الجمعة ١٣ أيار (مايو) ٢٠١٦
بقلم طه هنداوي

الدروس الخصوصية بين الإباحة والتجريم

أصبحت وأضحت وظلت وأمست وباتت ومازالت الدروس الخصوصية تقض مضاجع المصريين، وقد أكد التقرير العالمى لرصد التعليم للجميع لعام 2013/2014، والصادر عن منظمة اليونسكو "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" أن المبالغ التى تنفق سنويا على تلك العملية في مصر تصل إلى 2.4 مليار دولار أمريكى، ما يعادل 16 مليارا و56 مليون جنيه مصرى، و27% من الإنفاق الحكومى على التعليم منذ عام 2011، الأمر الذى يجعلها تمثل عبئا على ميزانية الأسر[1].

إن القضاء على الدروس الخصوصية ليس بإبادتها بالتجريم لأن أسبابها ستظل قائمة، وإذا لم نقض على أسبابها لن ننجح بأية حال في القضاء عليها، فالأسباب مركبة ومتشابكة، وتجريم المعلم لإعطائه الدروس الخصوصية ليس هو الحل، فالمعلم أحد الأسباب وليس كل الأسباب، فهنالك –بالإضافة للمعلم- المنهج، الموجه وما علاه، المدرسة، الطالب، ولي الأمر، والدولة مسئولة عن أولئك جميعهم، فهذه الأسباب يجب التركيز عليها مجتمعة على التوازي.

وثمة ارتباط وثيق بين المُـجَرِّم وهي الدولة والمُجرَّم وهو المعلم، فمسئولية الدولة عن المعلم تتطلب منها وضعه في مكانته الصحيحة من خلال دستورها وقوانينها، ففي الدول المتقدمة التي نتمسّح فيها وننقل تجاربهم في التعليم إنما ننقل المبنى والنظام وقد يكون المنهج، ونجبر المعلم على أن يدور في فلك التجربة دون مساواته بمعلم تلك الدولة المنقولة تجربتها، فلا هو بالمكانة المرموقة علميًا واجتماعيًا فيُحترَم، ولا يتقاضى راتبًا يكفيه البحث عن عملٍ آخر يحسّن به دخلا يكفيه/ ومن يعول، فجعلته الدولة يعيش طيلة حياته ليس حياة (الرمادة) فقط بل تصرّ على تجريمه أيضًا وقطع دابره، مع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يقطع يد سارق الطعام في عام الرمادة حين عمَّتِ المجاعة، كما أن المعلم لم تتحقق له أركان السرقة- ولا أبيحها - حين يعطي الدروس الخصوصية، فلا هو اقتحم البيوت، ولا أكره التلاميذ والطلاب وأولياء أمورهم عليها، ولم يمارس عملا مخلا بمهنته ومخالفا لها بعد أوقات العمل الرسمية، فالطبيب يمارس مهنته في عيادته بعد مواعيد العمل الرسمية، وكذلك المهندس، وبالمثل فالمعلم يمارس مهنة التدريس – لا مهنة أخرى- التي لم تقدر الدولة قيمتها ومكانتها، ويقول كاتب المقال في جزء من قصيدة " مفارقة":

إن المعلّـم قدره فى ربـوة
ومكانة عليـــاء فى اليـابـــــانِ
له شـارةٌ من ذا يراهـا ينحنى
ويقدم الأستــــــاذ فى تحنــانِ
فهو المعلّـم للوزير وللخفـير
وكل من يقبــــــع بأى مكـــانِ
لكننى من مــاركة الطبشــور
يرنوني هنا كلٌ بلا استحسـانِ
(مــافيـــــا) فحدّث لاحــرج
ثوب المهانة فى الدنا غطّــاني
هلاّ سرقتُ البنك جهرًا فى الضحى؟
(والله) إن السعي كم أشقاني!
فرســـــــالتى أحببتهــــــــا ربّيتهـا
(تاللـهِ) قد سكّنتهـــا وجداني
(دقــــــات قلب المرء قــــــــائلة له
إن الحيــاة دقــــائق وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرهـــــا
فالذكر للإنســان عمر ثانِ)

وليس أدل على مكانة المعلم في تلك الدول إلا ما قالته "ميركل" رئيسة وزراء ألمانيا حينما طالب القضاة بمساواة رواتبهم برواتب المعلم، فقالت لهم" كيف نساويكم بمن علموكم؟" إنها شاءت أن تؤكد على المكانة السامية للمعلمين والاساتذة، وما يتعين على مجتمع في مستوى المجتمع الالماني الذي تمكن من القوة العلمية و الاقتصادية و التكنولوجية أن يتبناه من سياسات رشيدة تصون هذه المكتسبات، ولكن من خلال تكريس حرمة التعليم وكرامة رجاله و نسائه لا لسبب إلا لشيء واحد هو الاعتراف بالجميل لهؤلاء المعلمين والتعبير عن الوفاء لهم؛ لأن هؤلاء المعلمين كلٌ في جيله هم من حركوا مكامن هذه القوة في أبعادها المادية والعلمية، و هم من علموا القضاة و الوزراء و الرؤساء و أصحاب المناصب العليا و رجال الإدارة و المبدعين أصحاب الاختراعات و المشاريع الكبرى وغيرهم، كما أن التلميذ لا يمكنه أن يساوَى بأستاذه مهما حاول، و مهما كان ارتقاؤه الاجتماعي والعلمي و الإداري أو أصبح منصبه الجديد[2].

وأما المناهج وما يتصل بها من طرق دريسها والاختبارات فحدّث ولا حرج، فالحشو فيها والتكرار زائد عن الحد، والتحديث فيها أبترٌ لا يكاد يذكر، وبعيدة عن التراكمية، فكلما انتقل التلميذ أو الطالب من مرحلة إلى مرحلة يجد نفس الموضوعات، والتي تخضع للحفظ والتلقين، كما أن الاختبارات تقيس درجة الحفظ والتلقين أيضا، ومن ثم فإن المعلم يستخدم الطرق التقليدية في توصيل المعلومة المراد حفظها وكيفية الإجابة عليها في الاختبارات التقليدية أيضا، فلماذا يرهق نفسه في استخدام استراتيجيات وتقنيات حديثة تحتاج منه وقتا وجهدا للتدريب عليها وإعدادها واستخدامها؟ كما أن التلميذ والطالب يلجآن إلى التأكيد على جودة الحفظ والتلقين للحصول على أعلى الدرجات للفوز بكليات القمة -التي تعتمد المجموع شرطا لدخولها- من خلال الدروس الخصوصية، ويتسابقون وأولياء أمورهم في الحجز لدى المعلم، بل ويتخيرون الواسطة التي لا تُرَد لإقناع المعلم بقبول الطالب أو التلميذ، ثم بعد ذلك يُجَرَّم المعلم، وعجبي!!، وإذا تم تطوير بعض المناهج وتطلّبت طرقـًا حديثة للتدريس فلا يتم إعداد المعلم لاستخدامها، ولا دليلا للمعلم يسترشد به من قِبَل خبراء المادة، وكذلك الموجهين الغارقين في التقليدية حتى إذا وُجِـد بعض المعلمين الجادين فإنهم يصطدمون معهم، ففاقد الشيء لا يعطيه، فشعاراتنا جوفاء، ننادي بتعليم متمركز حول المتعلم، وإذا خلونا لى شياطيننا قلنا "إنما نحن معكم إنما نحن مستهزئون" وأستغفر الله، فلا مناهج معدّة للتعلم النشط ولا معلم ولا موجه ولا امتحانات.

وأما المدرسة فطاردة وليست بجاذبة، لا فيها حجرات أنشطة ولا أدوات، ولا دعم مادي، ولا تحترم حصص وفترات الأنشطة ولا معلمي الأنشطة، فالمدرسة صورة مصغرة من المجتمع كاملا، فلو طبقت القوانين والقرارات التي تتعامل مع كل من: العاملين –خاصة المعلم- من أول الحضور والانصراف لما تواجد أحد من المعلمين خارج المدرسة وقت الدراسة، وما غاب الطلاب لأخذ الدروس الخصوصية حيث يوفر ذلك أركانها(معلم-طالب-زمان-مكان)، ولا يوجد التزام بالجدول المدرسي، أوالمتابعات، أوالتقارير،أوالتنمية المهنية الحقيقية لهم، وبالنسبة للمتعلمين، فلا انضباط في (5) سلوك ومواظبة، ولا إعطائهم الحق في اختيار أنشطتهم المفضلة، وجعل حصص الأنشطة آخر الجدول الدراسي اليومي اقتناعا منهم-إدارة مدرسة ومعلمين- بعدم أهميتها وتضييعها لوقت المتعلمين على حساب المواد الأساسية غافلين أو متغافلين عن أنها تسمى أنشطة لتنشيط العقل والجسد، وراحة من كم المواد الأساسية، وهي تمثل استراتيجة للراحة من تعب الدراسة، وقد حضرت موقفا في إحدى المدارس الثانوية في يوم شديد المطر، ولمصلحة الطلاب رأت لجنة إشراف ذلك اليوم بتقديم حصة مادة علمية من السابعة لتكون الرابعة بدلا من حصة التربية الرياضية، وإذ بالطلاب يصرون على أن يأخذوا حصة التربية الرياضية في موعدها، وأن يأخذوا الحصة السابعة في المادة العلمية، وتابعت الطلاب واستمتاعهم تحت المطر الشديد بحصتهم، فماذا لو توفرت باقي الأنشطة بالمدرسة؟، ذلك الجانب الوجداني الذي يغفل عنه مجتمع الدراسة.

وأما الطالب وهو العنصر المشترك في كل ما سبق، والذي تتمركز حوله الدروس الخصوصية، فالمنهج وطرق التدريس والاختبارات تقليدية، يلجأ للدروس في مواد السنة القادمة بعد انتهاء اختبارات السنة الحالية مباشرة، فلا يستمتع بالأجازة، فيدخل السنة الدراسية الجديدة وهو يكاد ينهي المناهج الجديدة، وعندما تبدأ الدراسة يسمع نفس الشرح من نفس المعلم بنفس الطريقة، فإيما ملل؟، وبالتالي لا يهتم بالحضور حيث لا جديد ولا إضافة ولا إبداع ولا أنشطة يروّح بها عن نفسه، كما أن الغياب لا يُسجَّل، وإذا سُجِّـل فسوف يدفع(15) جنيها لإعادة قيده.. يا بلاش!، فعندما صدر قرار ربط الـ (10) درجات بالحضور والسلوك، هاج الطلاب وأولياء أمورهم، لكن من هؤلاء؟، إنهم من يأخذون الدروس الخصوصية ذات المقابل المغالَى فيه والذي لا يقدر عليه غيرهم، ولا يحتاجون المدرسة في شيء، مع أن الانتظام في أسبوع القرار تخطى الـ 90 %، فلماذا التراجع عنه؟ وهؤلاء الطلاب وأولياء أمورهم لا يمثلون (59000) متعلم في مرحلة التعليم الثانوي[3]، نحن مع تطبيق هذا القرار ولكن لابد وأن تهيئ المدرسة الامكانيات الدراسية المتمركزة حول المتعلم من تجهيز المعامل والفصول والوسائل والأدوات، والامكانيات الترويحية المتمثلة في ممارسة الأنشطة، ساعتها يأتي الطالب باختياره وليس مجبرا.
وأما ولي الأمر – الغني والفقير- الذي يسعى جاهدًا لإعطاء ابنه الدروس الخصوصية عند جهابزتها ومحترفيها، كي يحصل على المجموع المؤهل لكليات القمة، وأرى أن الساعين لتجريمها هم أول من يبادرون بالحجز عند هؤلاء، أو يستطيعون استجلاب المعلمين لابنائهم في بيوتهم بعيدا عن المراكز وغيرها ويدفعون مالا يستطيع غيرهم دفعه، فأرى أنه يجب تجريم ولي أمر الطالب الذي يأخد درسًا خصوصيًا عند تجريم المعلم، ساعتها لن يجد المعلم شاريا لسلعته فتبور.
فالقضاء على تلك الظاهرة ليست في تجريم المعلم فقط، إنما يكون الحل في كل الاتجاهات مجتمعة، وإذا أردنا سنكون بإذن الله.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى