الأربعاء ٢١ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦

أنا أكونُ... أو... أنا أكونُ

خالد طالب عرار

العنوانُ هو عتبةُ النَّصِّ، وشاعرُنا عنونَ قصيدته بـِ (أنا أكونُ )، وأردفَ عليه بحرف العطف (أو ) ثمَّ كرَّر نفسَ الجملة مرّةً أُخرى. وكأنَّ الشّاعرَ أرادَ إخبارَ القارئَ أو إخبار المُرسَل إليه أنّه لا خيار آخرَ أمامي وأمامك سوى أنني سأكونُ في الحالتين أنا. وفي ذلك إصرارٌ من الشّاعر على ترسيخ الحقِّ المسلوبِ (الهوية ).

هل جئتَ تسألُ من أنا؟
من أيِّ بئرٍ قد شربتُ،
فصول ذاتي واكتفيتُ؟
أنا الذي غرسَ البدايةَ،
في الطريقِ،
كأوَّلِ العرقِ الذي....
نزفتْ بهِ روحي ندىً
والبئرُ يمشي في يدي
بحراً....
يبوحُ ولا يبوحُ،
على شفاهِ السنبلةْ!

بدأ الشّاعرُ قصيدته باستفهامٍ، يسألُ غريباً عن ديار قصيدته. فالشّاعرُ يسألُ ويجيبُ عن سؤاله ضمناً ؛ لعلمه بِأنَّ السّائلَ يعي طبيعة الشّاعر، ومدى تمسّكهِ بالأشياء التي كانتْهُ قبل ترعرع العشّبِ.. نعم شاعرنا يغرسُ البداية التي تُعزّزُ أصولَهُ على هذه الأرض.. وكأنّه عاد إلى ديار درويش لِيُثبتَ مقالتهُ في (بطاقة هُوية) : جذوري قبل ميلاد الزّمان رست، وقبل تفتّح الحِقَبِ، وقبل السّرو والزيتون، قبل ترعرع العشبِ.. وكأنَّ الشاعرَ الفلسطينيَّ أخذَ على عاتقِهِ حَمْلَ الراية عن الشّعراء الذين رحلوا مُخلّفين وراءَهم إرثاً عظيماً اسمه انتماءٌ لهذه الأرض.

" والبئرُ يمشي في يدي.. بحراً ".. استعارةٌ مكنيةٌ جعلت البئر إنساناً يمشي.. لكن ما دلالة هذه الاستعارة ؟ وما الغاية التي يسعى الشّاعرُ إلى ترسيخها من خلال استعارته هذه ؟ جعلَ الشّاعرُ البئرَ بحراً يمشي في يده.. فيدُ الشّاعر مساحةٌ من الأمكنة التي خُضِّبتْ بعرق الأسلاف الذين بنوا جسور العبور نحو القمّة المُنتَظَرة، والتي باتتْ غايةً يسعى الكلُّ الفلسطينيُّ إلى إدراكها.. وهذا البئرُ الذي أصبحَ بحراً له عدّةُ دلالاتٍ أرادها الشّاعرُ، فإمّا أنْ يكونَ البئرُ مصدراً للعطاء، ومنبعاً للخير أينما حلَّ، وإمّا أنْ يكونَ أوَّلَ الألمِ. وفيه إشارةٌ لقصة سيدنا يوسف ـ عليه السّلام ـ الذي خرجَ من ظلمته إلى النور الذي لاحقه طيلة مسيرته. وكأنَّ شاعرَنا يزرعُ الأملَ في نفوس الفلسطينيين الذين بات اليأسُ مشربَهم ومأكلَهم ومأواهُم ؛ بسبب ما حلَّ بهم من ترهُّلٍ في الحالة السياسية، وتخلٍ من ذوي القربى عن أصل الحكاية (فلسطين). فشاعرُنا يوضّحُ لكلِّ مَن يَئسَ أنَّ الفرجَ والخَلاصَ آتٍ لا محالة، والدّليلُ كامنٌ أمامك أيها الفلسطينيُّ بين سطور التاريخ، فيوسف أُلقِيَ في بئرٍ من القهر، وأنتَ كذلك أيها الفلسطينيُّ، ويوسف أُخرجُ منه وبيعَ بثمنٍ بخسٍ، وكذلك أنت أيّها الفلسطينيّ، ويوسف أصبح صاحبَ قرارٍ، وسيأتي اليومُ الذي تكونُ فيه أنت وحدك لا سِواكَ صاحبَ قرارك أيها القابض على جمر الحقيقة.. ورمزَ شاعرنا بالسنبلة إلى العطاء، فهيَ لا تنحني إلا لتُعطي، وأنت أيها الثائرُ ستنحني لتعيد المقادير إن سقطت أن تقوم، تتمّ مهماتها الهادفة (كما أخبر مظفّرُ النّواب).

وتعودُ تسألُ من أنا؟
وحكايتي الأؤلى تُذكِّرني
بأنَّ الأرضَ ذاتي
إسمُها....
عرقي الذي ينسابُ،
في رئةِ الزمانِ،
كيقظةِ التاريخِ،
يمشي بوصلةْ!

ويُكرّرُ الشّاعرُ سؤاله بـ وتعودُ تسألُ من أنا ؟ وكأنَّ الشّاعرَ يحتجُّ على سؤال السّائل، ويستهجنه مرّةً أخرى، إذ لا بُدَّ من أنّك عرفتَني منذ البداية، فَلِمَ تِكرارُ السُّؤال ؟ عرّفَ شاعرُنا منذ البداية عن اسمه من خلال تعريفه بمهنته التي اختصرها بأنّه " غرسَ البدايةَ في الطريق " وها هو يعودُ ليُخبرَ السّائلَ باسمٍ جديدٍ له وهو : " بأنَّ الأرضَ ذاتي.. اسمها عَرقي.. " وذلك حتى يُرسّخَ في عقل السائل والقارئ حقيقةً مُفادها بِأنَّ الأرضَ أنا، وأنا ترابُها، وترابها دمي، وعرقي تفاصيلها، وتفاصيلها مكنوناتي، وجَمالُها إلهامي. فمهما اختلطتِ الأمورُ لا ولن تفوزَ بحبّها أيُّها الغريبُ مهما زوّرتَ تراثَها..

وانظرْ سيّدي القارئُ لشاعرنا وقد اعتبرَ التاريخ إنساناً له يقظةٌ، وهذه اليقظة تمشي بوصلةً، وفي استعارته المكنية هذه دلالةٌ واضحةٌ على أهميّة العرق الفلسطينيِّ، الذي يرسم طريق الرّجوع لكلِّ مَن أرادَ أن يُقوِّمَ المعوَّجَ، ويُصوِّبَ التواءاتٍ أحدثها تخاذلُ الأخ عن أخيه، فهذا العرقَ يسيرُ نهراً يُربّي بداخله الثّوارَ الذين ينتظرون بشغفٍ يومَ الرُّجوع إلى حدودِ النَّصْر..

وتعودُ تسألُ من أنا؟
هل جئتَ تغتالُ الندى؟
فأنا أكونُ على جناحِ الوقتِ،
صحواً...
في الخلودِ يقينُهُ
وجوابُهُ في الأبجديَّةِ،
رتَّبَ المعنى
على طقسِ الحنينِ،
وأبعدَ النسيانَ عن لغتي
فكم من مرةٍ...
أحتاجُ في لغةِ الجواب،
من الحروفِ؟
وكمْ سؤالٍ قد تكسَّرَ،
ما انتهي فيهِ عذابُ الأسئلةْ؟
وتعودُ تسألُ من أنا؟
وأنا أكونُ كموجِ هذا البحرِ،
في علياءِ إدمانٍ مشى
ليعيدَ لي قمحي
وينهي خرافةً،
دخلتْ على التاريخِ،
تمحو مدائني
والوقتُ صبحٌ في يدي
وأنا على دميَّ المراقُ،
حنينَ خبزٍ....
ما انتهى فيهِ النداءُ،
يجولُ في بُهتانِ دائرةٍ
يدقُّ على غدي
كقُرُنفلةْ!

إنَّ تِكرار السؤالِ يدلُّ على ماهيّة السَّائل، فهو لا يريدُ سماعَ صاحب الحقِّ، ولا يريدُ أنْ يُعيدُ شيئاً أُخِذَ من المكان بموت ضمير الأخ، أو بقسوة قلب الرائي، أو بنومِ الفِرقِ التي كانت تلوّحُ بالراية السّوداء حِداداً على الدّم المسفوك ؛ لكنّها ارتأتِ الانزواء إلى حيثُ لا تُرى، ورسّخت بذلك مفهومَ (ما فاز إلا النُّوَمُ ).. نعم سيدي الشّاعرُ فالعدوُّ يريدُ اغتيال النّدى، النّدى الذي سيروي عِطاش الزّهر، ويُنعش البَتَلاتِ التي ستواجه العاصفة، لكنّك أفهَمتَ هذا المارقُ أنّك صحوٌ على جناح الوقت.. لله درّك على هذه الصُّورة التي رسمْتَ (فأنا أكونُ على جناحِ الوقتِ، صحواً... في الخلودِ يقينه، وجوابُهُ في الأبجديَّةِ ).. فأنت أفهمتَ الصّخرَ إن لم يفهم البشر.. أنّ الشّعوبَ إذا ثارت ستنتصرُ.. فالأبجديةُ حفرتْ على الصّخرِ اسماً ما زالَ يتردّدُ صداهُ كلّما حُرِّكتْ جُدران الخزّان، وكلّما استغاثَ طيرٌ ذوي القربى أنْ هلمّوا، وارفعوا راياتِ النّصر. والوقتُ صبحٌ في يد الشِّاعر.. نعم سيدي الشّاعر فالوقتُ وليدٌ كلّما أرادَ منادي الفجر أنْ يغتالَ بجوفه الخوفَ، ورفع الأكفَّ إلى عنان المجد يسابقُ الرياح، يستلهمُ من همهمات المعارك أسماءَ مَنْ مضوا نحو النَّصر ؛ ليكملَ بذلك المسيرة التي تنمو في قلوب كلِّ الفاتحين مهما بنى الدّهرُ على حدود القلب خوفاً أرَّخَهُ أصحابُ المناصب الزائفة.

هل جئتِ تغتالُ الندى؟
وأنا أكونُ على رؤى الإحساسِ،
إدراكاً
تناغمَ في رؤى ذاتي
فحطَّ الطيرُ في أشجارِها
لغةَ الحضورِ رسالةً...
قد حلَّقتْ بجذورِ اسمي
وارتباطُ الأرضِ يجري
في حنايا الروحِ،
دوماً موئلهْ!
وأنا أرى ذاتي
على صوتِ الترابِ،
يجيبُ أسئلةً،
تُذكِّرني... بأني ها هنا
في السرِ في بوحي
أرى لوني...
فيعرفني السحابُ،
أهزُّهُ.....
فيزولُ منْ وجعِ الغيابِ،
رُتوشُ ليلٍ زائلةْ!
وجِرارُ جدِّي في يدي
نقشتْ تضاريسي...
أنا ما... ما أتيتُ منَ الفراغِ،
فكيفَ ما زالَ السؤالُ يجولُ،
يبحثُ عنْ رغيفي؟
في يديّْهِ ملامحي
وغيابُ أجوبةٍ
تكسَّرت الرؤى فيها،
شظايا مهزلةْ!

يعودُ الشَّاعرُ لنفس التساؤل " هل جئتَ تغتال النّدى " وهذا سؤالٌ استنكاريٌّ، يرفضُ الشّاعرُ من خلاله تسليمَ الندي (الأمل، الغد ) لهذا السائل مهما بلغت غطرسته وقوّته. والشّاعرُ ألمحَ للّغة التي أنتهجها الحضورُ وفهمَها، وعرف أنّك لن تُخاطبَ إلا بها.. إنَّها لغةُ القوّةِ، لغة الثَّأرِ، لغةُ الحِوار بالأسنّة ؛ لأنّك ارتبطت بجذور اسم (الفلسطينيُّ الذي عبرَ التاريخَ، ورسّخَ دعائمَ الدّولة مُذْ كنتَ مُشرّداً أيُّها الغريب. يريدُ الشّاعرُ من خلال من خلال (مؤلمة ! ) أنْ يُفهمَ العالم أنَّ الرسائلَ التي حملتْها الطيورُ تتلوّى ألَماً وقهراً ؛ لأنَّ العدو كتَبها بدم الأطفالِ والشُّيوخ والأرامل. لكن أفي رسالة الشّاعرِ يأسٌ ؟ كلا، فالشّاعر يمسكُ الريشةَ منذ البداية ويرسمَ بها تفاصيل الحكاية حتى لو كانت مؤلمة.

" وأنا أرى ذاتي على صوت التُّرابِ يجيبُ أسئلةً تذكّرني بأنّي ها هنا... " لا يتركُ الشّاعرُ شِبراً من تفاصيل السّرد إلا ويعودُ إلى أصل المنشأ، وهوية صاحب الأرض. جعلَ الشّاعرُ الترابَ إنساناً يجيبُ أسئلةً (استعارةٌ مكنيةٌ مليئةٌ بالصور المجتمعة في صورةٍ واحدةٍ )، فالترابُ تقمّصَ دورَ الراوي والحاضن لأبناءَ رفضوا التخاذلَ، ومضوا رافعينَ رؤوسهم عالياً، مُباهين بقدرة الأرض على إحداث التغيير في النفوس التي ترعرعت في أكنافها، فينتصرونَ لها ولِأنفسهم.

ويلمّحُ الشّاعر إلى حنطة وجهه من خلال " أرى لوني.. " وفيه إشارةٌ إلى كنعانية الأصل. فبشرتي حنطيةٌ امتزجت بتراب الأرض، فكوّنا معاً ذلك الثائر الذي أجبر العالمَ أجمع أنْ يرفَعَ القُبعاتِ احتراماً وإجلالاً لصغاره قبل كِباره. ولا ينسى الشّاعرُ الجِرار التي كان جده يملؤُها بخير هذه الأرض، وكأنَّ مهمة هذه الجِرار أنْ تنقشَ اسمَ الشّاعر (الفلسطينيّ )، وترسمَ تضاريسه على صفحات الأيام، فلا يستطيعُ ذلك الغريبَ تزوير الحكاية، لأنني لم آتِ من الفراغِ، فالأصلُ معروفٌ، وأثوابي تُذكّرهم بيوم مولدي، ويوم زفافي، فَلِمَ تعودونَ لنفس السؤال ؟ ألم تعوا بعد مَنْ أكون ؟ وهذا التساؤلُ أورده الشّاعرُ احتجاجاً على كثرة الأسئلة التي يعرفُ السّائلُ إجابتها، لكنّه الكِبرُ مرّةً، والتواطُؤُ مرّةً، والخوفُ مرّةً أخرى.

وتعودُ تسألُ في مداكَ،
عن الندى...؟
ما زالَ في محرابِهِ...
يستافُ من قلبي
يرتِّبُ في الحقيقةِ وردَها
طقساً على شمسي....
أنا ما كنتُ ظلاًّ عابراً
ذاتي...!
يُلاحقُ فكرةً نامتْ
على وجعِ السرابِ،
أنا هنا....
وكأوَّلِ العرقِ الذي
نزفت بهِ روحي
ندىً...

لا ينفكُّ الشّاعرُ أنْ يُكرّرَ سؤالَهُ، وكأنّه بهذا التِكرار أرادَ أنْ يُعطيَ القصيدة مساحةً أوسعَ، كي تقومَ بدورها الذي وُجِدت من أجله، وهو إزالةُ الغمامة عن العيون، وترسيخُ مبدأ حبِّ الأرض في قلوب كلِّ فلسطينيِّ، وتوضيحُ ماهيّة الصِّراع مع هذا العدوّ الذي لا يُراعي إلاًّ ولا ذمّةً، ولا يحترمُ عهداً ولا ميثاقاً. فالشّاعرُ (الفلسطينيُّ ) لم يكن ظلاًّ عابراً. نعم هو ليس طارئاً على هذه الأرض، وليسَ مجرد فكرةٍ نبتت في أرضٍ يبابٍ ثمَّ تقاذفتها نيرانٌ فرحلتْ إلى حيثُ لا خبزٌ ولا قمرٌ.. كلا، فالشاعرُ يثبّطُ كلَّ محاولاتِ العدوِّ التي تُشوِّهُ الرواية الصادقة التي تؤصّلُ النشأةَ، وتردَ كيد الظالم إلى نحره.

وأنا هنا...وأكونُ....!
كيفَ سأستريحُ على همومِ
المسألة؟
هلْ جئتَ تُدركُ ذاتِ روحِكَ؟
أم أتيتَ لتلقي ظلَّ الموتِ؟
كيفَ... ؟
وما تساقطَ من شذى روحي
المكانُ،...
فكيفَ تأخذني إلى قبري
وترجعني إلى شكي
وتلقيني على دمعي؟
ولا...لا زالَ يأخذني
إلى بيتي العتيقِ حضورُ تاريخي
فأقرأُ في رهافتهِ... أنا...
فأنا أرى ذاتي على ألقِ الزمانِ،
يدلُّ خطوةَ غيمةٍ...
تاهتْ بليلِ المرحلةْ!

استخدم الشّاعرُ في هذه المقطوعة أسمَ الاستفهام (كيفَ ) ثلاثَ مراتٍ، واستخدم حرف الاستفهام (هل ) مرةً واحدةً، لِأنَّه يبحثُ عن الإجابات التي وَجبَ أن تلتصق بحروفِ الحكاية، وفي كثرة استخدام أسماء الاستفهام دلالةٌ على استنزاف الحلول أمام الشّاعر، والبحث عن الذات الذائبة في آخرَ ربّما يسكن تفاصيل الشّاعر.

وها هو شاعرنا يستخدمُ أسلوب الحوار الداخلي (المونولوج) مع الآخر.. هل جئتَ تدركُ ذاتَ روحك.. أم أتيتَ لتلتقي ظلَّ الموت.. ؟ فشاعرنا يوجّه لنفسه الأسئلة التي يعرفُ إجابتها، أو ربّما يوجّه لِآخرَهُ المتمثل بالفلسطينيِّ أينما حلّ، بِـ (هل جئتَ.. أم أتيتَ.. فكيفَ تأخذني.. وترجعني.. وتلقيني).. وربّما كانَ الآخر ذاك المتغطرسُ الذي لا يعرفُ لغة الحوار أصلاً ؛ لكنَّ الشّاعرَ يرفضُ الآخر المتمثّل بالمحتلِّ جملةً وتفصيلاً، فيردّ عليه بـِ " ولا.. لا زالَ يأخذني إلى بيتي حضورُ تاريخي.. " نعم سيدي الشّاعر فحضور تاريخك لن تستطيعُ أيُّ قوّةٍ على وجه البسيطة أن تلغيهُ مهما بلغتْ هذه القوةُ من غطرسةٍ.. ويصرُّ الشّاعرُ على وجود الفلسطينيِّ بمقولةٍ وَجَبَ أنْ تُدرّسَ " فأنا أرى ذاتي على ألق الزّمان، يدلُّ خطوة غيمةٍ تاهت بليل المرحلة " فبهذه الاستعارة (خطوةُ غيمةٍ..) دلالةٌ على مسير قضية الفلسطينيِّ التي جعلها الأقربون تتوه بعض الشيءِ عن طريقها، لكنها لن تضلَّ مهما ابتعدت عن المسار، فالتوهان في نظر الشّاعر لا يعني الابتعاد الكليِّ عن الطريق ؛ بل يعني حتمية العودة إلى مكان النشأة مهما طال البعد، ومهما تجبّرَ القهرُ، وبنى لنفسِهِ الأبراج التي توهّمَ أنْ توصله لتلك النجمة التي تُسمّى فلسطين.

ويطيرُ في دميَّ السؤالُ،
طلاسماً سرقتْ ملامحَ أنهري
وأنا القراءةُ في الفصولِ،
أتى الحمامُ على الهديلِ،
فكيفَ تنسى في المواعيدِ،
اشتياقَ الشمسِ...
لونَ حروفها،
ليظلَّ صوتي في الندى
يمشي...
ولا ينسى...
مواعيدِ انكسارِ الجلجلةْ!
فمذاقُها...
مدَّ الحنينَ إلى حنينٍ
باحثٍ عني...
وفي عينيّْهِ أجوِبَةَ الصباحِ،
تلمُّ عن قلبي عتاباً...!
يربكُ المعنى....
ويفتحُ في الخيالِ حقيقةً
وكأنَّ هذا الوقت يستافُ المكانَ،
جداوِلاً.... في قمحِها...
تنهي ظِلالاً باطلةْ!

" وأنا القراءةُ في الفُصول " نعم أيّها الشّاعرُ، أنت القراءةُ في كلِّ الفصولِ، وأنت الحروفُ التي تُكتبُ بها أبجدياتُ النَّصر، وأنت الفصول ذاتها التي لا تتغيّرُ مهما كثرتْ حولها الثعابينُ التي تبثُّ سمومها بجسد المكان ؛ لتبقى رياحُ البعد تسيطرُ على المشهد. واهنأ فصوتك لن يتوقفَ عن مسيره، ولن ينسى الجلجلة، فالرعدُ يُنذرُ باقتراب العاصفة التي ستهدمُ القهر، وتنسفَ الألم، وتُذيبَ الصّخر الذي جثم على صدر الأُمّة هذه السنينُ السّوداء. وكم نحنُ بحاجةٍ إلى الحنين الذي تمدّهُ هذه المواعيدُ بنصرٍ يفتحُ الأبوابَ أمام الفجر، يبصرُ الوطنَ وهو يرتدي حلّته الجديدة معَ خيوطِ الأملِ القادمة من جوف القلوبِ العاشقة ثرى هذا الوطن. " وفي عينيه أجوبةُ الصّباح " الأجوبةُ المُنتَظَرةُ منذُ أن سكنتِ الأرضُ أبناءُ آوى، ولطّختْ معاني الإنسانية. " وكأنَّ هذا الوقت يستافُ المكانَ، جداوِلاً.... في قمحِها... تنهي ظِلالاً باطلةْ! " للهِ درّكَ شاعرَنا فقد جعلتَ الوقتَ يستافُ المكان جداولاً. ورسّختَ مفهومَ كنعانية الأرض مرةً أخرى من خلال استخدامك لـِ (قمحها)، فأنتَ تُصرُّ على أمرين مهمين وهما : أصلُ ساكن الأرض، ومهنته حال سكن الأرض. وما هذا الغريبُ إلا طارئٌ على ترابها، ولن يستطيعَ التعايشَ مع حبيباتها مهما حاول تهويدَ الأمكنة. فوجوده باطلٌ، وظلاله زائفةٌ.

وتعودُ تسألُ منْ أنا؟
وعلى شفاهي استيقظتْ
فيَّ السنابلُ،
كالضحى مبتلَّةً
بوضوحِ أجوبةٍ
تلمّْلمُ ما تناثرَ من دموعٍ
فوق ضوءِ جدائلي
أيقونَةً...
تمشي على وجعي
وتبعدُ عن مكاني خرافةً
كالسيفِ يمشي حدَّهُ
وروائحُ التاريخِ فيهِ،
الفاصلةْ!
وأنا أكونُ على السحابِ
هديلَ طيرٍ هاطِلٍ
لمَّا جفافُ الأرضِ يدعوني
فأفرشُ في تجلِّي لهفتي
مجرى المياهِ،
يظلُّ في غيم السواقي
لا يسلِّمُني إلى زمنِ الفراغِ،
على يديَّ حجارةٌ،
لا تستريحُ...
قبيلَ أن أمشي
على أشواقِ ذاتي
زُلزلةْ!

يتساءلُ الشّاعرُ مستغرباً، أبعدَ كلّ ما ذكرتُ لك عن ذاتي، واسمي، وهويتي، ولون بشرتي تعودُ تسألُ مَن أنا.. فالشّاعرُ يستنكرُ سؤالَ السّائلِ، ويستهزئُ منه.. أبعدَ كلّ ما وضّحتُهُ لك تعاودُ السؤال ؟ ألم تعرف بعدُ هويتي ؟ وفي سؤال الشّاعر رفضٌ لهذا القرار الذي أصدرهُ الآخرُ، والمتمثّلُ بتغريبي عن المكان الذي أتصلُ به روحيّاً. فأنا الذي استقيظت السنابلُ على شفاهي مبتلةً.. وفي هذا دلالةٌ على قِدَمي على هذه الأرض، وعلى صلتي بها، فطالما أنَّ السنابل تستيقظُ على شفاهي، فهيَ بالنسبة لي كالأمّ بالنسبة لعيالها، وهل تبيعُ الأمُّ عيالها ؟

وانظر أيها القارئُ لشاعرنا وهو يوضّحُ هوية مَن سكنوا المكان وكانوا شهوداً عليَّ وعلى أحقيّتي فيه : " وروائحُ التاريخِ فيهِ، الفاصلة ! " فالتاريخُ بِمَن مروا به، وكانوا ضيوفاً على هذه الأرض شهوداً على خِداعك أيها المُدّعي. ويحضرني قولُ الشّاعر تميم البرغوثي عندما وضّحَ هوية مَن سكنوا مدينتنا الفاضلة " فيها الزنج والإفرنج والقفقاج والصّقلابُ والبشناق والتاتارُ والأتراك أهل الله.... فيها كلُّ مَن وطئَ الثرى.. " ويستهجنُ تميمُ بقوله : " أرأيتها ضاقت علينا وحدنا ؟ " فكلُّ من ذكرهم الشاعر تميمُ البرغوثي وكأنّ شاعرنا اختصرهم بقوله " روائحُ التاريخ " وما أجملَ هذا التصوير الذي أمدَّ القارئَ بطبيعة الظالم الناكر الحقَّ وبمكن وقفوا لجانبه يزوّرونَ الحقائق، ويدفنونَ روائحَ التاريخ حتى لا تكونَ شاهداً عليهم، ودليلاً على أحقيتنا في المكان.

ولم ينسَ شاعرنا أطفال الحجارة الذين كتبوا بعض التاريخ بحجارتهم : " على يديَّ حجارةٌ،
لا تستريحُ... قبيلَ أن أمشي، على أشواقِ ذاتي زُلزلةْ! " فالحجارةُ لا تستريحُ، لأنَّ مهمتها أنْ تزرعَ في داخلي زلزالاً يكونُ على أعداء الحقِّ فاجعةً. والشّاعرُ من خلال عبارته هذه يُخبرُ المحتلَّ بأنَّ الأطفال الذين حملوا في يومٍ من الأيام حجارةً أذاقتك الويل، سيكبرونَ ويحملون في قلوبهم الوطن، ويمضونَ نحو الغاية التي سكنت قلوبهم مذ رضعوا حليب الثورة من أثداء الوطن. وشاعرنا أرادَ أن يزرعَ بعضاً من الأمل في نفوس أبناء شعبه ؛ لأنَّ العدوَّ يتقنُ لغة التيئيس.

أجئتَ تسألُ من أنا؟
أم جئتَ تغتالُ الندى؟
وأنا أكونُ مع الطيور،
أعيدُ لحنَ هديِلِها
لمَّا على لحنِ الغناءِ تكسَّرتْ
مثلَ الشظايا
وانتهت من روحِها
نايُ الورودِ،
أعيدُ أسئلةَ الشظايا
من دهاليز المسافةِ،
كيفَ أنتظرُ المتاهةَ؟
كيفَ تعطيني تضاريسي...َُضحىً؟
وأنا على غاباتِ أسئلتي
أُلملمُ من عيونِ الوقتِ،
دمعَ مدائنٍ لا... لا..تزالُ،
على المكانِ مؤَّجلةْ!
ومع البحارِ أكونُ موجاً باحِثاً
عن أساطيرِ اغترابي

الندى في تقييم الشّاعرِ هو الأمل والغد.. هو الجيلُ الذي سيبقى سدّاً منيعاً في وجه المحتلِّ المُغتَصِب. وعدوّنا يجتهدُ في اغتياله ؛ لأنّه باغتيال الندى سيقتلعُ الأملَ من بين ثنايا الأيام، وسيصبحُ النّصرُ مجرَّد فكرةٍ ستنطوي بغروبِ شمسِ يومٍ كانت ستسودُ لو نبتت البذرةُ في الأرض الخِصبة، وسُقيت ماءً صافياً، وندًى يبتهجُ لبعض شُتيلاتٍ ستولدُ إذا أتقنَ الزّارعُ العناية بها. وشاعرنا أخبرَ المحتلَّ أنّه مسافرٌ معَ الطّيورِ يعيدُ تشكيل الصُّفوفِ لمّا تناثرَ الجَمْعُ، ووئدتِ الفسيلة التي بُذلَ من أجلها الغالي والنّفيس.

وانظر سيدي القارئ للشاعرِ وهو يتساءلُ : " كيفَ أنتظرُ المتاهة ؟ كيفَ تعطيني تضاريس... ضحى ؟ وأنا على غابات أسئلتي ألملمُ من عيون الوقتِ دمعَ مدائنٍ لا.. لا تزالُ على المكان مؤجلة ! " فما هيَ المتاهة التي أوردها الشّاعرُ ؟ إنَّ المتاهة في نظر الشّاعر ما هيَ إلا الدائرة التي لا تنتهي من الآلام المنبثّة بين ظهرانينا عيونَ أعداءٍ تمادوا بصمتنا، فأصبحنا نلاحقَ سراباً لا يُغني من الحقِّ شيئاً. وما هي دلالة الاستعارة المكنية عندما جعل للوقت عيوناً وللمدائنِ دموعاً (ألملمُ من عيونِ الوقتِ دمعَ مدائنٍ..) ؟ ينظرُ الشّاعرُ بعين البصير بالأمور، العارف ما ستؤول إليه المجازاتُ التي قلبت الحقَّ باطلاً، وحكمت حقائقَ رغمَ معرفة القاصي والداني بأحقيّتنا في الأرض، وشرعنتِ الظلمَ الواقفَ على كلِّ بابٍ، فأصبحت بذلك المدائنُ تتغذّى على الأنين المنبثق من بين مرايا الأيام، فينعكسُ أشعةً تنتشر انتشار النار في الهثيم، فتمزّقُ قلوبَ المدائنِ، وتعلوها سحابة اليأس كلّما ارتقى شهيدٌ إلى حيثُ يريد.

كيفَ لا يدعو الحنينُ،
حنينَ ذاتي...؟
والبحارُ يقينُها سفنٌ
ترتاحُ بينَ يديَّ
شمساً
مقبلةْ!
يا ويّحي....
كيفَ تطولُ بي هذي الطريقُ،
على الرياحِ وحيدُ دربي
ماشياً في لهفِ عاطفتي
فكيفَ يليقُ بي
وجعُ انتظارٍ
دمعةً تشتاقُ دمعةَ حزنِها؟
وأنا على صحوِ المدائنِ،
أنتشي...
في نشوةِ التاريخِ،
لمَّا تعلَّقتْ....
عُنُقُ الظلامِ،
على حبالِ المقصلةْ
لا...لمْ يعُدْ يجري أمامي
غيرُ هذا الإحتمالِ،
على مسافاتِ الرؤى...
إمَّا أكون سحابَ ذاتي
ململماً عطشَ الذبولِ،
عن الحقولِ،
وإمَّا أن أجري بحاراً
تكتبُ الأيامَ ملحمةً...
وأجملُ هذهِ أو تلكَ،
عباءةٌ...
في الروحِ تمشي طقوسها
كالسحابِ....
وفي يديها
خلودُ ملحمةٍ...
نقشتْ....
على ألقِ الزمان حياتِها،
وعيونُها تتجلَّى فوقَ مشيئةِ الأيامِ،
درباً عاصفةْ

يعاودُ الشّاعرُ ـ وفي كلِّ مفصلٍ من قصيدته ـ إلى طرح التساؤلاتِ التي تقودُهُ في كلِّ مرةٍ للوصول إلى الغاية المرجوّة، والتي باتت هاجساً يقضُّ نومَ المُغرمين بالحبيبة (فلسطين )، فكيفَ لا يدعو الحنين، وكيف تطولُ به هذه الطريق، وكيفَ يليقُ به وجعُ انتظارٍ.. وفي كلِّ سؤالٍ تجدُ حكايةً تُسردُ ضمناً عن شعبٍ يُدكُّ والعيونُ ترقبُهُ، والأيادي تلوّحُ له بالسلامات التي لا تُغني من ألمٍ، ولا تسمنُ من بُعدٍ !

لله درُّك سيِّدي الشَّاعر وأنتَ تقولُ : "والبحارُ يقينُها سفنٌ، ترتاحُ بينَ يديَّ شمساً مقبلةْ! " فقد جعلتَ البحارَ توقنُ كما يوقنُ البشرُ ؛ لكنّك جعلتَ يقينها حقيقةً، فالبحارُ لا تؤمنُ بأنصاف الحلول، فيقينها سفنٌ تحملُ شمساً مُقبلةً ستمحو الظلمة المُفتَعلة. والسفنُ معادلٌ موضوعيٌّ للثائر الفلسطينيِّ الموقنِ بالغد المُشرق، وهذا تصويرٌ لمعادلةِ أكونُ أنا أو أكون أنا.. نعم سيدي الشّاعر أنت لن تكون إلا أنتَ، ولن تستطيعَ أيُّ أمَّةٍ مهما بلغت من البطش أن تمحوَ اسمك من على صفحات التاريخ ؛ لأنّك التاريخُ بتفاصيله. وها هو شاعرنا يذهبُ إلى خيارين فإمّا أنْ أكونَ سحابةً أو أجري بِحاراً.. لكن ما وظيفةُ البحار سيدي الشّاعر ؟ إنّ البحارَ ستكتبُ الأيام ملحمةً، وقد اجتمع يقين الشّاعر معَ يقينِ الثائر الذي عَلِمَ أنَّ المحتلَّ لا يعرفُ إلا لغةً واحدةً، هي لغة الحِراب، هذه اللغة التي ستُنقشُ على ألق الزّمان، وعيونها ستبصرُ عاصفةً قادمةً من هناك، حيثُ اكتمال البدر في ليلٍ ربيعيٍّ يرعى مَن لبسوا أكفان العبور إلى الرجوع.

وتعودُ تسألُ من أنا؟
وأنا أكونُ على رضابِ بلاغتي
رئةَ المعاني...
كم تنفَّستُ الجمالَ ببحرها
وعلى شذا كلماتِها
لم يصحُ من خمر القصائدِ،
ناقدٌ.....
ويُجيبُ أسئلةً تماهتْ
في خلودِ ورودِها
كندى السماء يذوبُ،
في وحيِ الحروفِ المرسلةْ

وها هو شاعرنا يختتمُ قصيدته بنفس التساؤل الذي أجبرَ القارئَ على التساؤلِ والبحث عن هوية الشّاعر الذي رفع اللواء برغم السواد المنتشر ثوبَ ليلٍ.. فشاعرنا تنفّسَ الجمالَ ببحر محبوبته، وشربَ خمر حبّها حتى الثّمالة، وكانَ رسولاً يجول ما بين المحبوبة والحروف التي كوّنت الأسماء رغم تتابع النكبات، فمضت سُنّةُ العاشقين تزيلُ من طريق الثوار كلَّ ما علقَ من ترّهات الواهمين بأنَّ الصمتَ سيجلبُ للحرةِ ما ضاعَ منها عبر تلابيب الأيام..

أقفُ أنا (خالد طالب عرار ) على أعتاب النهاية، وقد ارتشفتُ كوبَ شهدٍ من صنع الشاعر الدكتور جمال سلسع، حتى ارتويتُ شعراً وفصاحةً وجمالاً، كما تشتهي التربة حبّاتِ المطر.

خالد طالب عرار

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى