الجمعة ١٢ شباط (فبراير) ٢٠١٦
بقلم أحمد هيهات

إكسير السعادة

بينما كان منهمكا في قراءة الكتاب الذي اقتناه لتوه من أحد الأكشاك الشهيرة لبيع الكتب القديم منها والجديد جلس إلى جانبه شاب في نهاية عقده الثالث تتوزع هيئته بين تيجان الملوك وأسمال العوام ،فعلى رأسه قبعة جلدية فاخرة بينما تدثر جسده أسمال من بقايا قميص ومعطف وجلبابين، وهو من المشردين الجدد في أزقة المدينة وشوارعها قادما إليها من الأرياف التي لفظته بعد أن أخفق في كل شيء حتى في كسب عاطفة والدته التي فضّلت فراقه على انفطار كبدها كل يوم، فقد كان ديدنه بدل إضاءة الشموع أنه يحيي الظلام ويهتف له بسبب مصائبه المتوالية، بدءا بفشله الدراسي الذريع الذي توجه بإشعال النار في حديقة مدير المدرسة التي طرد منها وانتهاء بسرقة كيس القمح الوحيد الذي تملكه الأسرة وبيعه لتلبية شهوته المتعاظمة للدخان.

اقتسم مع جليسه - بدون استئذان - الكرسي العمومي الاسمنتي الخالي من أي حس جمالي من حيث الهندسة ومن حيث لون الحصى عديم اللون الذي يزيد الساحة الكئيبة قتامة بسبب خفوت الضوء لقلة المصابيح التي مازالت تعمل، وانخرط في استنشاق قطعة القماش المشبعة بالسائل السحري العجيب الذي تطغى عليه رائحة السائل اللاصق (السيليسيون) .

وبعد أن اكتفى نسبيا من الاستنشاق توجه إلى جليسه الغارق في التأكد من أن الكتاب الجديد\القديم يستحق فعلا الثمن الذي دفعه من أجله، ثم ابتدره قائلا: لا شك أنك معلم تحب القراءة والثقافة والعلم أليس كذلك؟ فرد الآخر المتمسك بطلب العلم،الحالم ببلوغ وظيفة حكومية مهما كانت متواضعة، ولكن مرارة الواقع السياسي والاقتصادي للبلاد تحيله لهيبا خافتا يحاول أن يستعر لكن سرعان ما يطفئه المطر، فأجاب بنبرة الحزين المتحسر :نعم لست كذلك فأنا مجرد طالب أطلب حظي ونصـــــــيبي الذي لا يبدو أنه سيأتي .

تابع الشاب المشرد كلامه: أما زلت تتابع دراستك وأنت في هذا السن؟ ألم تتعب من الدراسة وقراءة الكتب وارتياد الجامعة؟ لماذا لم تتقدم إلى مباريات توظيف الأساتذة؟ ولكن خيرا أسدى إليك المخزن إذ لم يقدمك فريسة لهراوات وأحذية القوات المساعدة العسكرية الصلدة، ولكن كيف يجرؤ المخزن على ضرب الأساتذة الذين علموه وسيعلمون أبناءه وأبناء المغاربة جميعا؟

لم يتكلم الجليس فاستطرد المشرد المسكين: لم أحصل على أي شهادة من المدرسة لأنني صراحة لم أكن أحب المدرسة فكل ما فيها يبعث على الملل والخوف والانقباض، فالمعلم بليغ في لغة الصفع عيي في لغة الحوار والتواصل، والمطعم المدرسي الذي كنا نحلم بتذوق الجبن والمعجنات وسمك التونة من خلاله نادرا ما كان يفضل عن اليتامى وأبناء المعلمين والعاملين في المطبخ شيء إلا ما يكون من أيام طبخ القطاني، وكم كنا نسعد ونحن نلتهم أنصاف دوائر الخبز التي يتقاطر منه عصير العدس أو الفول في حالة هيستيرية تغذيها الرغبة في إنهاء هذا النصف وادعاء عدم الاستفادة، أو الجري هربا من كثرة طلبات الرفاق لتزويدهم بأجزاء من هذا النصف استردادا لدين أو مقابلا لخدمة أو ادخارا لمستقبل الأيام، و إذا دخلت مكتب المدير لم تغادره إلا وروحك تسابق قدميك في الخروج من كثرة السباب والشتائم و مختلف أنواع التعذيب الجسدي الذي قد لا تعلم له سببا أحيانا .

تابع الشاب المشرد ثرثرته غير عابئ بإحجام الجليس عن الكلام: ولكن حتى أكون منصفا فقد تمتعنا كثيرا بحصص الرياضة التي أحببناها بحبنا للمعلم الذي كان أحنّ علينا من آبائنا والذي عرفنا من خلاله أن هناك أنواعا كثيرة من الحلويات، وأن هنالك إمكانية للحوار دون استعمال لغة التعنيف بأنواعه. ودون فاصل أو إشارة إلى الانتقال إلى فكرة أخرى أضاف الشاب المشرد المنصف: ولكنّ أخي قد تمكن من بلوغ مستوى الثالثة إعدادي وإن تعر ض للطرد بعد أن أكثر من التكرار، فهل يحق له الالتحاق بالمخزن إذا وجد من يتوسط له، ولكن من ذا الذي يمكن أن يتوسط وينتظر المقابل إلى أن يحصل أخي على الأجرة؟ .

أثناء شبه الحوار هذا أقبل شاب آخر من أصحاب الشوارع والهواء الطلق وقد أخفت كثرة الكدمات وآثار جروح الأدوات الحادة القديمة منها والحديثة أغلب ملامح وجهه حتى لا تكاد تتبين سنه الحقيقي أو حتى تتكهن له بعمر تقريبي خصوصا وأنك لا تجرؤ على تأمل وجهه بأريحية مخافة أن يثيره ذلك فيعاجلك بسلوك غير منتظر أو كلمات قد لا تطيق سماعها ،ومع ذلك تمتلئ يقينا أنه يحمل وجها برزخيا بين الوجه واللاوجه، أقبل على زميله ومد إليه قطعة قماش رمادية طالبا بحركة من رأسه وإشارة من يده وتلميح من وجهه قليلا من إكسير السعادة، فأجابه هو الآخر بإشارة من يده أن بعد تقديم المقابل.

فانطلق المحب الولهان الراغب في وصال السعادة والحصول على ماريخوانة صوفية في رحلة سريعة بين المارة لاستخراج بعض القطع النقدية من جيوبهم باستجداء الأقوياء وكسب تعاطف المسنين - خصوصا النساء منهم - وإخافة الفتيات وإحراج أزواج المحبين، اختفى عن الأنظار هنيهة ثم عاد إلى صاحبه وقدّم إليه المقابل المادي ونال رشة من السائل العجيب ثم استنشق قليلا للتأكد من أنه قد حصل حقيقة على إكسير السعادة ولم يكن ذلك مجرد حلم، ثم انصرف سعيدا يتمايل من الفرح .

وخلال هذا الحوار الذي طال أكثر من المتوقع سأل الشاب المشرّد جليسه الطالب وهو يغالب ابتسامة مترددة: ألا تخاف على نفسك من الجنون ، فأنا أعرف الكثير من الأشخاص الذين انتهوا إلى هذا المصير بعد رحلة طويلة من السباحة في أعماق الأفكار وأمواج الاتجاهات المتلاطمة.

أجاب الطالب: الدراسة والعلم وقراءة الكتب لم تكن في يوم من الأيام سببا في الجنون بل هي خفة العقل وقلة الثقة في النفس والمستقبل واستعجال الأقدار التي لا تتخلف عن مواعيدها ولا تخطئ أهدافها.

أضاف الشاب المشرد: ولكنني أعرف صديقا أصيب بالجنون بعد أن بلغ الجامعة ودرس بها سنين طويلة وتقدم إلى مجموعة من مباريات التوظيف ولكنه لم يوفق في أي منها، وهو اليوم يدّعي أن له عند الدولة حوالي 600 مليون سنتيم راكمها منذ حوالي 25 سنة من الوظيفة الوهمية ،دون احتساب 100 مليون أخرى كتعويض عن البطالة القسرية التي يعيشها.

تردد الطالب المسكين في الجواب وشرد في تفكير مضطرب بين إمكانية الجنون التي تترصده وقد تذكر طائفة من العباقرة الذين جُنُّوا أو وقفوا على عتبة الجنون ومنهم جون ناش العالم العبقري فى الرياضيات والذي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1994 وقد كان يُعانى من حالة متقدمة من ” الفصام ”، تجعله دائماً يسمع أصواتا غير حقيقية، ويرى شخصيات وهمية، و الفيلسوف الكبير جون ستيوارت ميل الذي كاد يجن عند بلوغه سن العشرين وقد درس مختلف العلوم وأتقنها وألف في بعضها.

وعبقري الرسم الهولندي فينسينت فان غوخ الذي بلغ به الجنون حد قطع إحدى أذنيه بنفسه، وحاول الإنتحار عدة مرات، إلى أن مات مُنتحراً بالفعل،واسحاق نيوتن العبقري الفذ، والمنظّر الأول لقانون الجاذبية وقوانين الحركة، ومخترع أول تيليسكوب عاكس، وعشرات الاختراعات والقوانين كان يعانى اضطرابات نفسية عنيفة، كما كان مُتقلب المزاج إلى حد لا يُصدق، سريع الانفعال، شديد الغضب ضيّق الأفق، وكان يتحدث مع نفسه كثيراً بصوت عال، ويُخاطب أشخاصا غير موجودين ... وبين إمكانية امتلاك ملايين السنتيمات التي تنتظره في حال الحصول على الوظيفة، غير مكترث باسترسال جليسه في تقديم الأمثلة الحقيقية والمتخيلة عن الأشخاص الذين أفقدهم العلم صوابهم .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى