الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦

في رحاب القدس لسمير سعد الدين سوميره

عبدالله دعيس

"في رحاب القدس" كتاب مذكرات ومجموعة من المقالات للكاتب الصحفي سمير سعد الدين سوميره صدر مؤخرا عن دار الجندي في القدس في 232 صفحة من القطع الكبير.

أن تكون في رحاب القدس تتفيّأ ظلال زيتونها، وتجاور سورها، وتنعم بنفحات مسجدها الأقصى، لهي متعة لا يعلم طعمها إلا من تذوّقها، وعاش لحظات غالية يتنسّم عبق التاريخ، ويتمثّل قرونا من الرجال والنساء ذرعوا طرقاتها، وعاشوا محافظين عليها ناهلين من معين قدسيتها. القدس تحبّ أبناءها كما يحبونها؛ لذلك فهم لا يبالون بما يواجهون من صعوبات وما تحيط بهم من أخطار، فهذا ثمن زهيد مقابل أن تعيش في رحاب القدس. ومن يشرب ماء القدس لا يستطيع أن يفارقها، وإن أجبر على مغادرتها، تبقى حيّة في وجدانه وقلبه وعقله حتّى يعود إليها. وتبقى القدس هي الينبوع الذي يغترف منه الكتاب والأدباء والشعراء، يروون به أشتالهم فتغدق عليهم بثمارها.
والكاتب سمير سعد الدين سوميره هو أحد هؤلاء الذين رضعوا لبن القدس وعاش طفولته فيها، لكن حرب عام 1967 باغتته بينما كان في زيارة إلى غزّة؛ فوجد نفسه مشرّدا ينتقل من عاصمة إلى عاصمة، لكنّه حمل القدس في فؤاده فأصبح صحافيّا مرموقا يبثّ هموم القدس وفلسطين إلى العديد من الصحف العربية والعالميّة، فكان ابنا بارّا لها، لم يزل يحمل همّها وينافح عنها بمداد قلمه وبكلماته الصادقة المعبّرة.

فهذا الكتاب هو مجموعة من المذكرات التي تحكي سيرة صحافيّ نشأ في القدس أثناء الحكم الأردنيّ واختلط بالطبقة المثقّفة فيها منذ نعومة أظفاره، وخبر مكتبات القدس وصحفها، ثمّ عمل في الصحافة، وسار في ركب منظمة التحرير الفلسطينيّة والتنظيمات الفلسطينية أينما حلّ مقاتلوها وسياسيّوها؛ فاطّلع على كثير من الخفايا وتعرّف على كثير من زعمائها وروّاد العمل الوطني عن قرب، واستطاع أن يكشف ما كان يدور وراء الكواليس وأن يبين السمات الشخصيّة لهؤلاء.

نستطيع من خلال ما قدّمه الكاتب أن نفسّر العديد من الأحداث التي حصلت بعد ذلك ونفهمها بطريقة أفضل. فالكاتب نقل ما رآه وما سمعه أثناء عمله الصحفيّ بصدق وأمانة، ولم يصدر أي حكم، وبقي على مسافة واحدة من جميع الأطراف، ولم يكِل الاتهامات، ولم يعزُ فشلا لشخص بعينه ولم يجيّر نجاحا لغيره. ومن خلال ما كتبه عن العديد من الشخصيات الفلسطينية الذين ما زال بعضهم يمسك بزمام الأمور ويقود المصير الفلسطيني إلى المجهول، نلحظ في هؤلاء السطحيّة والتنافس على المقاعد والنفوذ، وشخصنة الأمور والسعي إلى المصالح الذاتيّة، وعدم تقبّل النقد، والتفرّد بالقرارات، وإقصاء الآخرين، بينما كان بعض العامة ينظر إلى هؤلاء بثقة ونوع من القدسيّة والتبجيل، فكان أن تاه المركب الذي قادوه، وأشرف على الغرق في أمواج عاتية ما زالت تتقاذفه، وما زالوا يصرّون على قيادة الدفّة باتجاه المجهول، دون دراية وإخلاص.

وبالمقابل، فإن الكاتب يلفت النظر إلى العديد من الشخصيات التي كان لها الأثر الكبير في العمل الوطنيّ، وضحوا بالغالي والنفيس، ودفعوا حيواتهم ثمنا لتمسّكهم بالمبدأ وحبهم للوطن. ومن هؤلاء أناس عاديّون، لا نكاد نلحظهم، لكنّ تأثيرهم فاق أولئك الذين يتصدّرون وسائل الإعلام. ويعيب الكاتب على المناهج الفلسطينية عدم إبرازها لهؤلاء الأبطال وتدريس سيرهم للنشء ليكونوا الملهمين لهم. ويعيب أيضا على المناهج عدم إبرازها للأماكن التي لها مكانة كبيرة في وجدان الشعب الفلسطيني مثل المسجد الأقصى وباب العمود. ويقوم الكاتب بهذا الدور من خلال مقالاته في نهاية الكتاب، حيّث يركز على العديد من الشخصيات المعروفة وغير المعروفة، ويسهب في وصف الأماكن، ووصف تفاعل الناس مع هذه الأماكن في الماضي والحاضر.

ويستخدم الكاتب لغة تقريرية مباشرة في وصفه للأحداث والأماكن. ويعتمد على الاستطراد وربط الحاضر بالماضي؛ فينتقل أحيانا من موضوع إلى آخر وكأنّه يخشى أن تفوته المعلومة وألا يستطيع العودة إليها، مما يربك القارئ ويشتّته. ويذكر الكاتب عددا كبيرا جدا من الأسماء، في أوقات مختلفة وأماكن مختلفة حتى يتوه القارئ بين هذه الأسماء ولا يستطيع متابعة الأحداث.

ويستعرض الكاتب الكثير من الأحداث، دون أن يذكر زمان ولا مكان حدوثها؛ مفترضا سعة اطّلاع القارئ ومعرفته بهذه الأحداث. أتخيّل لوّ أن قارئا شابا تصفّح الكتاب ورأى كل هذه التسميات والأحداث، لما استطاع أن يجمع شتاتها ويخرج بتصوّر واضح عنها. وكذلك فإن الكاتب لا يراعي أحيانا الترتيب الزمنيّ للأحداث فيذكر هبّة النفق مثلا التي حدثت عام 1996 قبل مجزرة الحرم الإبراهيمي التي حدثت عام 1994 دون الإشارة إلى تاريخ حدوثهما، ويذكر مذبحة صبرا وشاتيلا مثلا دون ربطها بأي حدث يدل على مكان وزمان حدوثها أو من اقترفها؛ مفترضا معرفة القارئ المسبقة بها، ومثل ذلك كثير في الكتاب. وحبذا لو قام الكاتب ببذل جهد أكبر في تنقيح كتابه وتهذيبه من الأخطاء اللغوية والمطبعية العديدة.

وما تزال القدس تلد أبناء بارّين، لا تنضب أقلامهم ولا تجفّ دواتهم، تلهمهم فيكتبون لها وعنها مهما ادلهمّت الخطوب حولهم. وهذا الكتاب إضافة مهمة إلى هذا العطاء المتواصل، وحلقة أخرى في هذه السلسلة المتينة

عبدالله دعيس

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى