسعُ به شرورَ العالم
وما أجملَني بعد ذلك
إذ أموت!
................
لتنهضْ من سريرك أيها الورد
فالفراشاتُ مازالت تنتظرك في الطابور
حاملةً صحونها!

الشاعر سامي أجده هنا قد تحول الى منحىً آخر في الشعر، المنحى العذب، حيث جعل من الشعر محاكاة دقيقة للطبيعة، وأسفارا الى جنة المعرفة الخيالية في تصرف الكائنات الرقيقة، وطقوسها الخاصة وأعراسها كما يحصل مع ذكور النحل وسباقهم الرهيب في سبيل تلقيح ملكة النحل، ومن يربح السباق فهو السبّاق في أن ينال منها وطراً جنسيا، ذلك الوطر الأول والنهائي والذي يؤدي الى موته بعد النكاح والتلقيح ( وهذا مايفسر لنا تلك المقولة الغريبة العجيبة... ومن الحب ماقتل ). آآآآآه الشاعر سامي كم هو جميلُّ هنا , هو لم يستنسخ الفراشات ولا النحل ولا القمر ولا الليل، بل هو جازمُّ بأن روحه ومزاجه هما اللذان قد تحكما في تلك اللحظة بالذات والتي وصفتْ لنا كل هذه الكونيات الطبيعية، فشعّ نوره من الباطن، وأهتزت الذات، وأثمرت دواخله، والاّ، لما إستطعنا أن نقرأ كل هذا الذي يستحق العناء واحترام الذات الشعرية البوّاحة بالجميل الرقراق. ولم لا، فهو شاعر الشوارع، بل هو ملكها، إستنادا الى ماكتبه يوما الناقد الدكتور عدنان الظاهر عن سامي وقال (حينما أرى سامي، فهو أما يقرأ في مقهى أو يمشي في شارع )، لنستكشف في السطور التالية عن حقيقة سامي:

أكتبُ
والليل يكتبُ.
الفارق أنَّ قلمَهُ البرقُ ودفتره سماءٌ بلا غلافٍ
أمّا قلمي فعمودُ ضياءٍ مطفأ
ودفتري شوارعُ
وغلافُه خُطى المشردين!

الشاعر الذي لايكتب عن المشرّدين، لايمكن له أن يرسم الخطى الصحيحة لأهداف الشعر، لايمكن له ان يحس بما عاناه الشاعر الفرنسي أراغون، لايمكن له أن يشعر بدوار الثمالة التي كان يجعل منها رداءً ليلياً المتسكع الأمريكي الشاعر ( أدغار الن بو)، الذي كان يكتب مسايرا الليل السكران والذي كان يرعد ويرعد في كل برقةٍ، حتى تجعل منه عمودا من الضياء، لكنه ذلك المطفأ حزنا وألما وتشردا , يكتب بيده المعطوبة، التي لاتستطيع حمل الكأس، لاتستطيع سوى أن ترص الكلمات، سوى أن تحمل الغلاف الدفتري كي يحفظ فيه كل ما يعتصر من القلب المشرّد في الشوارع والمدن الكريهة التي ماعادت تأوي شاعراً نيزكاً خاطفا كما حياته الخاطفة التي سرقها الموت على أعتاب باب الحانة الليلية. ثم يستمر الشاعر سامي في مملكته الضائعة بين الشوارع، بين الحب الذي يعيش في الخذلان القسري، أي حبٍ سواء إنْ كان موجهاً لحسناء هزّت قلوبنا في يوم ما، أم حب الوطن الذي بكينا عليه دما ودموعا، لنحدق ملياً ماقاله الشاعر حول ذلك:

على أيِّ لحنٍ
تودّعُ أشياؤنا أرضَها النَيِّرهْ ؟
وكيف تُصلّي
ووجهُكَ ولّيتَهُ صوبَ دجلةَ
هل تصطفي قِبلةً سائرهْ ؟!
أَعنّي
فاني وأَيمِ الشوارعِ في بوحها والمعابرْ
وأيمِ العذاباتِ
لاقطةً حَبَّها حيث جاع المسافرْ.

على سبيل المثال، هناك الكثير من الفتيات الجميلات اللواتي من المفترض أن يكوننّ على قدر كافٍ من نيل الأماني، ولكننا للأسف نراهن على طريق الحظ العاثر والسيء، والسبب في ذلك هو أنّ القدر يجعل منهنّ باحثات عن الحب الحقيقي، في الأماكن الخاطئة والرجال الخطأ، يديرنّ الرقاب صوب معابد الصلاة التي تبنى على الأنقاض والمزابل، بالضبط ما يحصل لدى شجرة اللوتس الطاهرة التي تنبت في الوحول، وإذا أردت ان تأكل ثمرها فلابد أن تكون هناك ضريبة الإتساخ، فكيف لسامي العامري الشاعر العذب، الشاعر الذي ودّع ماء دجلة وكأنه الماء القراح، ودعه بكل اللحون المؤلمة، ومهما دار وجهته، يمينا او شمالا، شرقا او غربا، يشتغل المدار الأوتوماتيكي الذي يعود بالرقبة الى أن تصلّي وفق قبلتها الأساسية التي ودعها هناك في ماء دجلة ولا زالت تسير مع السرمدية الحزينة التي لايمكن الخلاص منها، إنها مثل أضلعنا التي تحمي قلوبنا من الصدمات والكدمات والحظوظ العاثرة، فلابد لنا أيها القارئ أنْ ندفع ضريبة الذكرى التي تجرجرنا أنى كنا، تسحلنا سحلاً فوق الإسفلت حتى تنسلخ جلودنا، وعندها نستفيق على مراراتنا التي تقتلنا في اليوم الف مرة ومرة.

الشاعر مهما جار دهره عليه، ومهما ضاقت العبارة والأفق الفسيح، لابد له أن يلجأ الى الحب ولا غير الحب، هو الذي يجعل قلب الشاعر مستكينا من ملمات الأمور، الحبُ لا الكره والمناكفة من سمات الشاعر الحقيقي، وها هو سامي يؤكد لنا مانقوله في شذرته الرائعة الناضحة بالحب:

يطلُّ الصباح فارساً أشقر
على صهوة حصانٍ أشهبَ
وهو الذي سأرسله لك وسيطاً بيننا
كي يُشعلَ حبُّك كالكبريت أحراشَ قلبي العتيقة كلَّها
وعندها فقط سأعرف السلام!

حين لذ الأنسُ شيئا أو كما...هجمَ الصبحُ هجومَ الحرسِ
غارتِ الشهبُ بنا أو ربما....أثرتْ فينا عيونُ النرجسِ
هذا ماقاله في مضي التأريخ السحيق صاحب موشح الوصل ( لسان الدين الخطيب ).... النار والحريق في قلب العاشق جليّة في هذه الأبيات الرونق، والقلق الدوار الذي يجعل المحب وكأنه في إرجوحة الحياة التي تصعد به وتنزل، إعتمادا على حسراته وآهاته التي ستخمد حتما في الوصال , سترى السلام والراحة، مثلما استكانت القلوب حينما أثرت فيها نرجس العيون. حتما سيبقى الصهيل رمزا نستعين به أينما حلت بنا الضاقة، إنه العنفوان والحركة , إنه الإرادة اللامنتهية، إنه سباق الزمن، إنها الحياة التي لابد لها أن تتلطف علينا بلذائذ الأنس بين الآونة والأخرى، وهذا هو دوام الحال من محال الشاعر سامي، الذي يصر على الحب الذي يتخيلهُ لغزاً محيرا، إنه زفيره، وجناحاه، وسراجه المستنير، كما في هذه الأبيات الآتية:

قالت الشهقةُ: أنتَ الزيزفونْ
وانبرتْ فاختةٌ قائلةً،
أنتَ جناحايَ ومنقاري،
فصاحت غادةٌ: أنتَ ضيائي ونداءاتُ الجفونْ
وتدنّتْ لغتي هاتفةً: أنتَ حروفُ الجرِّ والناصبُ والجازمُ
والضمةُ والكسرةُ بل أنتَ السكونْ
قيلَ ما قيلَ
ولكنْ أيها الحُبُّ ستبقى لغزَنا الخالدَ فينا
وتعالى الحب عما يصفونْ!

الحب له صفة المطاطية المثلى، تسحبه , تعانقه , تناصبهُ الحب والوئام , تجاريه , تساكنه , تصرخ فيه , أو تكون في عالم السكون حيث الضمة الساخنة من تلك الغادة التي تصادفها ذات مكان (في الحيّ إستوقـَفتني غادةُّ/ قالتْ: تفضّل يافتى/هذي جنانُ الليلِ والسمّارْ/ قلتُ لها: أنا لـَستُ معنــياً بليلِ الترفِ/ أنا جنديُّ حقيرُّ , قادمُّ، من جبهةِ الفاوِ تواً ).
ثم ينطلق الشاعر من حبها الخالص النقي، الى حب الوطن الذي بات لعنةً بل أكثر من ذلك، من جراء النظام الرجولي والساسة الذين أغرقونا بالدماء منذ فجر التأريخ، وحتى اليوم، لنقرأ أدناه:

وطني ليس أكثر من عقوبةٍ
ألعنَ من تفاحة حواء
رغم أني أشك بحكاية حواء
فاغلب الظن أن آدم هو الذي أغوى حواء
فالامر كان وما زال بيد الرجل
ومن هنا الحروب
ومن هنا الكوارث!

هناك أوجه متعددة للعقوبات، كما في كتاب بدائع الزهور في وقائع الدهور، حيث يروى عن الملك الذي دخلت بعوضة في انفه وتغلغلت الى رأسه وبدأ في الحك, فطلب من خادمه أن يدعك له رأسه ففعل، ثم أستفحل الحك فطلب من الخادم أن يصفعه على رأسه ففعل، ثم استفحل، فطلب منه الضرب بالنعال ففعل، ثم القبضة , ثم الركل، وآخرها قال له خذ سيفا واشطر رأسي، ففعل حتى ظهرت الحشرة بحجم عصفور. هذه القصة الأسطورية تضرب للموعظة فقط، إذن لنقيم اللعنة على رجال ساستنا، فهم من يديم الحروب والكوارث، هم من يشيّدون السجون، هم من يقتلون الحرية، هم من يجعلون الإنسان عبدا لعبوديته، وكيف لا، ونحنُ نجد الشاعر سامي يؤكد لنا ذلك في شذرتهِ الأخيرة الرائعة من قراءتنا هذه، والتي تنتمي الى دروس الفلسفة أكثر من كونها شعراً وأدباً:

مِن الحرية أنْ تجعلَ السجّانَ
يشعر بأنه سجين
ومِن العبودية أن تخرج من السجن
حاملاً قضبانَهُ.

هناك من العبيد كانوا يعملون ضد ما أراده إبراهام لنكولن في تحريرهم من العبودية. جاكوب الأسوَد تم خضوعه للعبودية منذ طفولته حيث بيع الى تاجر هولندي ودرسَ اللاهوت إجبارا وأصدر كتابا يدافع فيه عن العبودية، فعاد الى بلده أشد غربة. محمد كرا وصل الى قمة مناصب حاشية السلطان في دارفور , فقام يخصي نفسه ليدفع عنه تهمة خيانة سيده السلطان تيراب، فأي عجبٍ هذا، وأي ظلم نعيش في هذا الزمن المخادع.
أخيرا أقول أن الشاعر سامي مضى شوطا كبيراً على اعتباره شاعراً فحلاً، شاعراً لايمكن تجاوزه اليومَ وغدا وما بعدِ غد، إنه الشاعر الذي لاينضب في المدادِ والتخيّل.

هـــاتف بشبــوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى