الأربعاء ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦

ثورة العَدَسِيِين ...«الحلقة الثانية»

عبدالحق الريكي

رجعت إلى المكتب منهك القوى وبذمتي تسديد ثمن طبق كسكس... وصلت وأول ما لاحظت وقوف البواب لتحيتي كما يفعل مع المديرين الكبار... تعَجَّبت لموقفه وهو الذي يرد عليَّ السلام من وراء مكتبه... صعدت المصعد ودخلت بهو الإدارة وإذْ بكل العاملين ينظرون إليَّ كما لَوْ أنهم يروني لأول مرة... زاد عَجَبي وطلبت من الله أن يختم العاقبة بخير لأن حدسي كان يتنبأ بالأسوأ...

دخلت مكتبي ولم تمر هنيهات حتى رن الهاتف الثابت... ألو؟ كان على الخط مدير التخطيط، واحد من أصدقاء العمل... باغتني: " استعد، استعد!!"... قُلت : أستعدُّ لأي شيء ؟ قال : ألم تعلم أن لجنة عليا أتت تسأل عنك؟ هذا يقع حين يُطلب تكوين ملف لترشيح شخص ما لمهمة كبرى، فإذا أصبحت وزيرا فلا تنسى تعييني في ديوانك... وأنا أحاول فهم ما يقع، إذ به يخبرني أن اجتماعا مُهِما ينتظره وِإِن كنت راغبا في معرفة الكثير فمَا عليَّ سوى الحديث مع الموظف "العالم" (نَنْعته بالعالم لأنه لا تخفى عليه صغيرة ولا كبيرة بالإدارة)...

سيدي "العالم": هل تَشَّرفت بأخْذ كوب شاي بمكتبي وتحكي لي عن كل ما دار بينك وبين "رجال الحال"، العفو اللجنة العليا؟ هكذا باغتته بسؤالي وأنا متيقن أنه كان ينتظر مجيئي... قال الموظف "العالم": إما أنك "قَفَّرْتَها" وإما أن خيرا كبيرا ينتظرك... قلت مع نفسي: صديقي المدير عقله وأمانيه مع الترقيات والمناصب والموظف الصغير "العالم"، عقله مع المصائب والمشاكل... كُل واحد وهمومه...

حَكَى لي الموظف "العالم" أن الأوامر أُعْطيت صباحا لكي لا يُغادر أي موظف عمله ولو لأداء صلاة الجمعة، ما دامت لجنة مديرية ستحل بالإدارة، ولكن تم استثناءك من هذا القرار ولم نفهم لماذا... بدون شك أنك لاحظت غياب موظفي الإدارة عن المسجد، أنت ذو النظرة الثاقبة...
ضحكت لأنه فعلا أثارني غياب صف كامل من موظفي إدارتي... وزاد "العالم": مباشرة بعد خروجك للمسجد، حَلَّت اللجنة العليا واجتمعت بداية مع المدير العام ومعاونيه ومن بعد تحدثوا إلى كل من يعرفك عن قرب ودخلوا مكتبك هذا وفي الأخير اجتمعوا مطولا معي إذْ رأيتُ، بعيني هاته، السيد المدير العام يشير بأصبعه نحوي قائلا لهم: الموظف "العالم" يمكن أن يمدكم بالمزيد...
قلت له، خيرا إن شاء الله... قال لي بثقة كبيرة : قلت الحقيقة كل الحقيقية غير الحقيقية... وماذا قلت أيها "العالم"، هيا انْطق... قال "العالم": أولا أنَّك إنسانٌ متواضع وأنك تُعامل الجميع باحترام، المدراء والموظفين الصغار... وأنَّ الجريدة والكتاب والكمبيوتر دائما يرافقونك في مجيئك وذهابك... وأننا نعتبرك هنا في الإدارة المُثَقف الكبير الضعيف الأجر... وأنك تهتم كثيرا بوضعية الضعفاء والمهضومة حقوقهم... قلت له : يكفي، يكفي يا عالم، "خرَجْتي عليَّ"، نهار أسود اليوم... نَهَض الموظف "العالم" وهو يصيح : أنا قُلت لهم شهادة حق لأنك إنسان طيب ولكي أُجَنِّبك مكروها إن كان في نيتهم إيذائك...

الموظف "العالم" لم يكن يعلم (لعدم استعماله التكنولوجيا الحديثة، لأنه من جيل الورق)، أنه زَكَّى من حيث لا يدري، انحيازي الواعي لشعب العدس وكون تدوينتي ليست بريئة ما دُمْت متواضعا ومثقفا وأهتم بالضعفاء... يا رب سَترك حتى يمر هذا اليوم بخير وينسى العالم كله تدوينتي وثورة العَدَسِيين... لكن يبدو أن الكرونومتر انطلق ولا أحد قادر على إيقافه... تَيَّقنت بحَدَسي أن أمورا كبرى تقع وستقع وأن حكاية العدس تُنبأ بالمزيد...

الجمعة مساء، الرجوع إلى المنزل...

كلما اقتربت من حارتي وإذا بالشوارع تكتظ بالمارة من كل الأعمار ولكن مع غلبة للشباب والشابات... وكلهم ذاهب في اتجاه الشارع الذي أقطنه... ما إِن وصلتُ ورَكَّنت السيارة وخرجتُ منها، إِذ بالحناجر تصيح : "العَدَسي يا رفيق، ما زلنا على الطريق"، وآخرون يرددون:"سوا اليوم سوى غدا، العدس ولا بدا"، وفي الجهة المقابلة عرفت بعض ألتراس فريق مدينتي يرددون: "مبروك علينا هادي البداية مازال مازال"... قلت مع نفسي : لطفك يا رب، هل أنا في حلم منذ أن كتبت التدوينة الملعونة وطلبت شعب الفايسبوك العظيم أن يثور على وضع الغلاء الفاحش للعدس...

كنت وسط الجموع لا أعرف ما أفعل : هل أَرُد التحية ؟ هل أَرْفع شارة النصر ؟ هل أُرَدد معهم الشعارات وأنا المعروف بِعشقي الانصهار في المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية أيام النضال؟... وأنا سَارح بتفكيري، إِذ برجل الحال الذي تناول معي الكسكس يَهمس في أذني : ارفع شارة النصر وخُذ معهم بعض الصور حتى نتمكن من إخراجك من هنا سالما وإدخالك المنزل...وزاد قائلا : لا تَخف، نحن هنا لمساعدتك وتفريق الجموع بدون مشاكل... وهو يتحدث إلىَّ كنت أردد بداخلي: أعود بالله من الشيطان الرجيم، من أين خرج هذا، حتى وجدته ثانية خلفي!!...
وأنا شارد في تفكيري، إِذ به يَنصحني بأدب أنه من الأحسن لي تفادي الصحافة الوطنية والدولية وأنَّ احتمال لقائي بوزير الداخلية هذه الليلة وشيك وهو في طريقه إلى المغرب بعد أن طُلِب منه العودة باستعجال... قلت له يكفي لقاء مديرك... قال: القضية كبرت وما زِلت أشُك إِن كنت تُناورني أم أنك لا تعلم صدى قنبلتك الفيسبوكية... وأنا أحاول الجهر له أنني فعلا لا أعرف ما يقع لي، إذ به يقول : من الأحسن أن لا تُحدثني وسط الجموع والمصورين يلتقطون الصور وكاميرات التلفزة شاعلة... كُنَّا نتحدث وجموع الشباب والشابات والجيران وأصحاب المقاهي والمطاعم والحراس يُرددون ملئ الحناجر : "إذا الشعب يوما أراد العدس فلابد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر"...

دخلتُ المنزل بشق الأنفس ووجدتُ عائلتي الصغيرة والكبيرة في انتظاري... قالت أمي : أَلَم أَقُل لك منذ وِلادتك، ابْتَعِد عن السياسة ؟ وما لنا نحنُ والعدس يا ابني، عِشنا بالعدس وكبرتم بالعدس وحتى إذا ذهب العدس هنالك "اللوبية" و"البيصرة" والبطاطس... وقالت زوجتي : حاولت الاتصال بكَ مرات عديدة وهاتفكَ لا يجيب ؟ قُلت: عذرا، كان صوته منخفضا، وذلك منذ دخولي المسجد لصلاة الجمعة ونسيتُ إعادة تشغيله (في الحقيقة أنه منذ لقائى مع رجل الحال وأنا أتجنب النظر في هاتفي وفتح الفايسبوك والميسنجر والتويتر والس م س)... أما ابنتي فتقدمت نحوي مطَالبة مني أخذ صورة سيلفي معها حتى تستطيع التباهي بها أمام صديقاتها لأنها أصبحت مشهورة بلقب بِنْت مول العدس... أما ابني فسألني إن كنت بخير قائلا لي بابتسامته المعهودة: يبدو أن الفرج سيأتي بفضل العدس... فَهِمتُ قصدهُ لكوننا كنا دائما نتحدث عن الشيء الذي سيكون السبب في تيسير حضورنا لمقابلة الكلاسيكو العالمي على أرضية ملعب "المِيرِينْغِي" أو "البْلَوْغْرَانا" ما دمت أنا مدريدي وهو برشلوني...

التتمة في الحلقات القادمة... إذا تيسرت الأمور. سنتناول في الحلقة الثالثة تطورات "ثورة العدسيين"، أول لقاء مع الثوار العدسيين وكذا بداية التفاوض مع حكومة تصريف الأعمال من رئيس حكومة ووزراء الداخلية والفلاحة وعن المسيرة وقمعها واعتقال ثوار العدس وإطلاق سراحهم بعد تدخل الأمريكان ووووو... الله الموفق...

ملحوظة : كما يقال فإن هذه الأحداث من وحي خيال المؤلف.. وكل تشابه في الأحداث والشخصيات أو الأسماء هو من قبيل الصدفة لا أكثر... إلا العدس...

عبدالحق الريكي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى