الثلاثاء ٩ شباط (فبراير) ٢٠١٦

قراءة في مجموعة «ندوب» لميمون حِـــرْش

عبد الرحيم التدلاوي

صدر حديثاً عن مطبعة رباط نيت لسنة 2015 المجموعة القصصية في جنس القصة القصيرة جدا تحت عنوان "نــدوب" للقاص والناقد ذ. ميمون حرش،وقد تكلف بالطبع جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون. ليس من باب المبالغة إن قلنا إن القصة القصيرة جداً جنس زئبقي يتحدى القارئ المستعجل والظان ظن السوء أنها كتبت على عجل، ويمكنها أن تستهلك على عجل، بل لابد من إعمال الذهن، والقراءة المتعددة عسى بلوغ منفذ لتحقيق دلالة ترتضى. إنها جنس يتحدى القارئ وبخاصة الذي ارتكن للحل السهل وهو الرفض، تتحداه، من خلال نماذجها القوية، وتراوغه، وفي كثير من الأحيان تباغته بما لا يتوقعه، وفي ذلك دعوة لإعادة تنظيم معلوماته، والخروج من أفكاره المسبقة بتجديد أدواته، والتعامل معها بما تستحقه من اعتبار، فليس هناك قالب واحد للإبداع، وأن السرد لا يني يتوالد، ويتخذ لنفسه صيغاً جديدة، وبذلك تتعدد ألوانه.

وعلى كل حال، ما ينبغي أن تُتخَذ الكتابات الرديئة في هذا المجال ذريعة للطعن في هذا الفن، والانتقاص منه؛ كما يفعل بعض المبدعين والنقاد، ممن لا يستسيغون هذا الفن، ولا يعترفون بمشروعيته وجدواه، هذا، وتتمثل سمات القصة القصيرة جداً في الإدهاش، والإرباك، والاشتباك، والمفارقة، والحكائية، وتراكب الأفعال، والتركيز على الوظائف الأساسية دون الوظائف الثانوية، والإقبال على الجمل الفعلية، والتكثيف، والتلغيز، والتنكيت، والترميز، والأسطرة، والانزياح، والتناص، والسخرية، وتنويع صيغ السرد القصصي تهجيناً وأسلبة ومحاكاة، وتصغير الحجم أكثر ما يمكن تصغيره انتقاء وتدقيقاً وتركيزاً... يُعَد القاص ميمون حِرْش أحد الكتاب المغاربة المتميزين في مجالي القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً. فقد أصدر أول مجموعة قصصية قصيرة بعنوان "ريف الحسناء" عام 2012م، وضمنها عشر قصص قصيرة جداً في نهاية الكتاب. ثم أصدر مجموعته الثانية المنتمية إلى جنس القصة القصيرة جداً عام 2013م، طباعة مطابع الرباط نت، بعنوان: "نَجِي ليلتي"، ووضع ضِمْنها تلك القصص العشر الواردة في "ريف الحسناء". وقد كتبت نصوص هذه المجموعة الثانية ما بين 2012م و2013م، وصدرت ضمن منشورات المهرجان العربي الثاني للقصة القصيرة جداً بالناظور رقم - 3-. وقامت الفنانة خديجة طجاوي برسم غلافها الخارجي. وتضم المجموعة ستاً وثمانين قصة تتراوح أحجامها بين أربعة أسطر؛ كما في قصة "لا يستويان"، وتسعة عشر سطراً؛ كما في قصة "العانس"، التي تعد أطول قصص المجموعة، وتقع في صفحة ونصف من الحجم المتوسط. ثم أصدر مجموعة ثانية، تحمل العنوان التالي: "ندوب"، وتشتمل على 120 نصاً، مشفوعة بتقديم مهم للدكتور جميل حمداوي، بمثابة دراسة تناولت الجانب الفني للمجموعة، وقد تمددت النصوص على مساحة نصية كبيرة، من ص 20 إلى ص 139. وفي حين تضمنت الصفحة 140 عناوين المجموعات التي أصدرها، أو شارك فيها، متبوعة بفهرس. والملاحظ أن أغلب عناوين النصوص كانت بكلمات مفردة ذات منحى اسمي، مما يعني غلبة الجمل الاسمية ذات الميل إلى الاستقرار والسكون، وهو المنحى الغالب على المجاميع القصصية العربية قصيرها وطويلها. وتتسم المجموعة بالغموض الفني المقصود، والتكثيف اللغوي المختزل، وتوظيف الغرابة التي أساسها اللامعقول، والذي يتجلى بادئ ذي بدء في العنوان الخارجي، حيث جاءت المجموعة موسومة بـ"ندوب".

العنوان/ مدخل أساسي لتأويل النص:

يعتبر العنوان عتبة أولى لأي نص كيفما كان نوعه أو جنسه، حيث يمثل المدخل الأساس لفهم النص أو على الأقل لتكوين رؤية شاملة عنه. وقد يكون العنوان في بعض الأحيان غامضاً ولا يقدم شيئاً للمتلقي لحل شفرة النص، لكنه يبقى هو العتبة الأولى لهذا النص. جاء العنوان كلمة واحدة جمعا مفردها ندبة، يشكل جملة اسمية محذوف أحد أركانها، وهو المبتدأ، تقديره: هذه، مع إمكانية إلحاق ياء النسب لندوب، لتعبر عن محنة الكاتب ومحنة الكتابة في آن، ولعل الحذف كان بمثابة دعوة القارئ إلى ملء تلك الفجوة، مما يعني كسابه حضورا في النصوص، وهو ما سنلاحظه في نص " ظن .." ص 32 حيث ينتهي بقفلة تتوجه بالحديث إلى قارئ محتمل، خصيصته أنه سيقرر المعاقبة ولا شك في حق الشخص وهو يتهم كل النساء بالعاهرات. وهي في مفردها تحمل بعد التأنيث، وهنا يطرح السؤال: ما علاقة الكلمة بالمؤنث ؟ ونميل في إجابتنا إلى تلك العلاقة الدموية كخيط رابط بينهما، بحيث إن فعل إسالة الدم ينقل المفعول به من حالة لأخرى، فالبكر تصير ثيباً، والمندوب يفقد صفاء جسده، إن الألم عنصر رابط، إن لم نقل لاحم، ففقدان البكارة في الجسدين أمر جلي، يترك أثره على مر الزمان، لا يمحي، علامته تظل واقفة بقوة تشهد بفعل عنيف وقع على الذات فأحدث فيها أثراً شديد الحضور. والألم يكون جسدياً كما يكون نفسياً، ونميل إلى أن النفسي هو الأكثر حضوراً وقوة، لكونه أنتج نصوصاً تسعى إلى محوه بتذكره.كما في نص"قبل البوح .." ص 20، وهو أول نص يصادفنا، ويحمل في طياته كلمة "ندوب" بالتعريف، والمتمعن في العنوان سيجد ولا شك أن كلمة: بوح، تحمل معنى المعاناة، والرغبة في إرسالها لمتلق معين بهدف تفهم الوضع، وفي الوقت ذاته، التخلص منها، إنها شكل من أشكال التطهر، فإخراج الألم بالتعبير عنه، يعد أهم مراحل الشفاء منه. كما أن النص يحفل بمجموعة من المفردات التي تصب في مجرى المعاناة، وتؤكد هذا الحقل، من مثل: حيارى، ومرضى، ومشروخة، ومكلومة. وهو معجم سيسود نصوص المجموعة، مؤكداً بذلك تلك الرغبة في الحكي، فخلف كل ندبة قصة، ينبغي أن تحكى، أن يقرأها الناس ليعلموا أن الكتابة معاناة، وتطهر في الآن ذاته.

"القصة القصيرة جدّا" نوع حكائيّ يمكن اعتباره النمط الأدبيّ الأكثر قدرة على تقطيع الواقع الراهن وتمثّل تفاصيله قصد بناء معنى له شعريّ يخفّف من ثقل الهزائم اليوميّة فيه. وتسعى القصة القصيرة جداً إلى التمرّد عليه بغاية إعادة بنائه بما يتماشى ومطامح كتّابها في تحويل واقعهم من مستواه الماديّ المحسوس إلى مستوى شعريّ مجرّد ومضغوط، حيث يصير بمستطاعهم تفتيت المعيش اليومي إلى أقاصيص قصيرة جداً تمثّل كلّ واحدة منها صورة أو مشهديّة أو سُرّة معنويّة، يُعنى فيه كاتبها بتحديد ملمح من ملامح ذاك المعيش ويبنيه سردياً. . فالقصصية القصيرة جدّاً، تمتح من عناصر الواقع مادّتَها وتغترف من أحداثه رُواءها ومغامرتها. كما أنها أصبحت تمتلك قدرة هائلة على تنصيص العالم ، أي جعله نصاً سردياً دالا ... يدهش المتلقي ، ويحقق لذة القراءة .. ولهذا تتجه القصة القصيرة جداً إلى اليومي بما يمتلئ به من تفاصيل وجزئيات لتبنيَ منها كينونة نصية ... ومجموعة "ندوب" تشتمل على مضامين قضوية، يتخيرها الكاتب من محيطه المعيش لتعركها ذائقته، بما تتوفر عليه من قدرة على دمج خيوط نسيجه القولي، وإخراجه في إهاب سردي يقوم على التلميح والاختزال والتكثيف. إنها قصص يتلقاها المتلقي ليس ليقرأها قراءة المتعة وقتل الوقت، بقدر ما هي قصص تتطلب من قارئها جهدًا مضاعفًا على الرغم من قصرها، والولوج في دهاليز مفرداتها، والبحث عن الرابط الخفي بين جملها، والعلاقات الدلالية في كل جملة سردية، أو وصفية نسجت خيوط القصة. و الملاحظ أن الهم السياسي والاجتماعي قد استحوذ على اهتمام الكتاب كلهم، فالمواطن العربي ذكراً كان أو أنثى صغيرًا أوكبيراً يعاني من هموم اجتماعية كثيرة، ومن قضايا سياسية متعددة ، على المستويين الداخلي والخارجي ، النفسي والمكاني ، وإذا كان الأمر هكذا فمن الطبيعي أن يكون الاهتمام منصباً على هذه الهموم والقضايا التي تشغل بال العربي وتؤرقه وتعرقل حياته ، وتعطل نظامه اليومي.

والقضايا التي عالجها القاص ميمون حرش في مجموعته كثيرة تمتد من الخاص إلى العام، ترسم دوائر صغيرة لا تني تكبر و تتوسع لتشمل في جبتها قضايا الوطن الصغير والكبير، واضعة الأصبع على ما يعتري هذه الخريطة من أدواء، وما يتخللها من أمراض، بغاية الشفاء منها. ومن أبرز تلك القضايا، نجد: الفقر والتفاوت الطبقي، والاستغلال، والتعدد، والعنف، والاستبداد ... يرصد القاص، بعين ثاقبة، الكثير من الظواهر السريالية التي تكتنف مشهدنا العربي، ظواهر عبثية تؤكد دوراننا في حلقة مفرغة؛ فها هي غزة تستصرخنا، فلا تجد فينا نخوة، نتابع اختناقها بكثير من اللامبالاة، فرغم الدم الأحمر السائل هنا، إلا أن سكان هذا الكوكب، هنا، غير مهتمين بالمطلق، يتابعون العنف على الشاشات وهم يتناولون مشروباتهم ويأكلون طعامهم وفستقهم، من دون أن تتحرك فيهم شعرة غيرة، ففي الصباح، يتأنقون، وينتشرون في الأرض، ويمارسون الحياة بلا أي شعور بالذنب :" دم بارد" ص36، لينتهي النص بإنزال اللعنة على مثل هؤلاء. إن الخطر يتمثل في هذه اللامبالاة التي يعلن عنها قطاع عريض من وطننا الكبير تجاه القضية الفلسطينية بما أنها قضية تهم الإنسان ككل، يهددها في العمق بحيث يترك الذئب وحيداً مستفرداً بقطيعه، بيد أن الإنسان الفلسطيني، من خلال تسطير ملاحمه النضالية بشتى الطرق، يؤكد أن صفة القطيع قد تركها للشعوب الأخرى، وبرهن على أن قيم الرجولة وعشق الحرية، تعد من أهم خصائصه، بالرغم من تخلي الأهل والأحباب عنه. هؤلاء الأخيرون قد حولوا القضية إلى بضاعة يتاجرون بها في المزادات العلنية. ص 63، مما دفع بحنظلة إلى الخروج من إطاره ليعانق أطفال الحجارة وهو يكتبون مجد النضال، وشرف المواجهة.

قضية الاستبداد:

لا يمكن لأي كاتب عربي أن يتخلص من طامة الاستبداد، وميمون حرش ليس بدعاً في هذا المجال، فقد أفرد للموضوع حيزاً من اهتمامه ومجموعته، فنراه يعلن بصوت مرتفع، أن الربيع العربي ليس ربيعاً بل خريف. فإبصار الرئيس المخلوع بين الجموع، تأكد للرائي أن الفصول ثلاثة فقط. ص 61. وفي صورة ساخرة يرسم لنا القاص في نص"مبارك" ص 21 سرابية الثورة، فهي لم تأت بالديمقراطية والعدالة، مادام أن الفرعون لم يرحل، إنه يتناسخ بشكل سريع، يمتلك من القوة ما يجعله باقياً لا يتزحزح عن كرسيه، يمتلك سلطان منع ومنح الحياة: "امنعوا عنهم "العيش"، واضربوا الجيش بالجيش ... كي أعيش ..." ص 37 ولا نملك، إزاء هذا الوضع السريالي، إلا أن نضحك، فشر البلية ما يضحك.

الوضع العربي:

بفعل الاستبداد، لا يمكن للوطن إلا أن يتفكك، ويصير دويلات، تتناحر فيما بينها، غير مهتمة بمصالحها الاستراتيجية الكبرى، فاسحة المجال للأعداء يفعلون بالأرض والشعوب ما يشاءون: "يا للعجب !... كؤوسنا من بطن واحدة .. وشاينا مختلف" ص 29.

أدواء المجتمعات العربية:

ومجتمع يخترقه الاستبداد لابد وأن يعيش العديد من الأمراض من مثل:
التفاوت الطبقي: كما في نص: "جاران" ص 40، فواحد منهما غني، فاحش الثراء، والثاني فقير ، الأول ينعم بطيب العيش، والثاني محروم منها، تظهر علامات فقره من لباسه، وجسمه، يعيش ذل الانكسار، وهو يتابع، بمرارة، ضيوف جاره في سياراتهم الفارهة. فأين التراحم والتساكن وقيم الجوار ؟ ذهبت سدى بفعل الأنانية والجشع.
الفقر:

ويرصد نص "فقير"ص 28 هذه الظاهرة التي بدأت تسيطر على مشهدنا اليومي، حيث نعثر كل يوم على نساء ورجال لا يملكون حتى ما يستر عوراتهم: القميص الذي لن يلبسه أبداً .. من بعيد يحصي أزراره .. بين الأول والأخير مسيرة عري .. "ص 28.

3. العنف:

في مثل هذا الواقع المرير، لا يمكن إلا أن يكون العنف سيد الموقف، بنوعيه، المادي والمعنوي. كما في نص"مافيا" ص 38، فالروح في مثل هذا الوضع لا قيمة لها، تذهب سدى بمجرد رغبة.

4.التخلف:

وعليه، لن يكون واقعنا العربي إلا موسوما بالتخلف لغياب المساواة والكرامة والعدل، وغيرها من القيم الإنسانية الإيجابية، نرى ذلك في نص"رقم قياسي" ص 126، فرغم كل المجهودات، لا يأتي الحصاد إلا بما هو سلبي: فسجلتني اللجنة في آخر القائمة .. مع صفة"عربي" الصفحة نفسها.

على المستوى الجمالي:

يعمد القاص إلى اللعب باللغة، والتلاعب بالألفاظ بهدف تحقيق الدلالة، حيث نجده يوظف كلمة واحدة ذات جرس محدد، مما يوقع في وهم القارئ بالجناس، بيد أنه في النهاية يحصل على طباق بمثابة مفارقة تفجر النص، وتحقق له الهدف المطلوب، فتخرج اللفظة من بعدها الدلالي الأحادي إلى بعد أعمق، ألا وهو التعدد. نلاحظ هذا في نص "الصد" ص 27، فقد تم توظيف لفظة واحدة، وهي: الصدمات، بيد أن السياق منح لكل لفظة معنى مخالفاً، جعلنا نقف أمام مفارقة صدامة، فذلك المعنى الذي تم شحن اللفظة به هو ما منح النص العمق، ووفقه في تحقيق الدهشة.، ولكي لا يبعد القارئ عن هذا المعنى، قام القاص بوضع علامة التضعيف على الصاد، وكان بإمكانه التخلي عن هذا، والسماح للقارئ بإعادة القراءة لإدراك أبعاد النص. فالنص يرصد حالتين متقابلتين أولاهما تصب في الثانية، والثانية هي نتيجة الأولى، فالبداية فعل، والنهاية نتيجة. فالنص بالرغم من أنه يتشكل من سطرين، فقد وضعنا أمام حالتين متباينتين، الأولى، فاعلها المحبوبة، فهي القائمة بفعل الصدمات، علماً، أن الصدمات، كثيراً ما تكون بغرض إعادة النبض للقلب، لكنها، هنا، بغاية قتله، وإماتته، أما الفاعل في الجملة الثانية، فهو القلب، الذي، بفعل تكرار تلقيه الصدمات، أدمنها، إلى أن مات، موته كان بفعل كثرة الصد، وهي وليدة الصدمات، فهذه الأخيرة هي التي تقف في وجه التواصل، تصد أي محاولة للاقتراب، لا تمنح للقلب أي فرصة للانتعاش، الأمر الذي جعله، في نهاية المطاف، وبعد إدمان، يتوقف عن الحركة، ويعلن موته حباً. هكذا يقوم اللعب بانزياح المعنى ومنح المفردات طاقة جديدة ترسم أبعاداً جديدة للنص، فتنعشه وهو الذي يعاني قصراً شديداً بفعل التكثيف، فاللعب عنصر فاعل في توسيع وعاء النص رغم شح الكلمات.

السخرية:

تقدّم السخرية صورة هجائية عن الجوانب القبيحة والسلبية للحياة کما يصوّر معايب المجتمعات، ومفاسدها، وحقائقها المرة بإغراق شديد حيث تظهر تلک الحقائق المرة أکثر قبحاً ومرارة، لتظهر خصائصها وميزاتها بشکل أکثر وضوحاً، وليتجلّي التناقض العميق بين الوضع الموجود، والحياة الکريمة المرجوّة. والمجموعة حافلة بالسخرية، لكون واقعنا مرير لا يمكن العيش فيه من دون ضحك، إذ به تستوي الأمور وتستقيم. فها اللعنة تصب قبحها على سلبية الإنسان العربي، وهو يرى بأم عينيه تدمير الإنسان والأرض، ولا تتحرك فيه لا تخوة ولا فروسية، فحق له أن يكفن في أردية الذل، وها كؤوس يخرج ماؤها من بطن واحدة، لكنها تتفرق لونا ومذاقاً، وها الرجل الشرقي يتلهف على المرأة، يقفز على الواحدة بشبق ليحقق متعته بأربع نسوة. والمرارة لا تولد إلا السخرية؛ والسخرية آلية فنية يتم توظيفها حتى يستقيم العيش، وتمتلك الذات الواعية القدرة على مواصلة مسيرة حياتها وبذا تنجو من الجنون. ولكون القصة القصيرة جداً تتقاطع مع القصيدة، فإنها تستلهم منها بعض تقنياتها، بغاية التجويد، والإمتاع، وتحقيق الدهشة، وهكذا نجد في مجموعة ميمون حِرْش، بالإضافة إلى ما تم ذكره آنفاً، التكرار والطباق، والتوازي، والمقابلة، والمفارقة، وتوظيف الأسطورة والرمز، وغيرها. وسنقف عند بعض هذه العناصر على سبيل التمثيل والتدليل. ذلك أن الباحث، الدكتور جميل حمداوي، قد أفرد حيزاً مهما لدراسة هذا الجانب، جعلها مقدمة للمجموعة.

1-الطباق:

يحضر في نصوص كثيرة، ومنها نص"مبدأ" ص68، إذ نجد كلمتين متناقضتين حد التنافر، يقويان المعنى المقصود، وهما: الداخل والخارج: طردوه خارجاً. فربض داخله يبني مبدأه. ليسكنه.
لم يتزحزح عن مبدإه، بل سعى إلى المقاومة ، ومواجهة التدمير المقصود. وفي نص"عانس" ص55، حيث نجد مفردتي: القمة والمنحدر. كما : تنتظر، وتكفر. والتضاد هنا جاء ليخدم أبعاد النص، ويقوي دلالته، ونلمس هذه الدلالة المعبرة عن الحيرة الساكنة داخل هاته العانس، وقد أصيبت بخيبة الانتظار، والأيام تعدو بها إلى المنحدر.

2- التكرار:

وهو عنصر يقوم بوظائف كثيرة، منها: التأكيد وتقوية المعنى وترسيخه في ذهن القارئ، بالإضافة إلى لفت الانتباه إلى المعنى المراد إيصاله. ويحضر في العديد من النصوص، منها، نص"عناد" ص 69، حيث تكررت مفردة: صحن، مرتين، إضافة إلى الضمير الذي يعود عليه. وفي نص"قميص" ص77، حيث نلمسه في تكرار من زائد الاسم المجرور: من وراء، من بعيد.

3- السجع:

وله وظيفة تنغيمية، وتزيينية، ونلمس حضوره في نص":كي أعيش " ص 37، حيث يحضر من خلال الكلمات التالية: العيش، والجيش، وأعيش. فهذا التلوين يمنح القارئ متعة، بإيقاعها الموسيقي. ونكتفي بهذه الإشارات، مؤكدين على أن هناك جوانب تركناها للقارئ يكتشفها، من مثل: توظيف الأسطورة "نبتة الخلود" ص 73، والرمز، نونجا، في قصة "المنجل" ص23، والتسلسل الزمني،"أبي" ص 48، وتقنية الحذف "معذبون" ص 65، حيث نجد تكرار عن، مرة متبوعة بالمجرور، ومرتين من دونه. كل هذا يؤكد عناية القاص بكتابة نصوصه، ويمحضها كامل اهتمامه، لا يلقي بها جزافا، بل يصوغها بطريقة ذكية تحترم ذكاء القارئ.

عبد الرحيم التدلاوي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى