الثلاثاء ٢٣ آب (أغسطس) ٢٠١٦
مؤشرات الوعي الجمالي
بقلم عصام شرتح

في قصائد (أولئك أصحابي) لحميد سعيد

إن الوعي الجمالي يمثل ذروة سنام الرؤيا الجمالية؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إفرازها الإبداعي الخصيب الذي لا غنى عنه؛ فمن لا يمتلك حساً جمالياً مرناً أو مطواعاً فإنه- بالتأكيد- لا يمتلك وعياً جمالياً؛ ولا يمتلك رؤيا جمالية ولا يمتلك حساسية جمالية ترقى بمنتجه الإبداعي؛ فالكلمة- مثلاً - في الشعر، لتحقق أثرها الجمالي ووعيها المؤثر:" يجب أن تكون أحسن كلمة تتوافر فيها عناصر ثلاثة: المحتوى العقلي، والإيحاء عن طريق المخيلة، والصوت الخالص، ويجب أن يكون اتصالها بالكلمات الأخرى اتصالاً إيقاعياً، بحيث يؤدي هذا التكوين الإيقاعي إلى الغاية المطلوبة"().

ومن أجل ذلك، يعدُّ الوعي الجماليّ عنصراً رئيساً لامتلاك الرؤيا الجمالية، ولا يمكن أن تتبلور الرؤيا الجمالية بشكلها الفاعل المؤثر إلا عندما تنتج إبداعاً واعياً، أو رؤيا منطقية في ترجمة مخزون العمل الفني، وهذا ما ينطبق على الوعي الجمالي في عملية تشكيل النص الأدبي، بوصفه فناً جمالياً رائقاً؛ فلغة الشعر - مثلاً - لتمتلك خاصيتها الجمالية المؤثرة لا بد وأن يكون:" لها شخصية كاملة تتأثر وتؤثر، وهي تنقل الأثر من المبدع إلى المتلقي نقلاً أميناً، وليست المسألة مجرد نقل أمين فحسب، ولكنه النقل الأمين عن المبدع؛ عندما تفكر أولاً وقبل كل شيء ، باعتباره فرداً . لذلك كانت لغة الشعر ممتلئة بالمحتوى الذي تنقله نقلاً أميناً. وهي بعد لغة فردية، في مقابل اللغة العامة التي يستخدمها العلم، وهذه الفردية هي السبب في أن ألفاظ الشعر أكثر حيوية من التحديدات التي يضمها المعجم؛ والألفاظ الشعرية تعين على بعث الجو بأصواتها، فالعلاقة بين الأصوات في الشعر - كما الموسيقى تماماً- يمكن أن تثير متعة تذوق الانسجام الحي، سواء بالأجزاء المكررة، أو المنوعة، أو المناسبة"().
وعلى هذا؛ تظهر قيمة المنتج الفني بمقدار الحيوية التي يثيرها في النص الإبداعي عبر الوعي الجمالي والحس المعرفي في ترسيم الأشياء بحدتها الجمالية الإبداعية؛ فالمنتج الجمالي هو وليد لحظة شعورية جمالية، ولَّدها الفنان إزاء إحساسه الوجودي؛ يقول عالم الجمال (أديلون ريدون):" إن المصور الذي انتهى مرة أخيرة إلى إيجاد وسائله الفنية لا يرضيني. فهو يستيقظ كل صباح دون حاسة، ليمارس العمل الذي بدأه بالأمس في هدوء وطمأنينة. هذا الرجل أشك في أنه يشعر بضيق ما، هو نفس الضيق الذي يشعر به عامل يستمر في مهنته التي لا يضيئها وميض جديد غير متوقع، وهو لا يشعر بالألم المقدس الذي ينبع من اللاشعور، والمجهول، ولا ينتظر شيئاً مستقبلاً... إني أحب ما لم يسبق ظهوره أبداً"().

وهذا يعني أن المثير الضاغط والوعي بهذا المثير هو الذي يحرك الإحساس الجمالي؛ ويولد لذة المنتوج الفني، وهذا يؤكد أن الوعي الجمالي المؤثر أو المُنتَج الإبداعي المثير هو الذي ينتج فجأة، ولا يتوقع ظهوره على هذه الشاكلة الفنية أو تلك إطلاقاً. فالذي يهب الفن بذرته الإبداعية الجمالية اللذة التي يولدها عبر عنصر المباغتة والمفاجأة التي يخلقها في المنتج الفني محققاً متعة ما أو لذة معينة، تأنس إليها الروح وتترك فيها بصمة إبداعية أو لذة ما.

فاللوحة الفنية تتولد في نقطة تقابل بين قوى ثلاث تسيطر إحداها على الأخريين أياً كانت، تبعاً للأحوال، ونقصد بالقوى الثلاث هي:" قوة التنظيم الشكلي، والحب الشديد للحقيقة، وتدفق الحياة الداخلية"(). فالرؤيا الجمالية، إذاً، في المحصلة، هي إحساس جمالي في تشكيل المنتج الفني، لذلك؛ فإن عين المبدع لا تلتقط المشهد بصرياً، بقدر ما تلتقطه إحساساً ونبضاً شعورياً ينبع من دماء القلب، وعصارة الخبرة الوجودية الجمالية في الانفتاح على العالم والخلق والكون؛ يقول الفنان التشكيلي" مني سير": " إن لوحاتي تريد أن تكون شاهداً على كل شيء يعيشه القلب، لا أن تكون تقليداً لشيء وتراه الأعين"().

ومن هذا المنطلق؛ فإن الوعي الجمالي هو عصارة خبرة جمالية، وإدراك عميق في تقييم المنتج الجمالي بما يولده من رؤيا جديدة، وإحساس شعوري جديد، وإن عين المبدع لا تلتقط الأشياء التقاطاً سطحياً ساذجاً، أو مجانياً، وإنما تلتقطه بإحساس القلب؛ ونبض الروح؛ ومن أجل ذلك ؛فإن المنتج الجمالي المؤثر هو الذي لا ينتج معناه بالكامل، ولا يكشفه للقارئ بشكل مباشر أو مجاني؛ وإنما يترك جانباً مهماً فيه للإيحاء، والكشف ، والاستدلال؛ والإحساس الجمالي؛ يقول الفنان التشكيلي( سترندبرج) :" يجب علي أن ألاحظ أنه علينا أن ننظر إلى اللوحات المرسومة في فضاءات نصف معتمة لا تحتمل ضوءاً كاملاً إلا بوساطة علاقة نارية فورية، أو فضاءً نصفَ معتمٍ وما ينتج عن ذلك، متروك نصفه للصدفة، كما أيضاً لكامل الدافع الفني"().

وهذا يعني أن الفن الجمالي لا يبيح منتوجه للكشف الساطع المباشر؛ فهو مضيء لجوانب، ومعتم لجوانب أخرى؛ وهذه العتمة أو المنطقة التي يسكنها الظل في المنتوج الإبداعي هي التي تحفز المتلقي، وتدفعه إلى مغامرة الكشف، ولعبة الاستدلال؛ ولذلك؛ فإن الخبرة الجمالية -لدى المتلقي- لا تقل قيمة ولا أهمية عن القيمة الجمالية لدى المبدع من حيث الحساسية، والمهارة، والخبرة ، لدرجة أنه لا غنى لأحدهما عن الآخر في عملية التقييم الجمالي الأصيل؛وهذا يعني أن الإحساس الجمالي نابع عن إدراك حقيقي، ووعي بارز بالقيم الجمالية لكل منتج إبداعي أصيل؛ وبهذا المقترب المحايث لمنظوراتنا تقول الناقدة خلود ترمانيني:" إن إدراك النص الشعري يتطلب معرفة واسعة؛ يتخللها حس جمالي يمكنه استكناه ما وراء اللغة الشعرية من إيحاءات ودلالات؛ وهذا تابع للتأثير، وقوة المثير المتضمن للنص الشعري، وعلى هذا الأساس يؤثر النص في المتلقي جمالياً حين يغير من معرفة القارئ، ليفتح أمامه مجالات واسعة النطاق تعمق صلته بما حوله من أشياء، وهذا يمنحه نشوة ذاتية تندمج في عناصر النص الشعري، وكأنها جزء من طبيعته، وعندئذٍ يحسب المتلقي بعد ملامسة النص الشعري، بأن النشوة التي اجتاحت أعماقه في أثناء عملية القراءة انبثقت من النص نفسه وصادرة عنه لا عن التلاحم الذي يتم في أعماقه الشعورية؛ وهاهنا؛ يتجلى تأثير المتلقي في النص أيضاً من خلال تحويله إلى نص مفتوح تتعدد تأويلاته بتعدد قرائه"().

ومن هذا المنظور؛ فإن الوعي الجمالي- لدى المتلقي- يسهم في الكشف عن الكثير من المفاتيح الجمالية للمنتج الفني، بما يتضمنه من قيم، ومثيرات، ومرتكزات فنية، وهذا - من منظورنا- يتوقف على مهارة المبدع، وخبرته الجمالية في الحكم الجمالي على منتجه الفني؛ وإحساسه الجمالي لحظة تشكيله؛ومدى تفريغ الطاقة الشعورية الضاغطة لحظة المخاض الشعري؛ فالمبدع حين ينتج نصاً إبداعياً مؤثراً فهذا يعني حتماً امتلاكه لرؤيا جمالية ووعي جمالي فني بالعمل الإبداعي المنتج؛ وهذا ما ينطبق على كل من المبدع والمتلقي؛ فالشاعر- مثلاً -حين ينتج نصاً شعرياً دسماً على الصعيد الفني فهذا يعني وصوله إلى أعلى درجات الوعي، والإحساس الجمالي بوقع الكلمات، وترسيمها فنياً في قوالب شعرية مؤثرة تتبدى في نسق كلامي مموسق، بإيقاعات نابعة من أصداء الروح، وليس من رنين الكلمات فحسب، وهذا- بدوره- ينعكس على المتلقي؛" فالمتلقي حين يعايش التجربة الشعرية، فيدخل في علاقات جمالية متناغمة، ومنسجمة ، مما يحدث أثراً جمالياً خاصاً لا يلبث أن يتحول إلى إحساس بالارتياح ناجم عن تمثل الحركة الإيقاعية التي تصدر عن النص الشعري، وهذا يعيد التوازن إلى المتلقي، حين يتحقق التأثير العقلي، والنفسي، والجمالي من خلال نقل الفكرة إلى العقل، وبعث السرور في النفس، وهاهنا تنفتح أزاهير الشعر، وتتحرك إيقاعاته في جو من الجلال الشعري الأخاذ الذي يلج حنايا القلب دون عناء"().

وهذا يؤكد لنا: أن الوعي الجمالي يعد أساً جمالياً مهماً في روز المنتج الجمالي روزاً فنياً دقيقاً، لإدراك قيمته الجمالية ومنتوجه الإبداعي المؤثر؛ يقول عالم الجمال ( جيمس) :"إن ما يمكن أن نحس به في اللحظة التي يثيرنا فيها الجمال عبارة عن وميض، ودقة في الصدر، ورعشة، وتنفس عميق وخفقان في القلب ، وهزة في الظهر، ودموع تأتي من العيون ، وألم في أسفل البطن.. وعدا ذلك من آلاف الأعراض التي يمكن إدراكها وتسميتها"().

وهذه الأعراض المذكورة هي إفراز طبيعي للناتج الإبداعي الذي يثيره المنتج الفني من لذة جمالية، وإحساس دافق في نفس المتلقي، إثر تلقيه الفاعل للمنتج الجمالي؛ وهذا ما أشار إلى بعض منه الناقد الجمالي (بيرجسون)؛ إذ يقول:" إن الإدراك الحسي نوع من الراحة والسهولة في الحركات الخارجية؛ ويرجع إلى الشعور بالانسجام، بمعنى أن الجهد الذي يبذله الفنان ينحصر في تحديد الحركات التي يقلدها جسمنا آلياً، ورغم أنها خفيفة؛ بحيث تضعنا فجأة في الحالة السيكولوجية التي أثارتها والتي لا يمكن تعريفها أو تحديدها"().

وتبعاً لهذا؛ فمن الخطأ، بل من المجازفة القول: إن الإدراك الجمالي هو الذي يحدث اللذة الجمالية، فالذي يحدث اللذة الجمالية شيء ما غامض في داخل حركة المنتج الفني الجمالي حتى أثارنا وجعلنا نتفاعل معه مرددين أصداءه الجمالية، بشعور عجيب خارج عن نطاق وعينا ، أو حتى إدراكنا الحسي، وتمثلنا له. وهذا دليل:" أن الشيء الجميل شيء لا يختص به العقل وحده"، وهذا رد على مقولة برتليمي الذي يقول:" إن الشيء الجميل يختص به العقل، ولن يصعب علينا أن نثبت أن إدراك الجمال في جميع الفنون، ومنها الموسيقى، مرتبط بإدراك علاقة ما أو نسبة ما"(). وهذا يتبع بالضرورة مدى الوعي الجمالي في تقييم المنتج الفني والحكم عليه جمالياً، ولذلك؛ فإن الوعي الجمالي يعد الأساس الجمالي الأبرز أو الرائز الجمالي الأسمى في الحكم على قيمة المنتج الفني جمالياً؛ ومن أجل ذلك يعد الوعي الجمالي -الدرجة الأولى-في سلم تقييم المنتج الإبداعي، والحكم عليه بمنظار فني دقيق؛ وهذه الملكة الجمالية هي التي تمنح المتلقي معياره الفني اللائق؛ ومقصديته المعرفية في التقييم الإبداعي الخلاق.

مؤشرات الوعي الجمالي في قصائد( أولئك أصحابي) لحميد سعيد:

لا شك في أن الوعي الجمالي من القيم البارزة المهمة في كشف ملامح الخصوبة الشعرية في قصائد( أولئك أصحابي)؛ هذه القصائد التي تنطوي على مرجعية جمالية في إثارة النص الشعري، من حيث عمق الرؤيا، وجمالية المتخيل الشعري في المحاورة، والمناورة بالأحداث والمشاهد، والشخصيات الروائية، لتكتسب منظورات جديدة، ورؤى مبتكرة غير متوقعة أن تشغلها في الفضاء الشعري على هذا النحو الفني الجمالي المؤثر؛ ولهذا؛ لا عجب أن تستحوذ هذه القصائد على الكم الغفير من الدراسات،والكشوفات النقدية المتداخلة والمتعارضة، في مضمار القصيدة الواحدة،والشخصية المفردة، ومن يدقق في هذه القصائد سرعان ما يدرك أن الشاعر حميد سعيد يستلهم من هذه الشخصيات الروائية معالم رؤيوية جديدة، وكأن القصيدة -لديه -تجربة حياتية تعيش معه،وتتنفس من معالم حياته، ودفق وجوده الشيء الكثير، ولا نبالغ إذا قلنا: إن لهذه القصائد حيواتها الخاصة في الكشف، والمماحكة، والمحاكمة الوجودية، إنها ليست علاقة شاعر بشخصية روائية، وأحداث روائية مستعادة، بفواعل تخييلية عالية الإيحاء، والتركيز،ولكنها علاقة وجود، وحياة، ومصير، أي إن الذي يجمع الشاعر بهذه الشخصيات هو وحدة الشعور والمصير، فالمصير الذي تعيشه شخصية (الكولونيل) هو نفس المصير الذي تعيشه شخصية (مدام بوفاري) في المعاناة والمكابدة الوجودية، الأول في تحصيل راتبه التقاعدي الذي حجب عنه بسبب تعطل بريده الالكتروني، وعدم وصول رسائله، والثاني في الفوران الشعوري والاتقاد المعرفي وتفاوت القوى المعرفية والطاقة الخلاقة التي تملكها (مدام بوفاري) من جهة، وحالة العجز التي يعانيها زوجها، وعدم إشباع نهمها العاطفي، واتقادها المعرفي من جهة ثانية، وهذا يعني أن فواعل الوعي الجمالي هي التي تفعِّل هذه الشخصيات، وتنمي من فاعلية أدوارها، ورؤاها ضمن النطاق النصي؛ بمعنى أن فاعلية الوعي الجمالي تظهر في المنتوج الرؤيوي الجمالي الذي تظهره هذه القصائد في حراكها النصي على مستوى الأحداث، والمشاهد، والمواقف الشعرية والشعورية المكثفة؛ إذاً إن الخيط الجمالي الذي يربط سلسلة قصائد ( أولئك أصحابي) هو الوعي الجمالي في تشكيلها وإثارتها ضمن القصيدة، وأبرز مؤشرات الوعي الجمالي في هذه القصائد ما يلي:

1-عمق الحدث وقوة الإيحاء،والحبكة النصية المحكمة:

إن أبرز مؤشرات الوعي الجمالي في قصائد (أولئك أصحابي) عمق الحدث، وقوة الإيحاء، والحبكة النصية المحكمة التي تنقل الحدث من مجرد وصف آني للشخصية والمشاهد السطحية، لتدخل عمق الرؤيا، أي عمق الموقف والحدث (الشعري –الروائي) الذي يقوم على حراك الشخصية الروائية، لتنبض بالوعي والكشف الباطني عما تخفيه الشخصية من أحداث ومواقف عاصفة تمر بها الشخصية الروائية في حركتها الإبداعية ومواقفها الوجودية، وكأن الشخصية الروائية نقطة تمفصل الحدث بكل مضمراته، ومحركاته الشعورية، ومواقفه المحتدمة، وأبرز القصائد الدالة على مؤشرات الحدث، وقوة الإيحاء، قصيدة( يسأل عوليس إلى أين سأمضي)وفيها يتمثل شخصية القبطان( إيهاب) بطل رواية( موبي ديك) لهيرمان ملفل، وهنا، تظهر مؤشرات الوعي الجمالي في صوغ الحبكة الشعرية، بإحساس جمالي، ووعي فني بالحدث الشعري المؤثر، وحراكه الشعوري؛ وهذا يعني أن القيمة الجمالية للوعي الإبداعي تتمثل في تجسيد الأحداث، ورسم الحبكة الشعرية الموفقة في تفعيل الشخصية والإحاطة التامة بالموقف والحدث الشعريين، يقول الشاعر على لسان شخصيته الروائية:

يسألُ عوليسُ .. إلى اين سأمضي؟
لا مكانَ لي..
وليسَ لي من سفنٍ تُعيدني إلى فردوسي البعيدِ..
إيثاكا.. التي تعثّرت بأبجدية الأحلام
لو عدتُ إليها..
مَنْ سيعرفُ القادمَ من متاهةٍ خرساءْ؟
عامَ ركبتُ البحرَ..باتجاه ضفةٍ أخرى..
وجدتُ الضفةَ الأخرى..
تعدُّ ما يُعَدُّ للرحيل ..
فإلى أين سأمضي؟
لامكانَ لي..
بنيلوب ماتت.. واستُبيحَ نولُها
المياهُ فارقتْ لغتها الأولى..
تصحَّرت ضفافُ آخر القصائد البيضِ..
غزاها الرملُ والرمادُ..
وادّعاها السادةُ السماسرهْ"(12).

إن فاعلية الوعي الجمالي تظهر في قوة تجسيد الحدث، وحراك الحدثين الواقعي والأسطوري ،فالشاعر استطاع أن يجسد شخصيته الأسطورية( عوليس) بكل ملامحها المستقاة من الواقع الأسطوري، واستطاع أن ينقل الحدث الأسطوري إلى الحيز الواقعي، واستطاع أن يحرك الأسطورة بملامحها الخاصة، والواقع الجديد الإحالي الذي أكسبها شاعرية الوعي، والحس المعرفي، والنبض الجمالي، وهنا، يحكي الشاعر على لسان شخصيته الروائية كل تفاصيل الحبكة والحدث الروائي، من ضياع زوجته( بنيلوب) وضياع ملكه، وإحساسه المرير، لدرجة أن الحدث الشعري يبدو انعكاساً للحدث الروائي، والواقع الشعري يبدو انعكاساً للواقع الروائي في حركة بانورامية مفتوحة على كل الاحتمالات، والرؤى، والإحالات الجديدة، وهنا، تبدو شعرية الحدث، وشعرية الموقف الجمالي الذي جسدته الشخصية الروائية، برؤاها، ومحركاتها الشعورية المأزومة على شاكلة قوله:( بنيلوب ماتت.. واستُبيحَ نولُها المياهُ فارقتْ لغتها الأولى.. تصحَّرت ضفافُ آخر القصائد البيضِ.. غزاها الرملُ والرمادُ.. وادّعاها السادةُ السماسرهْ)؛ وبتقديرنا: إن فاعلية الوعي الجمالي تظهر في عمق الحدث، وقوة الإيحاء الذي يحرك أحداث القصيدة، ويعمق فاعلية الشخصية الروائية في إبراز شعرية الحدثين(الروائي/ والشعري) في آن معاً.

والمثير- حقاً- أن الموقف الشعري يزداد قوة وإثارة وشاعرية كلما تعمق القارئ في متابعة حيثيات الرؤيا بتفاصيلها الجزئية في القصيدة، وكأن الشاعر يدرك بقوة الحدث وشعرية الموقف عمق الموقف الشعري المتخيل، والتمثل الروائي للأحداث والمواقف والرؤى الجديدة التي انطوت عليها الشخصية الروائية، أي إن ثمة وعياً جمالياً موقظاً في ترسيم الحدث وتعميق الموقف، ونقل الشخصية من جوها الروائي- الأسطوري الساكن، إلى جوها الرؤيوي الإيحائي المتحرك، كما في قوله:

"تقتربُ البحارُ ..
من أولئك الذين سطّروا الملاحمَ الأولى..
على طين البلادِ
يهربونَ..
أغلقوا الأبوابَ في المنافي..
واستجاروا.. بانتظار ما سيأتي..
كانَ عوليسُ هو الوعدُ الذي صارَ بعيداً
إذ رأى أقراطَ بنيلوب .. تُباع..
اختلط ال..
وصار كلُّ وغدٍ يكتب اسمه.. في العشرةِ المبشَّرهْ
في ضنكِ الحدائقِ المهجَّرهْ
تُحَرَّمُ الألوانُ.. هذا شجرٌ مغتربٌ
يُعَدُّ في مهجره الكئيب.. من سلالة الأقنانْ
كان الأخضرُ الرزينُ في طريقه إلى منازل الأصحابْ
غيرَ أن الريحَ أوقفتهُ..فمضى..
منكسراً..
على امتداد الغاب.. كانت الذئابُ
تعوي.. والطيورُ في ارتيابْ
من ذا الذي يُدِلُّ عوليسَ..
ومن سَيُطلِقُ الأمواجَ من قيود الملحِ..
مَنْ يُحَرر الإنسانَ من هذا الهراءِ
مَنْ سيُبعدُ الصَبا الجميلَ.. عن نشاز الندب والبكاء؟"(13).

هنا، ينقل شخصيته الروائية من جوها الملحمي الأسطوري، ليدخل في محاورة حدثية واعية بدورها ومؤشرها الجمالي عبر محايثة الحدث الراهن الذي يعيشه الشاعر في واقعه الجديد ،بربط الواقعين معاً (الواقع الشعري/،والواقع الروائي)، أي إن القيمة الشعرية ماثلة في تعميق الحدث ودرجة الوعي الجمالي في تحريك الأحداث الأسطورية، وربطها بالأحداث والرؤى الواقعية، دون أن تغيب ملامح الأسطورة بحراكها الشعوري، وانفتاحها الجمالي:(كانَ عوليسُ هو الوعدُ الذي صارَ بعيداً /إذ رأى أقراطَ بنيلوب .. تُباع../اختلط ال.. وصار كلُّ وغدٍ يكتب اسمه.. في العشرةِ المبشَّرهْ/في ضنكِ الحدائقِ المهجَّرهْ" ولهذا، تبدو محركات الحدث قائمة بقوة دفق الرؤيا ومصدر حراكها الجمالي والشعوري المكثف، فالشاعر هنا لايرصد أحداثاً مروية مباشرة كما يبدو للبعض ،وإنما يرصد مشاعر وأحاسيس مضمرة إزاء إحساسه الجمالي بهذه الشخصية، ومستوى وعيه بدورها وإحساسه بها وجوداً قائماً لا خيالاً شعرياً أو روائياً مستهلكاً، أو ساكناً، على شاكلة قوله:

تلوحُ إيثاكا.. كما ودّعتُها من قبلُ
لكنَّ الذي يلوحُ لي.. ليس الذي كانَ
متى تعودُ إيثاكا.. إلى أيّامها..
إليكَ..
انتزعت طروسَها الظلالُ..
وتعثَّر التاريخُ..
هذه مدينةٌ أخرى.. وقد تكون كذبةً أخرى
وقد تكونْ
لها على عوليس ماله عليها.. وبها من الجراح مابه..
وبانتظاره..
تؤجِّلُ اقترانها بما تبقى من ملاحمٍ..
وبانتظارها.. يؤجِّل الرحيلْ
بعيدةٌ حدائق الأحفاد..
من سيجني ثمراً مخاتلاً .. منها
ومن يدقُّ باب الريحِ.. من يفتحُهُ ؟!
يُطِلُّ من ذرى منيعةٍ..
يرى ما تفعلُ الإرضَةُ بمدائن الأجدادْ
بعيدةٌ حدائق ُ الأحفاد..
لا أراها..
اغتربت مياهها.. واغتربت طيورها.. واغترب المطرْ
من أيِّ بابٍ في خريفها سيدخل الشجر؟"(14).

إن الوعي الجمالي يبدو في تشكيل الحدث، وتعميق الموقف الجمالي؛ فالشاعر يدرك تماماً أن اللعبة الشعرية تتمثل في استحضار مثل هذه الشخصيات والتفاعل مع مواقفها، وأحداثها، ومنظوراتها ورؤاها، وإن لهذا الاستحضار أثره الخاص على الخارطة الإبداعية الجديدة، لهذا ،استطاع أن يجند حميد سعيد كل مدركاته الإبداعية الواعية لنقل الشخصية إلى عالمه وتحريكها برؤاه، ومواقفه الوجودية، ومن هنا، يربط الشاعر واقع شخصيته الروائية بواقعه الاغترابي المأزوم، فكما ضاعت(إيثاكا) مدينة شخصيته الروائية(عوليس) ضاعت مدينته بغداد، فالواقع - وإن اختلف زماناً ومكاناً- فإنه لا يختلف حدثاً،وواقعاً،وشعوراً، ووحدة مصير، فكلا الملكين ضاعا، وكلا المدينتين غدت موئلاً للخراب، والدمار، والسماسرة، والأوغاد؛ وهذا يعني أن قوى الوعي الجمالي في ربط الأحداث، والشخصيات، والمواقف، وتعزيز الحراك الجمالي هي التي حفزت الشخصية الروائية، وعززت من شعرية الموقفين الروائي والشعري في آن معاً.
واللافت أن قوة الحدث وفاعلية الحبكة الروائية - الشعرية هي التي حفزت القصيدة، وزادت من إثارة المشهد الشعري، فالشاعر يملك أعلى درجات الوعي الجمالي في التلاعب بالمواقف والأحداث بما يحقق لها الاستثارة والتأثير، سواء بتكثيف الأحداث المكتسبة من الأجواء الروائية، أم بإضفاء بعض الملامح الجديدة على شخصيته الروائية، لتبدو في حراك جمالي كاشف عن واقعين متحايثين، أو متشابهين:( واقع روائي متخيل- وواقع شعري راهن(معاصر/ وآني)؛ ومن تلاحم الواقعين معاً تتفاعل المؤثرات، والمواقف الشعرية الجديدة. وهذا ما يعكسه الواقع الجديد الذي يرصده الشاعر بحراكه الرؤيوي، كما في قوله:

" يسأل عوليس.. إلى أين سأمضي ؟
كلَّما اقتربتُ من أسئلتي.. تبعدُ إيثاكا
تعبتُ..
كلّما اقتربتُ منها.. ابتعدَتْ
ما عدتُ أختارُ العشيّات لألقى من أُحبُّ..
في رحابها..
أو أُبعدُ العناكبَ الفظّةَ عن أبوابها
تغدو الكوابيسُ إذا ما اقتَرَبَتْ منها.. دليلاً حذراً
في ليلها أرى الدمَ المُراقَ في عليائه..
على القبابْ
وفي النهار.. تملأُ الشوارعَ الخائفةَ الذئابْ
أيتها المدينة التي ما دجّنتها الخطبُ العصماءْ
ولا العمائمُ التي يضجُّ في طيّاتها الرياءْ
ولا الأكاذيب التي تئنُّ منها.. الكتُبُ الصفراءْ
لربّما يدقُّ بابَ الريحِ عوليسُ.. افتحي
أيتها المدينة التي.. تسهرُ بانتظاره..
الأبوابْ"(15).

هنا، تتحرك قوى الوعي الجمالي الموحية على أكثر من محور، أو اتجاه، ولذلك؛ تتحرك الشخصية الروائية بلسان الشاعر، ليبث على لسانها الكثير من التفاصيل الجزئية، متحدثاً بواسطتها عن واقعه وواقعها، وشعوره وشعورها بدمج الواقعين معاً، بل يدمج الموقفين، والرؤيتين في خانة رؤيوية واحدة:(كلَّما اقتربتُ من أسئلتي.. تبعدُ إيثاكا/تعبتُ.. كلّما اقتربتُ منها.. ابتعدَتْ/ما عدتُ أختارُ العشيّات لألقى من أُحبُّ..في رحابها..أو أُبعدُ العناكبَ الفظّةَ عن أبوابها)؛ولذلك، تزداد قيمة الحدث، وفاعلية الحبكة الشعرية في تعضيد الموقف الشعري، ومن هنا، يرصد الشاعر الكثير من مفاسد الماضي، ليعكس من خلالها مفاسد الحاضر، والواقع الراهن، ولذلك، تلتحم الأحداث، والمواقف، والرؤى الجديدة،لتشير إلى واقع الشاعر وزمنه الحالي، ولا عجب أن تستحوذ هذه القصائد على محركات شعورية عميقة تبين درجة الوعي الجمالي في صوغها، ورصد أحداثها، بقيم جمالية ترقى بالحدث، والموقف، والشعور والنبض الجمالي الذي يتحرك على كم هائل من القيم، والرؤى، والمحركات الجمالية. وهذا يدلنا إلى أن " الإبداع لا يصل إلى الذرى بالموهبة فقط، وإنما بثراء المصادر، وحيوية الأدوات الإبداعية"(16). وخصوبتها في التعبير عن الموقف الشعوري. والوعي الجمالي في التشكيل النصي.

وبتقديرنا: إن عمق الحدث، وقوة الإيحاء، والحبكة النصية المحكمة من محركات الشعرية التي تشتغل عليها القيم الجمالية في هذه القصائد، أي أن شعريتها تتجاوز منطوقها المباشر، لتشتغل على مبتكرات الرؤيا النصية الفاعلة، ومحركاتها ضمن النسق الشعري؛ وأبرز هذه المحركات فواعل الحدث، والمشهد الشعري المكثف،وهذا ما عزفت عليه هذه القصائد إيقاعاتها الرؤيوية والجمالية كافة لاسيما في تعضيد الموقف والرؤيا الشعرية في أكثر من مشهد أو موقف، أو سياق بارز يشهد تكثيف الأحداث المحيطة بالشخصية،وفواعلها الرؤيوية الكاشفة عن اغتراب الشاعر وحرقته الزمكانية على واقعه ومصيره الراهن الذي آليه في ظل ظروف عاصفة قاسية لا يتحملها إلا العظام من المفكرين والمبدعين.

2- الحدث الجمالي/ والموقف الجمالي:

إن الحدث الجمالي والموقف الجمالي من مؤشرات الوعي الجمالي الذي ترتكز عليه قصائد(أولئك أصحابي) في تشكيل رؤيتها، ومحرقها الجمالي، فهذه القصائد ليست مجرد استدعاء للشخصيات الروائية ومحاورتها، واعتصار مكنونها الجمالي الآسر؛ وإنما هي قصائد تشتغل على حراك بنى السرد، وفواعل الحدث، ومؤثرات الحوار؛ ولهذا، تشتغل هذه البنى على محركات الحدث، وحراك الموقف الشعري، والحبكة الشعرية التي تسير على منوال فني متطور من الإثارة، والتفعيل النصي؛ فالشاعر حميد سعيد يعي أن اللعبة الشعرية في شعرية هذه القصائد تتمثل في محاورتها، والكشف عما تخفيه أو تضمره في عالمها الوجودي، الذي شكلته رؤى الكاتب، ومنظوراته، ومواقفه في تعامله مع الشخصيات الروائية البطلة، بوصفها شخصيات حية تعايش معها الشاعر؛ وكأنها وقائع وأحداث جارية في واقعنا الراهن.

والجدير بالذكر أن فواعل الحدث الجمالي -في هذه القصائد- تتأسس على الوعي الفني في تشكيلها، ونقلها من حيز ما هو سطحي ومألوف في رصد مجريات الأحداث، ونقلها إلى حيز وجودي جمالي آسر؛ يقوم على تفعيل الأحداث الروائية، ودمجها بالأحداث الشعرية في جيز بانورامي مكثف من الرؤى والدلالات الجديدة؛ ودليلنا على ذلك شخصية( الكولونيل) من خلال دمجها في سيرورة الأحداث المتحركة:(الروائية / والشعرية)؛ وهذا يعني أن الفكر الجمالي الذي يمتلكه حميد سعيد أسهم في إضفاء لمساته، ومشاعره ورؤاه في تحريك الشخصية، وإثارة ملامح ورؤى جديدة، تؤكد موقفه وتعاطفه الإنساني مع الشخصية الروائية في قصيدته(ثم وجد الكولونيل من يكاتبه)،والدليل على ذلك تفاعله مع الشخصية موقفاً وإحساساً وجودياً محتدماً، وأبرز ما يدل على ذلك عنوانها(ثم وجد الكولونيل من يكاتبه):

"بعد َ كلِّ الذي اقترفَتْهُ العناكِبُ..
إذْ لاحقَتنا إلى النومِ
ها أنذا التقي الكولونيل .. بعد غيابٍ طويلْ
أرى فيه.. ما لمْ أَكُنْ قد رأيتُ من قبلُ..
هذا العزوفُ عن البحرِ..
لا الذكرياتُ التي ظلَّ يفتحُ فيها نوافذَ..
يدخلُ منها الذي كانَ.. يوقظهُ حين يغفو
ولا أحدٌ من سعاة البريد يعرفُهُ..
إذْ تلاشى النظامُ البريديُّ..
مُذْ صار لا يتذكّرُ أنَّ له مَنْ يُكاتبُهُ"(17).

إن شعرية الحدث الجمالي تتبدى في الصوغ الفني الدقيق للأحداث؛ والرقي في نسقها الشعري؛ فالقيمة الجمالية للنسق الشعري تتبدى في محاورة الشخصية الروائية، ليكون الشاعر العنصر المتحرك في القصيدة، والكاشف عن مضمار الشخصية، والأمل المتحرك الذي تثيره في بانوراما الأحداث المتحركة؛ فالشاعر ليس شخصية غريبة عن أجواء الرواية؛ إنه اللسان الناطق بها؛ وهو الصوت المتحول الذي تتحرك من خلاله الشخصية الروائية، فالكولونيل بعدما تعطل البريد، ولم يجد من يكاتبه، كاتبه الشاعر، ليمنحه الأمل في الحياة إزاء تعطل جميع السبل المفضية أمام شخصيته الروائية حتى ضاق الخناق بها، وهذا يعني أن إبراز الحدث من ملامح الشخصية الروائية، ومحركاتها الشعورية المكثفة، وهذا يهب الشخصية الروائية والشعرية حضورها المؤثر، والفاعل في الكشف عن مضمرات نصية عميقة، كما في قوله:

" كُنتُ بعدَ الغيابِ الطويلِ
أَسكُنُ ذاكرتي.. وأراها بلاداً
وأبحثُ فيها عن الأصدقاء الذين توزَّعَهمْ.. كوكبٌ خشنٌ..
عناوينهم .. ومصائرهمْ
وكتبتُ إليه.. مثنىً .. وكرّرتُ..
ما جاءني منهُ ردٌ
تخيَّلتُهُ بانتظاري..
وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ
فبادرني بالسؤالِ
أأنت الذي لم يجد في البلاد.. بلاداً..
ففارقها؟
قُلتُ .. لا
لمْ أُفارقْ .. فقد سكَنَتْني بلادي"(18).

بادئ ذي بدء، نشير إلى أن شعرية الحدث الجمالي تتبدى في دمج الحدث الروائي بالشعري ، وكأن المتحدث لسان الشخصية الروائية، ولسان الشاعر بمماحكة سردية وصفية شائقة، ولا نبالغ إذا قلنا:إن فاعلية الوعي الجمالي تتمثل في الحدث الجمالي، أوالموقف الجمالي الذي اتخذه الشاعر في تفاعله مع الشخصية متمثلاً شعرية الرؤيا، أو الحدث، بالمحاورة الفاعلة التي ترتقي بالمشهد الشعري، من حيز ما هو متخيل، إلى ما هو إيحائي، وشاعري، ومؤثر؛ وكأن شعرية المشهد تتمثل في كثافة المشاهد، والرؤى، والتساؤلات الاغترابية المحمومة، وهذا يعني أن فواعل الوعي الجمالي تتمثل في تحريك شخصية (الكولونيل) من الداخل والتفاعل معها وجودياً، ووحدة مصير، وكينونة حياة، وذلك، لترصد معاناة الشاعر الاغترابية، ومعاناة الكولونيل وأحاسيسه المريرة وهو ينتظر بريده المرسل، لكن لا جواب أو رد شافٍ لرسائله، فالكولونيل لم يكن الشخصية اليائسة التي استكانت لقدرها، لقد تمسكت بقضيتها، ولم تكن تتوانى عن المراسلة، وانتظار البريد بين الفينة والأخرى، وكما تمسك الكولونيل براتبه التقاعدي المنتظر تمسك الشاعر ببلاده وأزمنته الماضية، ولهذا، جاء المصير مشتركاً بين كلتا الشخصيتين:(مصير الانتظار/ والأمل بالحصول على ما هو منتظر بعد مكابدة ومثابرة وطول عناء، [الكولونيل] راتبه التقاعدي المقطوع، و[الشاعر] أزمنته العراقية الماضية، وملكه وبيته القديم)، وهكذا جاء قوله معبراً بعمق عن الواقعين معاً، والمصير المشترك بينهما:( وكُنتُ سأسألُهُ عن بلادٍ جَفَتهُ /،فبادرني بالسؤالِ/أأنت الذي لم يجد في البلاد..بلاداً.. ففارقها؟ قُلتُ.. لا لمْ أُفارقْ .. فقد سكَنَتْني بلادي).ثم يعمق الشاعر الموقف والحدث الروائي ، ليتمسك بالأمل الأخير؛ وهو فوز ديكه بالسباق، ومن هذا المنطلق، تتناغم المواقف الشعرية مع الحدث والحبكة الروائية في تعزيز المد الشعوري الإيحائي الذي يبثه الموقف الشعري، في تمثله للحدث الروائي، كما في قوله:

وأسألُ عن ديكهِ..
فيقولُ.. لقد فرَّ بعد مهارشةٍ خاسرهْ
ومضى باتّجاه الحدودْ
غيرً أن الجنودْ
حاولوا قنصهُ فتوارى..
ويظهرُ لي في منامي كما الصقر.. ربّتما سيعودْ
والمعاش؟
ذلك ما لم أعدْ اتذكره .. ونسيتُ الوعودْ
أما زلت تهذي بما يفتريه على الناس.. صاحبنا ؟
من؟
سَبِّد المفترين .. ماركيز.. انت تعلَّمتَ منه النميمةَ..
زوّجني .. وأنا أشهر العازبينْ
وأولدَ مَنْ لمْ أَمسَّ قمصانها.. ولداً
وسيجعلني والداً..
ثُمَّ يقتلهُ دونما سببٍ..
في مُهارشَةٍ لم تكنْ
هلْ مررتَ به ليعلمكَ المكر..
أمْ أنتَ علّمتهُ السحر؟
ياأيّها البابليُّ المعتَّقُ.. كمْ أتفادى مزاعمكم ..
أيها الشعراءْ)(19).

إن قوة الوعي الجمالي في تبئير الحدث، وتعميق الموقف، وصوغ الحبكة الروائية المؤثرة كان لها أبلغ الأثر في تحريك المشهد الشعري، وإبراز الملمح الجمالي لشخصيته الروائية التي تبدو بغاية الحراك الرؤيوي المكثف، وهذا يؤكد: أن دهشة المشاهد والأحداث المتحركة من فواعل المشهد، وبواطن الشعور، والخلخلة في الأحداث، وتأكيد فواعلها الكاشفة؛ مما يعني أن شعرية الموقف من شعرية الحدث، وشعرية الحدث من شعرية الموقف، وهذا يؤكد عمق المحاورة الكاشفة بالاغتراب الوجودي عن الذات رداً على وجوده المأزوم ،وشخصيته المأزومة،عبر صيحات الاحتجاج والتساؤلات الوجودية المدوية،كما في قوله :( وأولدَ مَنْ لمْ أَمسَّ قمصانها.. ولداً /وسيجعلني والداً../ ثُمَّ يقتلهُ دونما سببٍ. في مُهارشَةٍ لم تكنْ هلْ مررتَ به ليعلمكَ المكر)؛ وهكذا، تتمحور الرؤيا الشعرية الكاشفة عن شعرية الموقف الذي تبثه الشخصية الروائية، بكل مغريات الموقف المحتدم؛ والحساسية الجمالية في إبراز الشخصية في اصطراعها الوجودي، واغترابها المرير، واللافت أن كل ما تبثه هذه القصائد يقع ضمن دائرة (المحايثة والتفعيل المرجعي الإيحائي بين ما تنطوي عليه الشخصية الروائية والإحالات الجديدة المكتسبة التي حركت الحدث والموقف الشعري المكثف في آن معاً؛ مما يعني أن فواعل الحدث الجمالي من فواعل الموقف الجمالي الذي جسدته الشخصية الروائية في مضمار القصيدة وسياقها الجديد الذي شغلته .

وصفوة القول: إن الحدث الجمالي والموقف الجمالي من محفزات قصائد ( أولئك أصحابي) التي تشتغل على قوة الحدث، وتوجيه الرؤيا، بما يحقق التكامل والتفاعل بين ما تنطوي عليه الشخصية الروائية و ما تملكه من متنفسات رؤيوية اغترابية تؤكد عمق تفاعل الشاعر مع الشخصية الروائية، والأحداث المحيطة بها، ومغرياتها النصية ،وهذا ما يجعل هذه القصائد مغرية لمكتشفات جديدة،كلما أمعن القارئ في تتبع جزئياتها وتفاصيلها الصغيرة.

3- بلاغة المشاهد البانورامية المحتدمة:

لاشك في أن الشعرية المعاصرة لجأت إلى تقنية فنية مهمة في تعزيز شعرية القصيدة، وأفادت منها قصائد ( أولئك أصحابي) أيما إفادة من خلال تكثيف الرؤيا الشعرية، عبر ما أسميناه ب( بلاغة المشاهد البانورامية المحتدمة)؛ فالشاعر يستحضر الشخصيات المؤثرة، ويضفي عليها من لمساته، ورؤاه الشيء الكثير، وهنا، قام الشاعر بتفعيل الرؤيا الشعرية، وتحميلها من الرؤى ما لا تحتمل، أي إن شعرية القصيدة –لديه- مؤسسة على حراك الأحداث المحيطة بالشخصية؛ بوساطة المشاهد البانورامية المتحركة التي تشتغل على تحريك الشخصية من الداخل؛ فالشخصية الروائية لا تكتسب حركتها الجمالية إلا من سياقها العام والخاص الذي يضعها في القصيدة، فتتلون برؤى، ومداليل جديدة، وأدوار مختلفة،تبعاً لسيرورة الأحداث، وحركتها النصية التي تجري،وفقاً لمتغيرات نفسية وشعورية ووجودية جديدة؛ ففي قصيدة( ملهاة الدكتور زيفاغو) لحميد سعيد، يتمثل فيها شخصية الدكتور(زيفاغو)بطل رواية " الدكتور زيفاغو" لبوريس باسترناك، يقول حمدي مخلف الحديثي في التمثل الفني الجمالي لهذه القصيدة مايلي:" في هذا النص الشعري تجربة توازي تجربة النص الروائي ، حيث يتعايش مع غربة الحاضر وغربة الماضي الذي كان، وتماست الصور الشعرية مع أدق تفاصيل شخصيات الرواية بحساسية عالية ، تدل على عمق إدراك الشاعر جوهر تلك الشخصيات في الرواية وفي القصيدة، كرسها في حوار فكري عميق متوهج"(20).ومن أجل ذلك تمتاز هذه القصيدة ببلاغة مشاهدها المتحركة التي تبدأ بالمشاهد الوصفية، ثم تزداد درجة حراكها المشهدي، ورؤاها المواربة لتشتغل على المشاهد المتحركة، ثم المشاهد الوصفية الساكنة، ثم تتنوع الأحداث والشخصيات، لتؤكد الفكر الجمالي في تمثل الأحداث، وتفعيلها المتتابع، وهذا يعني أن صيرورة القيم الجمالية تتأتى من فواعل الوعي الجمالي في تحريك الشخصية والأحداث المحيطة بها،لتحقق مكمنها الرؤيوي الجمالي الموارب، كما في قوله:

"طاردُهُ الحُمرُ والبيضُ..
يطردهُ الملكيون والفوضويونْ
ويُشكِّكُ في ما يرى ويقول.. رجالُ الكنيسةِ والمُلحدونْ
كلُّ الذين أباحوا دمَ الآخرينْ
من كلِّ قومٍ ودينٍ.. وطائفةٍ..
يعدّون ضحكته خطراً.. يَتَهَدَّدهمْ
ويرونَ..
في ما يُفكِّر فيه.. خروجاً عن الصفِّ..
حيثُ يكونْ
ينصبونَ فِخاخاً لأحلامهِ..
وتَشُمُّ الذئابُ مواقِعَ أقدامِهِ..
وتتبَعُهُ..
يقفُ الثلجُ بينَ تطلّعهِ والطريقْ
يرى في البلاد التي تتشظّى.. كما يتشظّى الزجاجُ
ما لا يرى السادرون في غَيِّ ما لا يرونَ.."(21).

إن الفكر الجمالي في تشكيل القصيدة يعد من مؤشراتها الجمالية، أو محركات فضاءاتها الشعرية والسردية المواربة، ولعل أول ما يلحظه القارئ السرد الوصفي المكثف الذي يمهد للأحداث والمواقف والرؤى والمرتكزات التي تنطوي عليها الشخصية الروائية في عالمها الوجودي؛ ثم الوصف المشهدي، الذي يمهد للأحداث، والرؤى المكثفة، وهذا يعني أن فواعل المشاهد البانورامية المحتدمة تبدأ في التمهيد للمشاهد الوصفية، ثم تعميق الأحداث؛ ولهذا، يدمج رؤاه الاغترابية برؤى شخصيته شخصية الدكتور(زيفاغو) المتمردة ، التي تتنوع في مقتضاها الرؤيوي المكثف، فالشاعر يوازي واقعه بواقع شخصيته، وتتلون الأحداث، والمشاهد برؤى مكثفة، كما في قوله:

"ضَيِّقَةٌ هي المُدُنُ التي تخافُ من الشعرِ
وأضيقُ منها نُفوسٌ تضيقُ بأسئلة الآخرينْ
ذاتَ مساءٍ حزينْ
تَتَسَلّل ُأحلامُهُ .. ويَظَلُّ وحيداً
تُجَرِّدُهُ الريحُ مما تَبَقّى له.. من طفولتهِ..
وبَنيهِ وزوجته.. ويَظَلُّ وحيداً
لماذا تخيَّرَ لارا ؟
وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ !
أَدْخَلَها في عواصفهِ..
إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساءْ"(22).

لاشك في أن لجوء الشاعر حميد سعيد -في هذه القصيدة- إلى دمج الواقعين( الروائي/ والشعري)قد أعطى الشخصية الروائية ، حراكها المشهدي ،خاصة في توصيفه لمحبوبة (زيفاغو) ( لارا) توصيفاً شاعرياً خصباً، بأوصاف مشهدية، ترتقي بالحدث الشعري، وفواعل المشاهد، والرؤى الاغترابية المصطرعة، وكأن (لارا)تمثل وجه العراق في زمنه الخصب الجميل،كما هي محبوبة شخصيته الروائية(زيفاغو) ، ووفق هذا التصور، تمتلك مشاهده الشعرية بلاغة رؤيتها، وعمق الحدث الاغترابي الذي تشير إليه:( لماذا تخيَّرَ لارا ؟ وخيَّرها بين حالين.. أنْ تتشرَّدَ أو تتشرّدَ ! أَدْخَلَها في عواصفهِ..إنَّ مملكةَ الشعراءِ تغدو مباركةً.. بحنان النساء)؛ واللافت أن الشاعر لا يحرك الأحداث الوصفية بشكل مباشر، وإنما يحاول تكثيف رؤاها بالمتخيل الرؤيوي المكثف، وهنا تنتقل الرؤيا الشعرية لترصد اغتراب الشاعر باغتراب الشخصية، ولا يقف الشاعر حيال ذلك، وإنما يلجأ إلى كشف نوازع شخصيته الروائية من الداخل، ووصف الشخصيات المساعدة بعدسة مونتاجية مقربة؛ ترصد أدق التفاصيل،والخلجات والمشاعر المضمرة، كما في قوله:

لارا.. هي الدفءُ والطمأنينةُ
لارا.. قصيدتهُ الأخيرةُ
كانتْ تلوحُ لهُ كلَّما فارقتهُ أصابعهُ..
فتعودُ إليهْ
وتذهَبُ لارا .. بعيداً
يُطاردهُ ما تخيَّلَ من صورةٍ للبلادِ
ويطردُهُ مَنْ تَخَيَّلَهم ْ أُمناءَ على ما تَخَيَّلَ..
من صورةٍ للبلادْ"(23).

هنا، يصف الشاعر(لارا) بأوصاف مشهدية متخيلة شعرية، وتبدو هذه الأوصاف ذات قيمة بالغة في تفعيل المشاهد الوصفية، وتحقيق منتوجها الجمالي المؤثر؛(لارا.. هي الدفء والطمأنينة../ لارا قصيدته الأخيرة)؛ واللافت أن قيمة هذه الأوصاف تزداد إثارتها بكثافة المشاهد والرؤى المتخيلة، وتعقد الأحداث وتتابعها، كما في قوله:

خَذَلَتهُ الطيورُ التي اعتكفتْ في الشتاءْ
واعتزلت في الربيع.. الغناءْ
خَذَلَتْهُ القصائدُ.. حينَ تأَبّطها كذبُ الشعراءْ
خذلتهُ المدينةُ..مُذْ أَطفأَتْ قناديلَ مُعجَمِها..
لتغدو الكتابة.. بلهاءَ.. بلهاءَ.. بلهاءْ
ناضِبَةً ومُدقِعَةً.. كما أفقر الفقراءْ
يَتَجَمَّع كالثلجِ.. ثمَّ يذوبْ
أرهقتهُ الحروبْ
كلُّ مفاجأةٍ تترصّدهُ.. خبّأتها الدروبْ..
تَليها مُفاجأةٌ..
ليحيا حياةً مُرَوِّعةً.. من قبيل الملاحم كانتْ
وكانَ.. كما في الأساطيرِ..
يُنبتُ أنىّ يكون حقولاً خُرافيةً.. ويُغادرها
ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها
يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ..
أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ..
تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ..
وهو كما كانَ..
يرسمُ لارا على صفحةٍ من كتابٍ قديمٍ.. ويوقظها
فإن غيّبتها المنافي.. تَخَيَّلها.. حيثُ كانَ
تُشاركهُ عربات القطارات..
تسبقهُ..
إذ يُحاولُ أن يتآلفَ من غير مَكْرٍ.. مع الخوفِ
في كلِّ بيتٍ سيدخلهُ ويفارقهُ بعدَ حينْ
وفي كلِّ ثانيةٍ تتخفى.. وتهربُ..
حتى تكونَ.. خارج بيت السنينْ"(24).

إن هذا المقتطف الشعري يمثل قمة كثافة الأحداث، والمشاهد، وتراميها، وتتابعها، وهو سيرورة نشطة من فواعل الذات الشعرية في اغترابها وشعورها المرير؛ وهو يدمج شخصية( زيفاغو) بشخصيته، وواقعها بواقعه، واغترابها باغترابه، وقلقها بقلقه، وتوجسها بتوجسه، وهكذا؛ تتلون الرؤى والمواقف والمشاهد لتعكس الواقعين معاً(واقع الشاعر) وواقع شخصيته الروائية، دون أن نعدم مؤشرات الوعي الجمالي بين الفينة والأخرى أو مؤشرات الفكر الجمالي في تشكيل الأحداث وتفعيلها ،وتحميلها من الرؤى الشيء الكثير، ودليلنا على ذلك قوله:(و كانَ.. كما في الأساطيرِ.. يُنبتُ أنىّ يكون حقولاً خُرافيةً.. ويُغادرها ويُقيمُ بيوتاً كما يتمنى.. ويهجرها يتغيَّرُ وجهُ البلادِ.. وهو كما كانَ.. أو يتغيَّرُ حكامُها.. وهو كما كانَ.. تألفهُ امرأةٌ ويغيبُ.. ويألفها وتغيبُ)؛ فالشاعر يرسم الأحداث ويتخيلها ويحقق مثيرها، لتغدو شخصيته الروائية الشخصية البانورامية المحتدمة، أو الشخصية المتمردة على واقعها واصطراعها ووجودها الروتيني المألوف، وما الحب العاصف الذي يعيشه الدكتور (زيفاغو) إلا دلالة على ثورة الشاعر الاغترابية الوجودية المريرة،ومحركاتها المكثفة. خاصة النهاية الدراماتيكية المريرة التي تنتهي بالدكتور (زيفاغو)صريعاً على وقع خطاها بعد ملاحقتها والسعي للقائها الأخير. وهذا يدلنا ان شعرية قصائد حميد سعيد تتأسس على مغريات السرد الوصفي، وتلوين المشاهد، وتحريك الأحداث، وحوار الشخصية من الداخل ، من عمق الباطن وأغوار الشعور الذي تحسه الشخصية من الداخل، والأحداث العاصفة التي تمر بها وفواعل الأحداث المتحركة والرؤى الجديدة المكتسبة ؛وهو ما يؤكد متحققها الجمالي الآسر.

والملاحظ في هذه القصيدة -على مستوى الفكر الجمالي- عمق المتخيل الشعري، وفاعلية الربط الفني الموحي بين اغترابه المرير، واغتراب شخصيته الروائية واحتراقها الوجودي،وكأن الشاعر يعاني اغترابين مريرين(اغتراب الذات/ واغتراب الوطن)،ولهذا جسدت قصيدة (ملهاة الدكتور زيفاغو) الواقعين (واقعه/ وواقع شخصيته الروائية)؛وواقع جديد هو فضاء الرؤيا الشعرية المتخيلة؛ وهذا يعني أن بواطن الشخصية الروائية هي ثمرة الوعي الجمالي بالشخصية إحساساً وفكراً وصوغاً وخيالاً جمالياً منتجاً،لتكون الشخصية الروائية نقطة تفعيل الرؤيا الجمالية التي تتمحض عنها أحداث الرواية، وشخصياتها ضمن القصيدة بتلاقح فني عجيب بين رؤى الشاعر الوجودية، ورؤى قصائده المطروحة. وهذا يؤكد ثمرتها الإبداعية الناضجة واليانعة في آن؛ لتكون هذه القصائد طرحاً جديداً للأحداث والمشاهد والشخصيات ، برؤى ومواقف جديدة .فمن يقرأ فواعل هذه الشخصيات في الرواية ويقرأ القصائد يجد نفسه أمام إبداع مركب، أو إبداع جديد ينتمي إلى الأصل ويتميز عنه ،وكأنه أفق إبداعي جديد لا تطاله إلا الأخيلة الجمالية المنتجة بفواعلها الرؤيوية النشطة، ومتراسها الإبداعي النشط الذي لا يطاله إلا الأفذاذ من ذوي العقول المنتجة إحساساً وفكراً جمالياً منتجاً على الدوام.

وصفوة القول: إن مؤشرات الوعي الجمالي- في قصائد( أولئك أصحابي)- تتأسس على منتجات الخيال الجمالي في التشكيل، خاصة في تحريك الشخصية بفواعل وأحداث جديدة ترتقي بالحدث والمشهد الشعري؛ ولهذا لا تقتصر شخصياته الروائية على مجرد تنويع الأحداث البانورامية، أو الدرامية المحتدمة، وإنما يقوم بتنويع المشاهد، والرؤى الجديدة المحيطة بالشخصية، وهذا ما يجعل الدور الجمالي المحيط بالشخصية يكتسب مده الإيحائي من فواعل الشخصية وأدوارها وإحالاتها الجديدة المكتسبة من السياق الشعري ،وهذا ما يضمن قوة وقعها، وأثرها الجمالي في الاستثارة والتأثير، لا بشكلها الاستعاري المزخرف كما هو معتاد في شعرية الكثير من الشعراء، وإنما بالمحاورة والمكاشفة الجمالية التي تضمن لها مزيداً من الانفتاح والتأثير.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى