الأربعاء ٧ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم رشا السرميطي

ظلال تنكسر على الحائط

مقدسيَّات

خرجت من البيت مشدوهة الفكر، يقفز عقلي على حبال اللَّحظة القلقة، بحذر الفراشة كنت أطير، تصغر خطوات قدمي، أنظر يمينًا، أرى ظلَّ محمد يعدو في زوايا بلدة شعفاط، باب داره قرب الجامع أصوات تعلو، صرخات أمِّه دمع يخالطها ضحكات الأطفال من عمره، والحزن الأكبر اعتمر وجه أبيه، لحيته المشيبة التي بدأ الوجع يخطُّ ملامحها، بعد عام أو عامين تُنسى قضيَّته، ويبقى الفقد لأهله وخاصته فقط، وكيف لنا أن ننسى...

في منتصف الطريق إلى المحطة يصل القطار، أسمع الصَّافرة، فيصيبني فزع الذِّكرى، ينكسر الظِّل أمامي، تهرب روحه من المكان، أقطع الطَّريق مسرعة للجهة المقابلة، أركب الحافلة الخضراء، عربيَّة اللَّون، أجلس قرب النَّافذة، وأنكمش على بعضي، تتزاحم الأخيلة أمام ناظري، أشعر بالمارة يتراكضون. في بيت حنينا تخف وتيرة الموقف، تنقص المسافة، يزداد نبض قلبي، أصل هناك، لأرى جمع من الشرطة مستنفرين، هلع يصيب الشَّارع وسيارات اسعاف تزعجني، دماء وصراخ، أشعر بالموت يقترب. تبدأ الأخبار بالتعالي، ترصد المواقع الاخباريَّة قصص الموقف، يرتقي شهيد طفل ظلُّه يتكسَّر والآخر بقي حيًّا، أحمد ينزف على الطَّريق، يشتمه الأعاجم بالرَّذيلة، يزداد أنينه، تُكتب الكلمات من حبر دمائهما، هذا شهيد وذاك جريح، بعصاة الجلاد ذاته، أنشودة الصُّمود تستعيد صوتها في مدينة السَّلام، يتعالى جور الغاشم، ويزداد ظلمه، ترتعش يدي، وشفاهي ترددُّ تعويذات الرَّحمة، تغرورق عيناي بالدَّمع الحار، فأغير وجهتي، يقول السَّائق: اندلعت الانتفاضة الثَّالثة.

تغلق الطُّرق، تتأخر المواقيت، وتنفلت معظم المواعيد من قائمة خطتها، أنزل إلى البلدة القديمة، في حي المصرارة ألمح ظلَّ مهنَّد، أرى ضحكته، تشهد الطَّريق على حبِّه للأرض والعلم، ما كان يومًا ارهابيًّا لكنَّهم كذبوا يوم قتلوه عمدًا وقالوا: مخرِّب! يرجع القطار مصدرًا ذات الصَّافرة، تؤلمني وخزة الصَّوت، واستمرار الحياة على غرر طبيعتها، أصل باب العامود، ينادي سور القدس: أيُّها الأحرار، يستصرخ قلمي، أقترب منه، فينكسر الظِّل، هناك شرطي يوقفني، ويقول لي بلغة عربيَّة مكسورة ملافظها: ممنوع الدُّخول، البلدة منطقة عسكريَّة.

أحني هامتي للأرض مخذولة، تحشد الغيوم موقفها، تبكي السَّماء لتواسي حسرتي، تبتلُّ المدينة بحزنها، يتأرجح فؤادي، فأفكِّر في الرُّجوع، تقلُّني ذات الحافلة، وعندما نصل منطقة الشيخ جراح، ألاحظ أزمة كبيرة، ضجيج يملأ الموقف، وكأنَّه ظلُّ آخر كالذي هربت منه، فتاة على الطريق، كوردة تنزف في بكائها، يتجمهر حولها رجال الشُّرطة، وبالقرب منها يمرُّ ذو قبعة سوداء، يضع سكينًا على الأرض، يعلن المذياع خبر الحادث: طالبة تحاول طعن المستوطن، تم إلقاء القبض عليها، يتهشَّم المشهد أمامي، تلطخه الأفكار المسمومة، أحبس قهري، يتحوَّل اسمها " مرح " ضحيَّة أخرى.

بعد ساعات أعود للبيت، تنتشر رائحة الغاز، ويتصاعد دخان إطارات السيارات، تصدر أصوات انفجارات، أصمُّ عن جميع الحواس، يكرِّر القطار جولته، تستصغرني تلك الصَّافرة، أمضي غير مبالية، أصعد درج العمارة التي أسكن فيها، جارنا في الطابق الأوَّل يضرب زوجته، تصرخ، تشتمه، فيمارس قسوته عليها، يردُّ ابنه الكلام في فمه، يزداد عراك العائلة، أتابع التَّسلق متألِّمة، وكأنَّ بيتي صار على قمة الجبل، يعلو صوت التلفاز من شقة أبو خالد، تتراخى قواي خائرة، تقول المذيعة: وردنا خبر عاجل، سقط شهيد في مخيَّم شعفاط واثنان جراحهما خطيرة.

تتمادى الظلال وتكبر على الحائط، ثم تتكسَّر، تصغر أمامي الصُّور وتبلى المواقف، تولد الأسئلة وتتيه عن اجاباتها، أحاول الصُّراخ، فأتلعثم، تصاب روحي بوعكة صحيَّة، أدخل المنزل، وأندسُّ في فراشي محمومة بأحداث اليوم الشَّاق، فتمر الظِّلال جميعها أمامي تارة ضاحكة، وتارة باكية، تختلط معًا لتتماهى في إطار وحشتي وغربتي التي أعيش بها في هذا الوطن الذي يسكنني، أغلق عيني، يختفي الضُّوء، فلا أرى غير الأسود يليق بأحداث القدس.

مقدسيَّات

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى