الثلاثاء ٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٦

ذاكرة السلام

رحيم الشاهر

لا يستطيع أن يصف تلك اللحظات التي قيل فيها إن مدينته سقطت، بعد إندلاع الحرب بأسابيع وهي مرحلة حرجة في تاريخ العراق (بدايات القرن الحادي والعشرين)، كان يرقب مسار الأحداث المتسارع إلى ولادة أحداث أخرى أكثر إثارةً، يرقب ذالك بتوجس حذر خازنا صورا مختلفة لما يجري من تحولات، وكل إنسان في تلك المحلة البسيطة يشعر بمجهولية المصير، ولا يعرف مايحمل له الغد في طياته من أحداث ومفاجآت، لذلك كان هو يعبر عن المشهد، بان ما يحدث هوخارج طاقة إستيعاب الفرد الاعتيادي، الناس في دوامة من أمرهم غير المحسوم بعد، هذا مشغول بتخزين الطعام، وذاك يفكر بالرحيل إلى مكان أكثر أمانا، صخب الطائرات وصفارات الإنذار تملأ الأجواء، والأخبار المرجفة تحمل في طياتها شبح الترويع والمفاجآت سيما وإن (الشبح) في جو العراق هي إحدى كوابيس الحرب التي يخشاها الناس، والقدر يلوح بمجهول مخيف، صوت المذياع متعال في كل بيت، وفي كل شارع،.....أخبار..أخبار...حرب الخليج...حربالخليج..تحركت حاملة الطائرات. توقفت حاملة الطائرات تم استدعاء ثلاثة عشر تولدا تحركت قوات الفيلق كذا باتجاه القاطع كذا. الناس من حوله راحوا يخزنون المواد الغذائية ؛ خوفا مما تفعله الأزمات، وراح يذكر بعضهم بعضا بما فعلته أزمات الحرب السابقة، من جوع ودمار وويلات، بينما راح البعض يرسم بمخيلته أقرب وأقصر وأجدى طريق للهروب من الجحيم الذي لايخضع معياره لقياسات الجبن والشجاعة، ولكن صاحبه( محمود الساذج )، كما يسمونه كعادته يعيش عالمه المستقل غير المتأثر بمجريات الحرب، وهزاتها العنيفة، فهو لذلك لا يعير أهمية لكل مايجري من ضجيج وقصف يطال هذه الناحية أو تلك، لا على التعيين، وكما تشاء الأقدار ...محمود الساذج هذا رجل توسط العمر، ذو بطن منتفخ، يرتدي (دشداشةً) داكنة تحزم عليها ورفع جانبا منها إلى ما فوق الحزام، كثير الهذيان يمر على هذا وذاك فيحصل على قوته اليومي، مقابل إثارة النكات الشعبية البسيطة التي لاتضحك سوى من فرغ باله من الهموم إنه يضرب أروع الأمثلة في قولهم:( ما لذة العيش إلا للمجانين)، يذهب إلى سوق المحلة المقفر من زحمة الناس، فيتجول فيه مارا على شوارعه الضيقة ودكاكينه المغلقة إلا من بعض الباعة، الذين يفترشون الأرض ؛ ليبيعوا ما تبقى لديهم من بضاعة الأمس وكأنهم يقولون في ذلك للناس وبلسان ألقدر والإرادة:إن الحياة لابد أن تستمر حتى في أحلك اللحظات، لحظات الصفر، ولم لا يكون هو مثل محمود الساذج كما يحلو للبعض أن يسميه فيكسر الصمت المخيم على الشوارع والمدينة ويخرج من طوق التخفي إلى السوق ليشتري مستلزمات وجبة عشاء لذلك المساء الذي طالته رائحة البارود المتشظي من قصف الطائرات، ذلك المساء الذي أخذت شمسه تنحدر نحو الأفق الأحمر سيما وإن السوق متوقف عن الجلب منذ بضعة أيام، والحرب هي الحرب، والوليمة في أجواء الحرب وشدة الأزمات لها أجواء خاصة من الظرافة والترويح، وترك البصمات في الذاكرة.

وجد ذلك السوق مقفرا، مستنفرا، موحشا،ليس فيه سوى قليل من الباعة والمشترين البسطاء الذين لايفكرون كثيرا بلعن السياسة والحروب،فتبضع من السوق لوليمة ذلك العشاء، وأحاديث الناس تساور أذنيه كطنين الذباب وتتشعب في مايكون وما لا يكون:الحرب.. الحرب.. المجاعة...الرحيل...البقاء.. التحصن... الهروب إلى الأمام... الهروب إلى الخلف،بما في ذلك محمود الساذج الذي ماانفك يجوب أزقة ذلك السوق،غير آبه لكل مايجري،وهو يردد ضاحكا ساخرا: الحرب..الحرب، شبعنا من الحروب (كرشنا من الحروب)، (الواحد ما يموت غير بيومه)، ثم لايفوته أن يتوقف في هذا الجانب من السوق أو ذاك، فيقرأ البيان رقم كذا بصوت جهوري لايتعب، وإنك لتعجب لقوة ذاكرته، حتى يصل إلى النهاية، ليقول: (ومن الله التوفيق!، أو فليخسأ الخاسئون!).أما هو فقد خرج من ذلك السوق الحزين تاركا فيه شبح محمود، ماضيا على هواجس ذلك الصخب، وفي يديه مشتريات غذائية بسيطة،ليعد وجبة طعام لا تطالها نكهة بارود القنابل المنفجرة من قصف الطائرات،وجبة شهية ما زالت نكهتها اللذيذة عالقة في ذاكرة السلام حتى يومنا هذا...

رحيم الشاهر

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى