الأربعاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم جورج سلوم

أحلام طبيب

أ -

أغلق الدكتور منار الباب بهدوء وانسلّ إلى داخل بيته وتحسّس طريقه في الدهليز
 ما هذا؟ هل هي نائمة؟

وتلاشى الظلام من أمامه عندما ضغط على مفتاح النور.

خلع حذاءه الذي بلّله المطر ولطّخه الوحل، فبدا كحيوانِ غريب جاء لتوّه من معركة ضارية ناسياً أن يضمّد جراحه العديدة,وقد فتح شدقيه وأخذ يزفر زفيراً كريه الرائحة....

ولم يرقْ هذا التشبيه للدكتور منار فدفع الحذاء بطرف قدمه ليخفيه تحت السرير حيث تجمّعت أشياء كثيرة, لا يربط بينها سوى رابطة الانتماء للدكتور منار وزوجته....

 همّي الأول والأخير أن أنام الآن..

هكذا قال لنفسه.... نعم يجب أن يتمدّد في فراش ٍ دافئ وينام قرير العين بعيداً عن متاعب الحياة....

وعلى السرير كانت زوجته – وداد - التي تصغره بستة عشر عاماً, كانت قد استغلت الفراش كلّه ونامت عليه بالعرض , وطاف بذهنه أنه تشاجر معها بالأمس حول هذه الطريقة في النوم, ولم ينسَ أن يقول لها:

 إن كنتِ لا تحبين أن أنام حذاءكِ فقولي ذلك بصراحة...

وتقلّبت وداد في الفراش ومدّت ذراعيها جانباً وقد استولت على السرير ....

 لا بدّ من إيقاظها

وخرج من شفتيه ما يشبه الكلام بينما كان يمسكُ بكتفها

 يامدام....ياست وداد.....أفرغي لي مكاناً.... ألا يمكن للمرء أن ينام على هذا السرير ؟

وتململ الجسد النائم وقد بانت عليه أمارات الامتعاض والاستياء بينما كان الجسد المستيقظ يأخذ مكاناً إلى جانبه....

وبينما كان ملك الظلام يستعدّ للإطباق على الغرفة كان الدفء يتسرّب إلى أعضاء الدكتور منار وقد انكمش تحت اللحاف والتصق بجسد زوجته المفعم بالحرارة ليستلف بعض الدفء.....

 ب -

لا أولاد لديه بالرغم من كبرسنّه.....سبعة وأربعون عاماً.....قضى نصفها في بلغاريا يدرس الطب....

 يا ليتني لم أتخرّجْ

دائماً يردّد هذه العبارة...ياليته ترك الدراسة منذطفولته...واتجه للعمل في النجارة أو الحلاقة أو أي عملٍ آخر, لكنّها رغبة والدته التي باعت كل ما تملك لتعلّمه, ورغبة أبيه الذي تخرّج من الحياة قبل أن يتخرّج ابنه من الجامعة ...وكان رجاؤه في الحياة أن يرى ابنه طبيباً ( قدّ الدنيا ) !!!

 ج -

الصباح ما يزال بعيداً في هذا الشتاء القاسي , أو هكذا يتمنى الدكتور منار أن يكونْ..
يريده ليلاً طويلاً يظلّ فيه قابعاً في الفراش بعيداً عن الذلّ والانكسار الذي يلقاه في عمله.....
العيادةُ فارغةٌ ككهفٍ مهجور....جدرانها مملّة مليئة بصورٍ تشريحية لجسم الإنسان ....فهنا صورة المعدة وشرايينها وهناك صورة الجهاز العضليّ ....وهناكَ قائمة بأسماء بعض الأدوية التي تحيي العظام وتقيم الموتى من القبور.....

والأنكى من ذلك كلّه شهادةُ الطب تقفُ خجلةً على الجدار مصلوبةً هناك منذ عشر سنوات .....
المطر ينهمرُ بغزارةٍ في هذا الليل، فقطراته الضخمة ترتطم بزجاج النافذة مطلقة موسيقا غريبة.....والريحُ الثائرة قد أطلقتِ العنان لصفيرها بينما اختفى القمر الذي أُجهض في الليلة الماضية فتحوّل من بدرٍ إلى هلال ....

- د -

وجاء الصباحُ كجيشٍ هادر يمتطي صهوة الرياح تقوده الشمس التي تحملُ راية ً حمراء وترتفع في السماء مترنحةً من ليل الأمس البارد.....

كانت تشقّ طريقها خلف الغيوم الداكنة فتصبغ أطرافها بلونٍ دموي وكأنها قادمة من حربٍ ضروسٍ جرت في الفضاء البعيد.....

الغيوم تلملمُ حطامها ثم تلوي أعناقها وتتهيأ للرحيل بينما كان الدكتور منار يغلق باب البيت خلفه ويخرج بعد أن لوّح بيده لزوجته – وداد – المتوارية في المطبخ....

كان يترنم بأغنيةٍ عذبة كلماتها الرقيقة حصانٌ أبيض له أجنحة وردية فتحمله إلى عالمٍ روحانيّ جميل، طالما تمنى أن يهربَ إليه ...فيرسم على شفتيه ابتسامة....ويرفع يده لأحد المارة محيياً....ليأتيه ذلك الجواب كصفعةٍ مؤلمة:

- ألم تشترِ سيارةً بعدُ يادكتور..... أما زلتَ تمشي كباقي الناس ؟؟

- هـ -
عاد إلى العيادة وهدوئها وجلس إلى تموّجات الفكر وصخبه.

الحرمانُ الذي يعاني منه تحوّل إلى غادةٍ هيفاء خرجت من البحر لتوّها فنظر إليها المحرومون بشبق.... المحرومون المطروحون على الشاطئ... عيونهم الدّبقة أكلها الذباب....

وعلى مرأى من الجميع تنزع الهيفاء ثيابَها قطعةً قطعة عن جسدها المرمري فيزول البؤس ويتلاشى كالزّبد المحمول على أطراف الأمواج المتكدّسة على الشاطئ منذ سنين....
فتتحقّق الآمال المُحبطة وينقلبُ البحر مدينة تتحقق فيها كل الرّغبات....

فتمتلئ العيادة بالمراجعين، وتحارُ الممرضة كيف ترتّبهم بالدور....أحسب الطول أم العمر أم الجنس....

ويسمع الدكتور منار الضجيج في غرفة الانتظار فيسترخي على مقعده الوثير ويقرع الجرس باستخفاف:

 أدخلي الحالات الصعبة أو المستعجلة منهم وأما الحالات الباردة فسجّليها على الدور....

 يا دكتور.....أصبح الدور عندك لستة أشهر قادمة..

يضحكْ:

 لابأس ...لابأس ... أدخليهم إذن بالجملة...لقد سئمت بالفعل هذا الزّحام.

- و -

مساء ً ... يعود إلى البيت سيراً على الأقدام ...على سبيل الرياضة ليس إلا أما السيارات الحديثة التي يمتلكها فهي مضطجعة أمام البيت ..

يفتح الباب....الجيوب منتفخة ....زوجته تنتظره بثياب السهرة وتتمتم:

 في أي مطعم سنتعشى اليوم ؟؟

وفي المطعم يتراكض المضيفون والخدم حول مائدة الدكتور منار وبين يديه، ولا عجبَ في ذلك فالإكراميات التي يدفعها لأحدهم تعادل راتبَ موظف ٍ لشهر ٍ كامل.

ويتكلم الدكتور منار على المائدة فيستمعونْ ...ويحكي طرفة سخيفة فيضحكونْ ...ويقفْ فيقف الجميع...

زوجته ترمُقه بإعجاب ...وتشكر ربّها على حظها الجميل بالزواج من طبيبْ.... قبلة الشكر تطبعها على خدّه.

 ز -

الحلم جميل ونهايته سعيدة كأي فيلم ٍ عربي....وفي كل ّليلة يصوغُه الدكتور منار بالطريقة التي تريحه وتبعثُ الدفءَ في أوصاله.

لكن وبالرغم من كلّ ذلك ....كان البردُ قاسيا ً هذا الشتاء....والعيادةُ باردةٌ ومقفرة ومرضها مستعص ٍ على العلاج.

وما تزال زوجته تستقبله بوجومٍ وبرود في كل يوم....وماتزال تلعنُ تلك الساعة التي تزوجت فيها من ....... طبيبْ .


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى