الثلاثاء ٣١ أيار (مايو) ٢٠١٦
بقلم عصام شرتح

جمالية القصيدة اللوحة في شعر جوزف حرب

لاشكَّ في أنَّ الشعر فنّ مثير كباقي الفنون؛ وفن الشعر لا يعتمد فقط إيقاع التشكيل الجمالي؛ وإنما إيقاع الشعور الحسي التأمليّ في صناعة ذلك الدفق الروحاني، أو الومضة الروحيّة التي تعتصر مكنون الذات؛ وتبث ألقها بشرارة الإبداع؛ والشاعر المبدع ليس خلاّقاً للغة فقط؛ وإنما خلاّق لعالم آخر يسعى إلى الدخول في أتونه ألا وهو (عالم الرؤية) أو( عالم الحلم)؛ والقصيدة اللوحة هي قصيدة الحلم أو قصيدة الولادة الجديدة؛ بحس جديد، وشعور جديد؛ ومن لا يملك هذا الشعور المتجدّد لن يصل في شعره إلى مرتبة الفنّ؛ وإننا- في مطالعتنا لتجربة جوزف حرب- نجزم بأنَّ جوزف حرب فنَّان تشكيلي، وفنّان غنائي روحيّ ،وفنّان في ترسيم شعوره بألق اللحظة العاطفية الصوفية المحمومة التي تسعى إلى حيِّز المطلق والانفتاح التأملي؛ فحدود الرؤية - لديه- مطلقة مفتوحة، تجوب فضاء الآخر دون قيود اللحظة الزمنية أو الآنية الضيقة، إنَّ حدود قصائده تجوب الحاضر، وتفتح آفاق المستقبل؛ تولد كل لحظة، لتبعث أمل جديد، وحلم جديد؛ وعالم جديد؛ لذلك؛ فالفنّ - في شعره- يكمن في طريقة تشعير الكلمة في فضاء السياق؛ فالكلمة تحسّ أنها تصنعك؛ والجملة تتدفق من ومض روحك؛ والقصيدة تترك بصمتها في قلبك وتجوب حلمك؛ لتتربع على عرش فؤادك؛ وتتلون ببريق عينيك...لترى ما لا تراه من سابق...وتحلم أحلاماً كانت في حلمك الأزلي... تفتقت أمامك من جديد...وعاودت إليك هدهدة الأحلام وضحكة الطفولة؛ التي أذبلتها جهامة الأيام؛ وجففت ينابيعها جراح السنين.

وتُعَدُّ القصيدة اللوحة قصيدة بصريَّة ذات تجسيد بصري مرئي في تشكيل الصورة؛ لتبدو أمام القارئ بتشكيلات تصويريَّة حسيَّة مرئية؛ تخطُّ إيقاعها بتأسيسها على شعرنة الرؤية، بأبعاد ومقاييس محدّدة رغم انطلاقها التأملي، وانفتاحها الدلالي؛ تقول الناقدة خلود ترمانيني في تعريفها القصيدة ما يلي بقولها: "يقوم التشكيل الهيكلي لقصيدة اللوحة على أسس تقنية مستمدة من الفنون التشكيلية البصريَّة المعتمدة على العناصر المرئيَّة والمقاييس الشكليَّة؛ فالشاعر يقدِّم فكرته الشعريَّة في صورة تُجسِّد المعاني الشعريَّة والمواقف الوجدانيَّة في تشكيل محسوس؛ يهدف إلى تحقيق الانسجام والتآلف، وعلى هذا فإنَّ الشعر يستعير تنويعاته التشكيليَّة من الفنون الأخرى().

وترى الناقدة خلود ترمانيني أيضاً: "أنَّ الشاعر المعاصر يستحضر إيحاءات الألوان ليشكِّلها ضمن نسق شعريّ خاص يكون - من خلاله الشاعر- مسؤولاً عن رسم لوحته الناطقة بإضفاء شكل بصريّ مُرَكَّز؛ يهدف إلى منح القارئ دلالة واسعة بأقل وسيلة ممكنة؛ وفي أقصر مدة زمنية بحيث تَنْطَبع القصيدة في ذاكرة المتلقي كما تنطبع الصورة العاديّة الفوتوغرافية في الذاكرة لحظة رؤيتها، وهاهنا؛ يتبدَّى دور المتلقي في وضع اللمسات الأخيرة على اللوحة الشعريَّة، وعلى هذا الأساس، ترسم بعض القصائد الشعريَّة لوحات خالصة تقوم على وجود المشاهد الصامتة المُجَسَّمة التي تميل إلى البساطة والتكثيف والاختزال، فتكون قابلة للرؤية دفعة واحدة، ويتسلمها المتلقي بيسرٍ وسهولة، ودون إعمال ذهني؛ وذلك حين يشي العنوان وأسلوب التناول بتلقي لوحة شعريَّة يعرض الشاعر مباشرة عناصرها التكوينيَّة؛ ويحدِّد هيئاتها وألوانها وتشكيلاتها التي تُوْحِي بدلالات يتمّ تجسيدها بطريقة محدّدة ومكثفة لتكون قابلة للرؤية دفعة واحدة"().

والقصيدة اللوحة – في شعر جوزف حرب- تجسيدات فنية نتنسَّم أبعادها بمناحٍ تشكيليَّة؛ تثير القارئ بتشكيلها النسقي؛ مما يجعلها ذات حيازة نسقية مباغتة؛ توحي بدلالات جديدة تمركز إيحاءاتها ومشاهدها بألق تصويريّ فاعل، كما في قصيدته [اللوز الكحلي]؛ التي سندرسها مقطعاً مقطعاً، نظراً إلى تشكيلها الفني اللوحاتي المثير، وبهذا الأسلوب الشاعري يقول الشاعر جوزف حرب في المقطع الأول ما يلي:

"* في حَصَاكْ أيُّها النهرُ صوتٌ،/ سَتَسْمَعُهُ حينَ تُصْبِحُ شيخاً، بِنَقْرِ عَصَاكْ./
* أجْمَلُ الغيمِ فيَّ... سَيِّديْ/ أنَّهُ، كُلَّما لا أمُوْجُ، ولا أُزِهِرُ،/ وعَنِ الحقلِ في جَسَدِيْ يرحلُ الأخضرُ، يُمْطِرُ"().

إنَّ الشاعر جوزف حرب يرسم لوحته الشعريَّة بتناسق الخطوط، والألوان ،والظلال، ويبث الصورة الحركية التي تتلمس مظاهر الطبيعة؛ بتجسيداتها البصريَّة المؤنسنة التي تخلق دهشتها؛ وجمال ألوانها وأنساقها التشكيليَّة، من حيازتها التشكيليَّة، وأنساقها التخييلية ذات التجسيد البصريّ، كما في قوله: "في حَصَاكْ أيُّها النهرُ صوتٌ،/ سَتَسْمَعُهُ حينَ تُصْبِحُ شيخاً، بِنَقْرِ عَصَاكْ"؛ والّلافت هذا الانسجام الإيقاعي في حركة اللقطة في الصورة الثانية بين قوله [لا أُزهِرُ= يُمْطِرُ]؛ وكأنَّ ترسيمها اللوحاتي يأخذ القارئ إلى هذا الحس الشعوريّ الجمالي لتنامي اللوحة، وتكثيف مدلول الصورة النسقية الفاعلة في رسم اللقطة البصريَّة المشتقة من حقل الطبيعة وإيقاعها المؤنسن.

ويأتي المقطع الثالث، باثًّا إيقاعه الترسيمي الجسدي، لتكتمل لوحة الجسد؛ بارتسام فني بصري؛ مؤسس على الطبيعة، وسحرها التأملي المثير، كما في قوله:

"جَسَدِي من تُرَابٍ، يُزَيِّنُهُ العابرونَ به بالذَّهبْ،/ عِنْدَمَا وَقَعَتْ قبلةٌ منكِ فيهِ، غدتْ كرمةً. وغدا جَسَدِي ذائباً في العِنَبْ"().
إننا – في هذا المقطع- نلحظ ترسيمه الدقيق للجسد بأسلوب بصريّ، مؤسّس على حيّز محدَّد، بصورٍ بصريَّة، تزيد الألق المشهديّ البصريّ في تشبيه الجسد بالعنب؛ لإثارة اللوحة الشعريَّة، وخلق تكاملها الحسيّ الجسدي؛ ليبدو الجسد مركز الحس، والنبض الشعوريّ، والتفعيل الإيحائي؛ محركاً الصور؛ وكاشفاً عن مداليل الصدى اللوني الترسيمي لحركة الجسد؛ والحق يقال: إنَّ الشاعر جوزف حرب يملك مخيلة فذة، تستطيع أن تحرك الأشياء، وتبثّ نسقها الجمالي؛ لتبدو القصيدة لوحة فنية متكاملة، يرسمها جوزف بريشة فنية؛ تجسد الطبيعة بصريًّا، وشعوريًّا لرسم أشكالها وجزيئاتها رسماً دقيقاً على شكل لوحة متكاملة مشهديًّا أو بصريًّا.

وهكذا؛ تأتي المقاطع الأخرى ذات حيازة نسقيَّة منسجمة، وحراكٍ نفسيٍّ متناسسق، وإيقاع الذات وإحساسها الشعوريّ بالرؤية المجسدة التي تشكِّلها؛ وعلى هذا "فإنَّ القصيدة حين تنصرف عن وصف الأشياء والكائنات وحقائق الوجود فإنها تلامس أفقاً آخر تغدو فيه (Metapoetry) أعني شعراً هو، في حقيقته، ما وراء الشعر: يتحدث عن فنّ الكتابة الشعريَّة؛ عن وظيفة الشعر، وعن أسراره وألاعيبه الخفيَّة. وبذلك فهو يفصح عن افتنانه بذاته إلى أقصى حدّ، لكنَّه يلقي، في الوقت نفسه، خيطاً من الضوءِ يقود المتلقي إلى مكمنِ الحيرة أو الفاعلية في القصيدة"().

وتُعَدُّ مقاطع هذه القصيدة ذات ترسيمات لوحاتية تثير الموقف الشعري، وتحفِّز الرؤى الشعريَّة المجسدة؛ بإيقاع تشكيلي نسقي فاعل على المستويات كلها كما في قوله:

"* أنتَ يا آيةَ القمحِ في الأشْهُرِ المُنْزَلَهْ
عندما لامَسَتْ عُنْقُكَ المِقْصَلَهْ
أصبحتْ سُنْبُلَهْ..
* لي جَسَدْ
كُلَّما شاخَ أصبحَ وَعْراً من الأرضِ، ما مرَّ فيه أحَدْ/ ورأى شوكَهُ من حريرٍ،
وأحجارَهُ البيضَ من سُكَّرِ العيدِ إلاَّ الولَدْ"().

إنَّ مثيرات الصورة اللَّوحة تنبعث من صدى الجمل بصريًّا؛ إذْ إنَّ المهارة التشكيليّة في خلق القفلة الشطريَّة الدهشة تسهم في إثارة الصور بصريًّا؛ وتجسيد أبعادها بأنساق ترسيميَّة مفاجئة [المقصلة السنبلة]؛ الأمر الذي يقود الحركة البصريَّة إلى التملي الجمالي، والاستغراق البصري في ماهية الصورة وعمقها الدلاليّ؛ وهذا الأسلوب في تحفيز النسق الشعريّ، بإثارة الصورة المجسدة بصريًّا: [صورة القمح= وصورة المقصلة] يقود المثيرات التشكيليَّة للانفتاح الدلاليّ، والتجسيد التأمليّ المطلق؛ وقد اتبعها الشاعر بالتوصيفات الجسديّة التي ترسم إحساسه بالعجز الجسدي من خلال المنظر الهشِّ الذي أصبح عليه الجسد بعدما كان فتيًّا صلباً بعنفوان الشباب، وزهوه، وإشراقه؛ فعندما يشيخ المرء يفقد الجسد نضارته؛ ويصبح أخاديد ملأ بالتجاعيد، وهكذا تَمَكَّنَ جوزف حرب من شعرنة المقطع بأسلوب جماليّ؛ يرصد دقائق المشهد الشعريّ؛ بأبعاد تشكيليّة ترسيميَّة دقيقة، متوسمة بالصورة التشكيليَّة في خلق الشكل التصويريّ البصريّ المرئيّ المفاجئ، أو اللوحات التصويريَّة التشكيليّة التي تسهم المفاجئة في تداخل ألوانها، وتناسق خطوطها، وتفاعلها بصريًّا.

وقد شكّل المقطع السادس تشكيلاً بصريًّا مرئيًّا؛ على أساس اللوحة الفنية المتكاملة؛ ليأتي المقطع الشعريّ فاعلاً في تشكيل اللوحة، وتنامي شكلها البصري، كما في قوله:

"* في صَلاتي إليكْ: كَمَا للكلام تُصَلِّي المَحَابِرْ/ أَحْرَقَتْني ظهيرةُ هذي الصَّحَارى،/ ولا ماءَ
أَحْمِلُهُ للطريقِ، اسْقِني غيمكَ اليمنيَّ؛ وَدَعْنِي أُسافِرْ بِظِلِّ يَدَيْكْ"().

إنَّ هذه الانطلاقة الفنيَّة من الصورة البصريَّة ذات الطابع الحسي؛ إلى الصورة الصوفيَّة ذات التوق الروحي، يدفعنا إلى القول: إنَّ استشفاف الرؤى البصريَّة - عند جوزف حرب- في تشكيل اللوحة الشعريَّة قد يدفعه إلى الإغراق في التجسيد الروحي، والتوق إلى الجمال الداخلي، لهذا، ينتقل في صوره من الصور البصريَّة إلى الصور الصوفيَّة، لتعميق رؤيتها، وتكريس مداليلها الروحية العميقة.

وقد جاء المقطع السابق شاعريًّا في تنسيق الألوان، وتداخل الخطوط ،والظلال، والأحجام في هذه اللوحة التشكيليَّة ذات التجسيد البصري العميق، كما في قوله:

"مَوَّجَتْ خَصْرَهَا، بينَ شَمْعٍ، ومَبْخَرَتَينِ، وخمرٍ، ونايٍ يرافقُهُ/ وَدِمْلَجٌ،/ وحَلَقْ/ لم أُغْرِّقْ بِهَا مقلَتيَّ، ولم أُضْع لِلَّحْنِ./ هَبَّتْ على شجراتِيْ العواصِفُ./ شاهدتُ كيفَ تَهَاويْتُ/واسْتَسْلَمَتْ أُذني لسماعِ سقوطِ الورق"().

إنَّ هذه اللوحة الشعريَّة تموج بعذوبة الإيقاع، ليجتمع فيها سمفونية الإيقاع، ورهافة الصورة اللوحة؛ لتكتمل اللوحة بخطوطها، وألوانها، وإيقاعاتها وظلالها المرئية؛ إذْ يأتي إيقاع اللوحة غزليًّا، كاشفاً عن لقطاتها المتفاعلة بصريًّا في تكثيف إيقاع الأنثى الجسدي، وجمال حركتها، وتماوج خصرها؛ليرسم صدى اللوحة مشهديًّا بين حركة تماوج الخصر، وحركة تساقط الأوراق، وحركة اللحن الذي ينساب على إيقاع خصرها ارتفاعاً وهبوطاً؛ وبذلك، تتفاعل أنساق اللوحة تفاعلاً تكامليًّا؛ ليرتسم المشهد الكلي للوحة بتداخل وتفاعل وانسجام لوني وحركي بين الشكل البصري للوحة، والشكل الإيقاعي؛ وهذا مما يؤثر إيجاباً على تنامي اللوحة جماليًّا لترتسم بخطوطها وحركاتها وألوانها رسماً دقيقاً غاية في الشاعريَّة، والفن، والإتقان. وهذا يقودنا إلى القول: ليست اللغة هي المولِّدة لصدى قصائده الجمالي – كما قد يتوّهم البعض- بقدر هذه الحساسية الشاعريَّة التي يملكها جوزف حرب في بناء القصيدة؛ إذْ يبنيها بروح الفن التشكيلي البارع من خلال مزجه الألوان، وترسيم الخطوط، والمنحنيات، والأنغام؛ لتحملك لوحاته الشعريَّة إلى الانبهار بصريًّا، وإيقاعيًّا بجمالها، وتفاعلها، وانسجام خطوطها؛ لتفجر فيك مكامن الشعريَّة وبذرتها الروحية.

يقول جوزف حرب في المقطع الثامن من القصيدة ما يلي:
"أيُّها المُتْعَبُ لستَ آخرَ زيتِ القناديلِ، أو شمسَ هذا المساءِ التي تَغْرُبُ. لم تَشِخْ.
صرتَ وَعْراً، بَرَارِيَ، دغْلاً. مراقيكَ وحشيَّةٌ.
نباتُكَ مرٌّ وقاسٍ.
وتجويْفَةُ الصخرِ فيكَ يدانِ صَفَا فِيْهُمَا الماءُ مِثلَ رُعَاةٍ على النبعِ مدُّوا أياديَهُمْ لكي يَشْرَبُوا
أيُّها المُتْعَبُ، لم تَشِخْ.
صِرْتَ لي ليلةً لَبِسْتَ غيمةً خَلْفَها كوكبُ"().

يرسم الشاعر أبعاد اللوحة الفنيّة تشكيليًّا؛ بهذا الاستقصاء الجماليّ في رسم اللقطة التشكيليّة البصريّة الأولى: [أيُّها المُتْعَبُ لستَ آخرَ زيتِ القناديلِ، أو شمسَ هذا المساءِ التي تَغْرُبُ. لم تَشِخْ./ صرتَ وَعْراً، بَرَارِيَ، دغْلاً] ؛ والّلافت أنَّ محفزات هذه اللوحة محفزات مشتقة من الطبيعة وترسيمها اللّوني؛ باعتماد الطبيعتين الصامتة والمتحركة؛ [الماء/ شمس/ وعراً، براريَ، دغلاً]؛ وقد اعتمد التشكيلات الترسيميّة ذات المد التأملي في تشكيل جزئيات اللوحة باشتقاق معظم جزئياتها من الصور البصريَّة المجسدة المشتقة من مفرزات الطبيعة، وجزئياتها الدقيقة، كما في قوله: "نباتُكَ مرٌّ وقاسٍ./ وتجويْفَةُ الصخرِ فيكَ يدانِ صَفَا فِيْهُمَا الماءُ مِثلَ رُعَاةٍ على النبعِ مدُّوا أياديَهُمْ لكي يَشْرَبُوا"؛ إنَّ هذه الصورة البصريَّة المتخيلة لحركة الصخر وتجويفه؛ تنمّ على شعريَّة فائقة في إتمام اللوحة الفنية، وتنسيقها مشهديًّا؛ لتكتمل أدواتها؛ وترتسم معالمها، وخطوطها، وجزئياتها الدقيقة، ولهذا؛ تمتاز لوحاته التشكيليّة بالتكامل، والتنسيق، والانسجام على مستوى دوالها اللونية المشتقة من جزئيات الطبيعة بصورها ولقطاتها البصرية التجسيديَّة المنسجمة فيما بينها؛ لتشكِّل لوحة فنيّة متكاملة تشدّ إليها الرائي أو الناظر إليها، بعين الذهول، والإعجاب.

ويأتي المقطع التاسع عنصراً شاذاً في اللوحة، أو عنصراً صادماً في تنسيقها؛ لإكساب اللوحة حركة اهتزازية مفاجئة، أو عنصراً غريباً متنافراً، لعله يكسبها انبهاراً لافتاً في تحريك النسق الشعري؛ أو المشهد الشعري المجسد باللقطة الغريبة أو اللمحة الشاذَّة، كما في قوله:

"مُسْكِرٌ كُلُّ ما قَدْ كَتَبْتَ
كأنَّكَ مَارَسْتَ في المِحْبَرَهْ، مهنةَ المِعْصَرَهْ"().

يمتاز هذا المقطع باختزاله اللغوي، ليرسم صدى اللوحة المرسومة في المقاطع السابقة معلناً خروجه عنها، إلى أسلوب المناورة اللّغويّة، والتلاعب الذهني بالأنساق اللغويَّة؛ كما في قوله: [المِحْبَرَهْ = المِعْصَرَهْ]؛ وكأنَّ الشاعر يباغت القارئ بسيرورة تشكيليَّة تزيد ألق الرؤية لديه، لتحفزه على التأمل في الاختراقات اللغويَّة الّلامتوقعة بين الأنساق التصويريَّة التي تصنعها المتجانسات، لخلق حركة نسقية متكاملة تهب الصورة دفقها وروحانيتها.

ويأتي المقطع العاشر، ليعلن تكامل اللوحة البصريَّة، وتجسيدها؛ بألق تشكيلي بصري؛ يشعرن اللقطات القريبة والبعيدة في آن، كما في قوله:

"هِيَ: غُرْفَتُكْ
كُلَّما في الصباحِ دخلتُ إليْهَا، بكيتُ كطفلٍ.
أخافُ رَحِيْلَكَ عَنْهَا وإغلاقُ شُبَّاكِهَا، والجُلُوسُ على بابِهَا في المساءْ
آهِ كَمْ سيكونُ حزينَ الصَّباحاتِ، إنْ غِبْتَ، هذا الشتاءْ.
آهِ، كيفَ سأَسْمَعُ دَقَّاً على البابِ بعد غيابِكَ. كيفَ سأفْتَحَهُ للخيالْ
هكذا، عندما يَرْحَلُونَ يعودُ الرجالْ
هو: يا لَغُرْفتِكِ الّلازورديَّةِ اللونِ مِثْلَ السماءْ
كُلَّما في الصباحِ دخلتُ إليها، بكيتُ كطفلٍ.
أخافُ رحيلكِ عنها، وإغلاقَ شُبَّاكِهَا، والجلوسَ على بابها في المساءْ
آهِ كَمْ سيكونُ حزينَ الصَّباحاتِ إنْ غبتِ، هذا الشتاءْ
آهِ كيفَ سأسمعُ دقَّاً على البابِ بعد غيابِكِ. كيف سأفتحُهُ للبكاءْ
هكذا مِنْ غِيَاباتِهنَّ تُعُودُ النساءْ"().

يعتمد الشاعر المحاورة النسقيَّة الكاشفة عن صدى غزليّ إيحائي، يشي بالتوق العاطفي، والترسيم التشكيلي الصياغي؛ ليغدو المقطع لوحة نسجيَّة متكاملة في تشغيل مادة التعبير الفني؛ مما يضفي على الحركة النسقيَّة صور جمالية، بإيحاءات شفافة، وحس عاطفي عميق، كما في قوله: آهِ كَمْ سيكونُ حزينَ الصَّباحاتِ، إنْ غِبْتَ، هذا الشتاءْ.

آهِ، كيفَ سأَسْمَعُ دَقَّاً على البابِ بعد غيابِكَ. كيفَ سأفْتَحَهُ للبكاءْ
هكذا مِنْ غِيَاباتِهنَّ تُعُودُ النساءْ".
ويأتي المقطع الحادي عشر؛ كاشفاً عن أبعاد اللوحة التشكيليّة، بصدى جمالي إيحائي عميق، كما في قوله:
"هو إيرُوسُ بآثِيْنَا. كَيُوْبيدُ
بِرُومَا. وهو كَامَا في بلادِ الهنِد.
خُفَّتْ قوسُهُ من سُكَّرٍ.
والسهمُ من زَهْرٍ.
وليس الوترُ الورديُّ إلاّ عسلاً.
يُغْرِقُ نَصْلَ السهمِ في القلبِ، فَيَغْدُو عاشقاً، مشتعِلاً بالشَّبقِ المالحِ، مَغْرُوراً ومَلْعُوناً.
وقد أعجبَ هذا الوَلَهَ الحلوَ إلهَ الحُبِّ.
كانَ السَّهْمُ قُرْبَهْ شكَّهُ حتَّى أصابَ السَّهْمُ قَلْبَهْ"().

هنا يمزج الشاعر – في هذه المقطع- التشكيل البصريّ؛ بالرموز الأسطوريَّة؛ لتكتمل اللوحة فنيًّا وتكتسب قيمتها الخارقة، مضفياً عليها إيقاع الغزل؛ بصور غزليَّة ترسم منحاها الجماليّ؛ بمهارة تشكيليَّة مشتقة من الطبيعة، ومفرزاتها الجماليَّة؛ بوميض شعوري عميق؛ وصور مبتكرة تمتاز بصداها التأملي وجدتها، ونحتها الجمالي، للأنساق التصويرية المشبعة بالإيحاءات والدلالات العميقة؛ كما في قوله: "خُفَّتْ قوسُهُ من سُكَّرٍ./ والسهمُ من زَهْرٍ./ وليس الوترُ الورديُّ إلاّ عسلاً./ يُغْرِقُ نَصْلَ السهمِ في القلبِ، فَيَغْدُو عاشقاً، مشتعِلاً بالشَّبقِ المالحِ"؛ إنَّ هذا الأسلوب التشكيلي يضع القارئ في معمعة الصياغة المدهشة التي تستقطب الشعور الغزليّ، بإيحاء ومضي سريع يشفُّ عن رغبةً، وإدراك، في خلق الموقف الغزلي؛ وتشعير أبعاده؛ بأنساق تشكيليَّة ترسيميّة وصفية دقيقة.

ويأتي المقطع الثاني عشر، كاشفاً عن أبعاد اللوحة التشكيليَّة، مشكلاً ألوانها، وخطوطها، بأوصاف دقيقة؛ معبِّراً عن جوّ الغريزة والحب، كما في قوله:
"شَهْوَتي غُصْنُ وردٍ، إذا هبَّتِ الريحُ ليس يلينُ، ولا يَنْكَسِرْ.
شهوتِيْ في غيابِكَ أنْقَى من امرأةٍ في الرُّخَامْ.
شهوتيْ امرأةٌ تنتظرْ، أو تنامْ"().

هنا،يعتمد الشاعر الترسيم اللوحاتي الدقيق في الكشف عن نيران الحب؛ بصور تميل إلى التجسيد البصري، والومض الشعوريّ الداخلي الذي يصطهج بالحب ونيرانه المشبوبة، فالجملة – لديه- ذات مداليل بصريَّة، وأنساق تشكيليّة، تضجّ بالغريزة الحسيَّة؛ لكنها، تحلق في عباب التألق التصويريّ للأنثى؛ كما في قوله: "شهوتِيْ في غيابِكَ أنْقَى من امرأةٍ في الرُّخَامْ./ شهوتيْ امرأةٌ تنتظرْ، أو تنامْ"، وهنا تكتمل أبعاد اللوحة، وأنساقها بخطوط متداخلة، وأوصاف تصويريَّة بصريّة دقيقة؛ معتمداً تداخل الألوان، والأحاسيس الداخلية؛ وعلى هذا؛ تبدو قصيدته اللوحة ذات أصداء بصريّة، ومحفزات شعوريّة داخلية؛ تحرك الإيقاع الداخلي والبصريّ للقصيدة.ولانبالغ في قولنا: إن قصائده الرومانسية- تزداد إثارة وفاعلية- في تشكيل لوحاته الفنية، وهو ما يكسبها جمالية في إيقاعاتها الداخلية وأنساقها التصويرية.

كما يأتي المقطع الثالث عشر شاعريًّا في رسم أبعاد اللوحة التشكيليّة؛ بصور كثيفة، ذات حيازة بصريَّة، وأوصاف دقيقة، كما في قوله:

"مَالِحٌ مِثْلَ فاكهةِ البَحْرِ.
حُرٌّ كعصفورِ حِبْرٍ.
قويٌّ كَصَوَّانِ خِصْرِ الخُيُول.
وذراعاكَ قوسانِ مِنْ جَدْلِ أليافِ برقٍ.
وفي جِسْمِكَ المُنْحَنِي مثلَ حكمةِ لُقْمَانَ رائحةٌ مِنْ خُزَامَى الحقولْ.
أيُّهَا الفارعُ العُمْرِ، لا سنديانُ الجبلِ أشدُّ.
ولا النبعُ أعمقُ.
حُرٌّ. رَضِيٌّ.
وفي راحتيْكَ مفاتيحُ أبوابِ كُلِّ الجهاتِ.
وحُرَّاسُكَ النِّيرانِ.
وعُمَّالُكَ الأوفياءُ الفصولْ.
كُلُّ ما فيكَ لَيْسَ يَزُولْ.
كُلَّما مسَّهَا الجوعُ للقمحِ، والعطشُ المرُّ للنهرِ، مدَّتْ إليكَ الأكُفَّ السهولْ.
لا تَكُنْ لغةً.
أجْمَلُ الصَّمتِ فيك. وبين يديكَ الوجودُ قد افترشَ الوقتَ يُصْغِي لِمَا لا تقول"().

يأخذنا الشاعر بلوحته التصويريَّة صوب الصور التشبيهيّة ذات المدّ التأملي المفتوح، لإثارة الرؤية التشكيليَّة، وتعزيزها بالمشاهد الرومانسيَّة التي تستقي جلَّ إمكانياتها من الطبيعة وسحرها؛ فالشاعر مسكون بهاجس التجسيد البصري الحسيّ للصور الشعريَّة، لتحريك نسقها الجمالي؛ لحيازة المداليل التصويريَّة الميئرة للمشهد الشعري بحيازة مطلقة؛ لخلق حالة من التنامي التشكيلي البصري بين التشبيهات الشعريَّة التالية؛ لتؤكِّد نضجها، وابتكارها الجمالي، كما في قوله: "مَالِحٌ مِثْلَ فاكهةِ البَحْرِ./ حُرٌّ كعصفورِ حِبْرٍ./ قويٌّ كَصَوَّانِ خِصْرِ الخُيُول./ وذراعاكَ قوسانِ مِنْ جَدْلِ أليافِ برقٍ./ وفي جِسْمِكَ المُنْحَنِي مثلَ حكمةِ لُقْمَانَ رائحةٌ مِنْ خُزَامَى الحقولْ"؛ والّلافت هذه القدرة الفائقة على اقتناص الصور الرومانسيّة التي تأخذ حيّزها الجماليّ من دهشة تشكيلها، وحسها الشعوري المرهف؛ ناسجاً لوحته بريشة فنيّة ساحرة؛ كما في قوله: "وذراعاكَ قوسانِ مِنْ جَدْلِ أليافِ برقٍ./ وفي جِسْمِكَ المُنْحَنِي مثلَ حكمةِ لُقْمَانَ رائحةٌ مِنْ خُزَامَى الحقولْ"؛ وهنا، نلحظ أنَّه لا يمكن أن يختلف اثنان على شعريّة قصائد جوزف حرب اللوحاتية ذات المد التأملي، والزركشة الفنيَّة، والقدرة على التلاعب بالأنساق، والألوان، والإيحاءات التشكيليّة، لتأتي صوره ذات مغزى فني من جهة، وحيِّز جمالي استقطابي للصور الشعريّة الفذة ذات التوثبات الفنية، والمراوغة التشكيليّة المثيرة من جهة ثانية؛ وهذا ما نلحظه على أشده في المقطع الأخير:

"قمرٌ..نائِمٌ سَهْمَ نَرْجَسَةٍ بين قوسَيْ أقاحْ،
أَيْقَظَتْهُ العواصِفُ ليلاً
فأغْلَقَ شَبَّكَهُ،
واحْتَذَى خُفَّ تُفَّاحَةٍ،
واْرتَدَى تَحْتَ مُرْخى عباءةِ تُوْتٍ قميصَ الصباحْ
فَتَحَ البابَ كي يَتَفَقَّدَ في حَقْلِهِ فِضَّةَ اللَّوزِ.
لكِنَّ فِضَّتَهُ طيِّرَتْهَا الرياحْ.
لم يَكُنْ ماجَ بَعْدُ جَنَاحْ...فَبَدَتْ في السَّوادِ البعيدِ كقامةِ زنجيَّةٍ رُصِّعَتْ بالجِراحْ.
فَبَكَىْ...ثمَّ نامَ بطيئاً وقَامْ لِيَرَى بازرقاقِ الضُّحَى لوزَ فِضَّتِهِ في بياضِ الحمامْ"().

تتأسّس مثيرات هذا المقطع على جماليَّة اللوحة التشكيليَّة التي يرسمها بإيقاع تشكيليّ فنّيّ يتأسَّس على توصيفات الطبيعة، وصورها الجماليَّة؛ لتكتمل اللوحة مشهديًّا بالأنساقِ التصويريَّة المبتكرة؛ لتأتي كل صورة أشيه بلوحة جزئيَّة متضافرة مع الأخرى؛ لتسهم في تشكيل اللوحة الفنية واكتمالها الجمالي، كما في قوله: "قمرٌ..نائِمٌ سَهْمَ نَرْجَسَةٍ بين قوسَيْ أقاحْ/ ...فَبَكَىْ ثمَّ نامَ بطيئاً وقَامْ لِيَرَى بازرقاقِ الضُّحَى لوزَ فِضَّتِهِ في بياضِ الحمامْ"؛ وهكذا، يرسم جوزف حرب المشهد الشعريّ؛ بإيحاءات تصويريَّة؛ تعتمد الصور التشكيليّة المراوغة؛ في حيِّزها التشكيلي، كما لو أنَّ الشاعر ينحت الصورة نحتاً متكاملاً جماليًّا وإيحائيًّا؛ والملاحظ أنَّ ما يقدِّمه جوزف حرب في قصائد اللوحة؛ ما هو إلاَّ تجاذبات تشكيليّة، منحوتة بجمالٍ تصويري، وألق شعوريّ، وتدفق عاطفي، يستثير الدفقة الشعريَّة؛ بعمق وشعورٍ ومضي متناغم، لتكتمل الرؤيا، ويكتمل التنسيق الجمالي لمشاهد اللوحة الشعريَّة، والجدير بالذكر أنَّ قصائد اللوحاتية الشعريَّة أو قصيدته(اللوحة) تمتاز بالنقط التالية على نحو ما حدَّدتها الناقدة خلود ترمانيني وهي:

"تتميَّز قصيدة اللوحة الشعريَّة بالتكامل والشموليَّة بحيث يتمّ استيعاب أبعادها كاملة بعد قراءة القصيدة، وهذا ينعكس على الإيقاع الذي يبدو مُوَحَّداً أو متناغماً مع التجربة الشعريَّة.

تدخل قصيدة اللوحة الشعريَّة في إطار التحديد المكاني؛ فهي تختار عناصرها من الواقع المنظور، ومن الطبيعة الخلاَّبة، وتتجاوزهما في الوقت نفسه. والمسافات المكانيَّة التي تشغلها الجمل الشعريَّة تولِّد إحساساً بالتعادل المكاني الذي هو في الوقت نفسه تعادل زماني يولِّد إيقاعاً متواتراً يمنح الصوت الذي نلفظه لحظة القراءة إيقاعاً يرسم المسافة الزمنيّة؛ وهذا يعني أنَّ انتظام اللوحة الشعريَّة مكانياً يعني انتظامها إيقاعيًّا بحيث يبدو الإيقاع سلساً يقودُ الخطوط، والتعابير، والألوان في تنقلات حركيَّة داعمة للمعنى الشعريّ المنشود.

مادة التعبير في قصيدة اللوحة هي الألوان والمسافات؛ والشاعر يستخدم اللون عن طريق الإيحاء بدلالاته التي يمكن استشفافها عبر السياق على اعتبار أنَّ تلاؤم الألوان والخطوط وانسجامها مع الفكرة الشعريَّة يشي بجماليَّة الإيقاع.
تعتمد قصيدة اللوحة على المتلقي الذي يعيد بناء القصيدة، وتشكيل ملامح اللوحة الشعريَّة عبر قنوات التخييل أولاً، ومقدرة المتلقي على استكشاف إيحاءات التشكيل اللغوي ثانياً"().

والملاحظ أنَّ القصيدة اللوحة – في تجربة جوزف حرب الشعريَّة- تمتاز بتنظيمها الفني، وتكاملها المشهدي، وتداخل خطوطها، وألوانها، وانسجام مثيراتها الفنيّة؛ بحيث تستحوذ على مدارك المتلقي بصريًّا، وشعوريًّا كما لو أنها مرسومة بريشة فنيَّة، لتبدو ذات إيقاعات نفسية وجماليّة مثيرة على المستويات كلها. ومن هنا "فإنَّ تركيب قصيدة الّلوحة في نسق منتظم يقوم – أساساً- على الانسجام والشموليَّة والحركيَّة المتناغمة مع تموجات الخطوط والمسافات؛ وهذا كُلُّه يحقِّق التناغم الذي يكفل لقصيدة اللوحة قيمتها الجماليّة المُتَمَثِّلة في المادة التعبيريَّة والدلالة الموحية معاً. ومن هنا؛ فإنَّ اللُّغة التي تُنَظِّم قصيدة اللوحة تبدو حُبْلَى بالإمكانات الإيقاعيَّة المعتصرة من الموازيات والتقابلات في الصيغ والألوان؛ وهذا ممّا يؤثر في وجدان المتلقي وذائقته النقديَّة الرفيعة"().وهذا ما تضمنته قصيدة جوزف حرب السابقة من تألف خطوطها، وظلالها وألوانها،وصورها،ومؤشراتها البصرية.

نتائج واستدلالات:

إنَّ قصيدة اللوحة – عند جوزف حرب- قصيدة جماليَّة، ترتسم رؤيتها بهندسة نسقية متفاعلة الخطوط، والألوان، والإيحاءات، والظلال اللونيَّة، والإيقاعات الداخليَّة؛ إذْ تتفاعل الشذرات التصويريّة فيما بينها بأنساق مؤتلفة تؤكد فنيّة القصيدة، وتنظيمها النسقي الفاعل لديه في إضفاء طابع جمالي منسق على اللوحة المشهديّة ككل، كما لو أنَّها مرسومة بريشة فنية دقيقة ترصد الأبعاد والمشاهد والرؤى بدقة متناهية للمتلقي.

إنَّ كل مقطع يشكل لوحة جزئية متكاملة - في القصيدة اللوحة عند جوزف حرب- وهذا دليل على مهارة شعريَّة فائقة في التقاط المشاهد؛ وترسيم أبعادها بعناية دقيقة، وقدرة بارعة في التقاط الصور، الجزئية، والتوليف فيما بنيها؛ لتبدو ذات تموجات فنية، وبصريَّة، تثير القارئ بصريًّا، كما تثيره إيحائيًّا وإيقاعيًّا.

تتفاعل - في القصيدة اللوحة عند جوزف حرب- الإيقاعات البصريَّة، بالإيقاعات الصوتية بالأنساق اللغويّة التصويريَّة؛ بإمكانات فريدة؛ تؤكد جدارة شعريته وجسارتها، وعمقها في بث الرؤى، وتكثيف المواقف، والأشكال التي تفرزها حركة الألوان والإيحاءات في قصائده التشكيليَّة ذات الترسيم اللوحاتي في حركتها وتماوج إيقاعاتها الداخلية.

لا يستطيع قارئ قصائده الموسومة بـ [قصائد اللوحة] من الوقوف على شائبة تصويريَّة، أو عثرة تشكيليَّة، أو هجنة إيقاعيَّة؛ لهذا تكتمل مثيرات قصائده اللوحة كلها في تعزيز جمالها وتناسق إيقاعاتها، كما لو أنها مُهَنْدَسَة فنيَّة لتأتي غاية في التفاعل، والتضافر، والانسجام؛ وهذا ما يُحْسَبُ لشعريّة جوزف حرب أنها ممتدة امتداد الأفق؛ تعايش عالم مفتوح غني بالمعارف، والمواقف، والإمكانات، والأيديولوجيات، والموروثات الأسطوريَّة المكتسبة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى