الاثنين ٢٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٦
بقلم نوزاد جعدان جعدان

عندما ركضتْ الكتبُ بي

تتسكع الذاكرة بنا دائما في أروقة أول كتاب قرأناه، يبقى عالقا في الذهن مهما بلغ منا العمر، ونظل نذكره ونتذكر كل تفاصيل هذا الباب الأول الذي طرقناه في هذه العمارة الممتدة بنا بغض النظر عن قيمة الكتاب أو أهميته التي نكتشفها بعد أن تصطف الكثير من الكتب في حافلة عمرنا، أذكر أن أول رواية طالعتها كنتُ في الابتدائية أفلح أرض جدّي وكنتُ حينها مزارعا بامتياز يبحث عن أي كتاب كي يقرأه؛ شدّتني مرتفعات إميلي برونتي روايتها تلك وهي ترسم بحرفية مشاهد المنطقة الصخرية والمتحجرة القلب، كنتُ أفلح خطوط الأرض وأنا أتأمل صباحات قريتي ومشاهد الحزن في الرواية تجلس على قلبي، كما كانت جدّتي تجلس تحت ظل شجرة زيتون وفي قلبها قهر كبير، تنتظر ساعاتها الأخيرة وأنا أتأملها كي تغفو ربما أسرق منها حبّات تين مجففة من بقجتها الزرقاء المنقطة بالأبيض؛ كنت وغدا ريفيا صغيرا وكانت جدّتي تشبه تلك الشخصيات المصابة بالسل في مرتفعات برونتي.
هذه الرواية نقلتني من عالم إلى عوالم أخرى كما يقول العلامة محمد إقبال؛ إذ بدأتُ أقرأ للمنفلوطي وأنبهر ببلاغته الأدبية التي كنتُ أستعين بالمعاجم كي أفك رموز معاني كلماته، فهذه كانت نصيحة والدي الدائمة وأنا أتذمر منها إذ كان والدي كلما شاهد وجهي ينصحني بهذه النصيحة المباشرة كما الأسلوب الخطابي المباشر للمنفلوطي.
هنا بدأت فكرة تأسيس مكتبة صغيرة لي ولأني لم أكن أملك سعرها؛ فبدأت أشتري الكتب وأضعها في خزانة ملابسي، أشتريها من الأرصفة وخاصة في ساحة سعد الله الجابري بمدينة حلب من بائع لئيم كنتُ أنظر إليه كجزار يوسا "تورخبيو " في حفلة التيس ؛ يقايض عشرين مجلة بكتاب صغير ، حينها كنت أمشي على الأقل عشرة كيلومترات كي أصل إليه حاملا حقيبة ثقيلة مليئة بالمجلات ، كانت ثقيلة على ظهر مراهق يافع، كانت مقايضتنا تذكرني بغرباء هايسميث حين يتفق البطلان على المقايضة بالقتل بحيث لا يكونان أحد المشتبه بهم في وفاة ضحية كل منهما.
اقتنيت كتب مصطفى محمود وروايات ماركيز وأشعار رامبو ولوركا وأمل دنقل والمتنبي دون قواسم مشتركة تجمع ذائقتي، فأنا فوضوي وعشوائي وكبرتْ معي هذه العادة في ذائقتي القرائية إلى جانب الطعامية؛ فلا أعلم لماذا أحب أكل الحلو مع الحامض، ربّما بسبب خيمائي باولو كويلهو أو ربما لأني أحببتُ لأول مرة وكانت في حصة الكيمياء وأنا استعرض عضلاتي بالتفاعلات الكيماوية أمامها حتى أني كنت أحفظ بصما حلول المسائل الكيماوية من صديقي الشاطر، ملكتني عادة تكديس الكتب وعدم قراءتها، ومن الواضح أنها عادة حدثت معي وقتها كي أبرهن أني أصبحت مثقفا وعندي الكثير من الكتب.
للغبار المكدّس على الكتاب معي حكاية؛ أحب ذلك الغبار لم أكن أسعل منه وأنا أخرجه من المكتبة، أشعر به كأنه ذلك الغبار الذي يغطي جناحي الفراشة؛ كان هذا التشبيه يعتريني فكانت أجنحة الفراشات التي كنتُ أطاردها في حقل جدّي تشبه إلى حد كبير أجنحة الكتاب الذي كنت أطير به، مع ذلك كنت أشعر بالحزن أيضا عليه كأني تركتُ هذا الكتاب لزمن يسعل من الغبار؛ بنفس الطريقة الذي ترك والد جرونوي بطل زوسكيند ابنه يعاني من الروائح القذرة في رواية العطر .
بدأت قراءتي تتعمق أكثر حين اتجهت إلى الفلسفة والعلوم الإنسانية تلك الكتب التي كنّا ننظر إليها على أنها مملة جدا ونستغرب من الأشخاص الذين يقرؤونها، كانت الكتب تشعرني وكأني انتعلت خفاً رياضيا وهذه الكتب تركض بي في حقل يشبه حقل جدّي ..ذلك الحقل الأول الذي أخبرني عن كتاب جدّتي الأول جدّتي التي لا تعرف أن تفكك الحرف..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى