الأحد ٢١ أيار (مايو) ٢٠٠٦
قصة قصيرة
بقلم توفيق العيسى

الانتظار

بات ليلته قلقا، ضاربا الأخماس بالأسداس كما كانت تقول زوجته كلما رأته جالسا على سريره مشعلا سيجارته ؛ في تلك الليلة اجتاحته مشاعر وأسئلة كثيرة ؛قد تكون مرتبطة بغرائبية الحياة في زمن الاحتلال.

تململ في فراشه ؛ فكر فيما سيقدم عليه غدا؛" ستكون مغامرة محفوفة بالمخاطر" سيعبر عدة حواجز عسكرية عبر طرق التفافية ؛ سيسمع أصوات الجنود يصرخون عليه ؛ وغبار سياراتهم العسكرية سيطارده من جبل الى آخر وما بين شهيق وزفير سيتحاشى رصاصهم الذكي الذي يعرف كيف يخترق الجسد النحيل ويحيله الى قطعة لحم مشوهة ؛ لكنه قرر أن لا يسمح لرصاصهم ولا لأسلحتهم ولا لكل التكنولوجيا في العالم أن تقتله لن يسمح لهم بذلك ؛ سيعدوا سريعا ...سريعا ... فالفقر أسرع من الرصاص لن تكون حياته رهنا بمزاج جندي يهوى الصيد ؛ سيعدوا سريعا ويصل سريعا ؛ سيدخل القدس ويتسلل منها الى "تل أبيب" حيفا الناصرة الى كل المدن التي يسمونها اسرائيل ؛ سيبحث عن أي عمل وفي قرارة نفسه أضمر أنه لن يعود الى بيته وزوجته وأبنائه وأخوته ووالديه كي يضمن استمراره في العمل ويضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم ؛ سيشتاق لهم؟! نعم لكنه مجبر على تحمل لوعة الفراق.

لكن المزيج الغرائبي عاد يذكره بواقع مقلق ؛ متقلب المزاج ؛ فسيارات الجند ستظل تلاحقه قبل الحاجز وبعده ؛ سيراها في وجبة الغداء وسينزرع رجل أمن في كل شارع وورشة ومصنع وفي العلاقات السريعة ؛ ستكون حياته مرهونة ما بين رصاصهم وسجنهم ؛ وفي كلا الحالتين التهمة واحدة "ارهابي" "قرأ اسمه في الصفحة الأولى " مخرب فلسطيني يحاول تفجير نفسه في مقهى يعج بالمدنيين" " القبض على خلية ارهابية" .
قبل بزوغ الشمس ارتفع صوت المؤذن ؛ هادئا متناغما مع لحظة السكون ؛ لولا صوت منبهات الوقت التي ارتفعت هي الأخرى لتوقظ كل الساعين الى أعمالهم بصخب ؛ نفض النعاس عن عينيه حمل حقيبته وغادر البيت مسرعا دون وداع كي لا يفكر في الأمر مرتين وخوفا أن يغير رأيه اذا ما رأى خوف زوجته .
كانت الحافلة مزيجا من عمال وطلاب وموظفين ؛ انطلقت لتجد مكانا لها على صليب الحاجز العسكري .

انتصف النهار بات الصليب مرهقا ؛ تزاحمت السيارات وضج المصلوبون جميعا؛ اختلطت أصوات الصبية الذين يبيعون المياه والمرطبات بأصوات أبواق السيارات وبعض الشتائم ؛مزيج غرائبي سرعان ما أصبح الجنود الواقفين على الحاجز جزءا منه بصراخهم المتكرر واوامرهم الداعية الى حفظ النظام والتزام الدور ؛ واكتمل هذا المشهد حينما اكتشف المصلوبون انهم بانتظار مرور حافلة المستوطنين التي ستأتي في أي لحظة عبر حاجز الحمرا الى المستوطنة القريبة وعليهم أن ينتظروا بانتظام!!!

اعتقد أن تحالفا من نوع ما فرضته قوى خفية؛ بين الفقر ولاحتلال وشمس أريحا ؛ فكربالعودة الى بيته هربا من القيظ ؛ وفكر أيضا بجدوى المغامرة؛ ألن يستطيع العمل هنا؟! بالقرب من بيته وأصدقائه ؛ فكر أيضا بالعودة الى عمله السابق حتى وان كان المبلغ زهيدا الا أنه لن يضطر للتضحية بحياته ؛ فجأة ترائت له صور عديدة ؛ مشقة العمل ومشقة المطالبة بالأجر ؛ كان شحادا يتسول لقمة الخبز لكنه شحاد من نوع آخر شحادا يعمل بيديه لا يمدها للاحسان لعن ذلك العمل ولعن نفسه لانه ارتضى ان يذل عند ذلك الرجل الذي لم يكن يتورع عن سرقة أجره ؛ ذلك الرجل قوي البنية ذو الضحكة الصفراء التي تظهر أسنانه الصفراء كان كلما ذكر اسمه تخيل رجلا أصفر اللون ؛ حتى لون النقود التي كان يعطيه اياها كان يراها صفراء ؛ كانت حياته مصبوغة باللون الأصفر " لذا علي أن أتسلل عبر مئات الصلبان كي أنجو من لعنة اللون الأصفر "
فكر بالهرب من هذا القيظ لكته في كل مرة كان يحس بقيظ آخر ؛ الأفواه الجائعة؛ الزوجة المنتظرة ؛ تفاصيل الحياة الصغيرة والتي رغم بساطتها هي دافعه القوي لخوض هذه المغامرة وتحمل هذا التحالف الثلاثي البغيض قال في نفسه " أن أصمد أمام الصليب وحراسه خير من الانكسار أمام حاجة العيون المحرومة"
لم يكن وحده كثيرون هم الذين يشاركونه هذه اللحظة وذالك الحلم ؛ اطمئن قليلا لن يغامر وحده واذا قتل "فالموت مع الجماعة رحمة" فلن يموت وحيدا.

اشتد قيظ أريحا؛ والحافلة لم تأتي بعد؛ وضحكات الجند وصراخهم يبعده عن حلمه رويدا رويدا ؛ حتى انطفأ بريق الحلم ؛ فرك عينيه كثيرا كان الجند يلبسون ملابس صفراء والطريق المدودة بعد الحاجز صبغت بالاصفر والناس من حوله اصبح لونهم أصفر؛ حاول الأحتماء من لهيب الشمس ؛ شعر بخيانة ما انه جسده الذي سيخونه في هذه المغامرة ؛ ذابت قواه وبدأ جسده يتلاشى لم تعد عيناه تريان سوى قطرات الماء البارد على علبة المياه الغازية في يد أحد الصبية ؛ تناولها بسرعة وضعها على وجهه وجبينه لينعش جسده ؛ راح يشرب على عجالة كأنه يركض نحو شيء ما؛ السرعة قدره ؛ قدره في كل شيء .

وقبل أن يرتوي جحظت عيناه ؛ أحس بحلقه ينتفخ ؛ يتمزق؛ صرخ؛ ارتمى على الأرض ؛ ألم يخنقه يشد عليه ؛ هرع الجمع لنجدته لم يعرفوا ما يفعلوا حتى هو فقد النطق لم يستطع أن يقول لهم مابه ؛ اتصل أحدهم بالمشفى القريب وآخر بسيارة اسعاف في تللك اللحظة استنجدوا بكل شيء؛ حتى بالجنود على الحاجز ؛ ارتخى جسده؛ غامت عيناه ؛ وسكت ليرى ذلك التحالف الذي انقض عليه ؛ الفقر الاحتلال شمس أريحا ونحلة!! نحلة هي الأخرى شعرت باللون الأصفر في حلقها تنتظر الاوامر العسكرية كي تطير الى عملها عبر الصليب ؛ أضناها العطش فشاركته الارتواء من نفس العلبة ؛ نزلت في حلقه لدغته ؛ شاركته العطش والارتواء والصلب والموت بصمت أيضا .
لم تكن هذه نهاية المشهد الغرائبي؛ فمثلما لم تصل سيارة الاسعاف في موعدها لم تصل أيضا حافلة المستوطنين حتى الان ولم يكف جنود الصليب عن الضحك واصدار الأوامر ولم يكف المصلوبون عن التسلل والانتظار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى