الأربعاء ٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
جولة أدبية:
بقلم فاروق مواسي

عندما ينوح الحمام ويشجي الشاعر

ارتبطت الحمامة المُطوَّقة أو الورقاء في الشعر العربي غالبًا مع الشعور بالبين والفِراق، فكثير من الشعراء من توقّف على صوتها، وهي على الغصون تهدِل تشجو أو تسجَع، فكانت تذكّر الشاعر بحزنه هو، وربما ذكّره انطلاقها بحريته أو بوطنه أو بأحبائه، ويشتد الإحساس بالمشاركة الوجدانية إذا أحس الشاعر بالغربة، وهو في معاناته وآلامه.

منهم من أشجته بالأسى، ومنهم من أحس إحساساتها وشاركها بما هي عليه متخيلاً أنها تبكي وتنوح، ومنهم من عطف عليها وأشفق بعد تخيله معنى أنينها، فكان الشاعر يتماثل مع الحمامة، وكأن بينهما إحساسًا مشتركًا، وصداقة حزينة وخطابًا وجدانيًا عميقًا.

لنقرأ نماذج من هذا الخطاب الذي أعتبره رومانسيًا قبل نشوء مذهب الرومانتية:
أولاً- لمشاركة عنصر من عناصر الطبيعة الحية، وتفاعله معه.
وثانيًا- بسبب الإحساس الذاتي بالغربة والتعاطف الوجداني الصادق.
وأخيرًا وليس آخرًا- بسبب التعبير الخيالي الذي يجعل المتلقي يتصور الخطاب وكأنه جرى على أرض الواقع.

برزت في الشعر العربي ثلاث قصائد في الحمائم هي:

قصيدة أبي فراس الحمْداني، والبـَنْدَنيجي، وأبي بكر الشِّبلي (أو أبي الحسين النوري).

قصيدة أبي فراس عميقة الإحساس، فهو الشاعر الصابر، يضحك رغم أسره ومأساته، بينما الحمامة الطليقة تبكي وتنوح وتندب، فهو أولى منها بالدمع على رأيه، لكن دمعه في الحوادث صعب ولا يذرف بسهولة- رغم أن جسمه معذب وبالٍ وروحه ضعيفة.
لنختر منها:

أقُولُ وَقَدْ نَاحَتْ بِقُرْبي حمامَة
أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟
معاذَ الهوى‍! ماذقتِ طارقة َ النوى
وَلا خَطَرَتْ مِنكِ الهُمُومُ ببالِ
تَعَالَيْ تَرَيْ رُوحًا لَدَيّ ضَعِيفَة ً
تَرَدّدُ في جِسْمٍ يُعَذّبُ بَالِ
أيَضْحَكُ مأسُورٌ، وَتَبكي طَلِيقَة ٌ
ويسكتُ محزونٌ، ويندبُ سالِ؟
لقد كنتُ أولى منكِ بالدمعِ مقلة ً
وَلَكِنّ دَمْعي في الحَوَادِثِ غَالِ!

البندنيجي:

يخطئ الكثيرون فيسمونه (البندبيجي) بالباء، ولم يعرفوا أنه منسوب إلى بلدة اسمها (بندنيجين) قرب بغداد. (انظر معجم البلدان لياقوت الحموي)

أصله من الأعاجم من الدهاقين، ولد أكمه لا يرى الدنيا.

توفي سنة أربع وثمانين ومائتين للهجرة.

من تصانيفه كتاب "معاني الشعر" وكتاب "العروض" وكتاب (التقفية)، ومن شعره قصيدته المشهورة "ناحت مطوقة".

وقصة القصيدة كما وردت في كتب الأدب:

مر الشاعر يوما بباب الطاق (يسمى طاق أسماء) في بغداد، وفيه سوق الطير، فسمع صوت قُـمْرِية من حانوت، وهي تهتف في قفصها، فبكى، وقال لقائده: مِل بي إليه، فأقامه عليه، فقال: أتبيع هذه؟ قال: نعم، قال: بكم؟ قال: بعشرة دراهم، ففتح منديله، فعد له الدراهم، ثم أخذ الحمامة، فأطلقها، وأنشأ يقول:

ناحت مطوَّقة بباب الطاق
فجرت سوابقُ دمعيَ المِهراق
حنَّت إلى أرض الحجاز بحرقة
تُشجي فؤادَ الهائم المشتاق
تعس الفراق وجذَّ حبل وتينه
وسقاه من سمِّ الأساود ساقي
إن الحمائم لم تزل بحنينها
قِدْمًا تبكّي أعين العشاق
يا ويحه ما بالُه قُمْرية
لم تدرِ ما بغداد في الآفاق
فأتى الفراق بها العراقَ فأصبحت
بعد الأراكِ تنوح في الأسواق
إني سمعتُ حنينَها فابتعتُها
وعلى الحمامة جُدتُ بالإطلاق
بي مثلُ ما بك يا حمامة فاسألي
من فكّ أسرَك أن يفكَّ وثاقي

انظر: ابن حجة الحموي، (ثمرات الاوراق)، ج1، ص198.

في روايته يذكر أن الشاعر هو عبد الله بن طاهر.

* البيت الأخير هو تعبير وجداني فيه هذا التفاعل مع الحدث، وفيه البحث عن الحرية والانطلاق، كما أن في النص الغائب عذابًا ومعاناة لم يفصح عنهما الشاعر لغة، بل عبّر عن ذلك من خلال هذا الخطاب للقمرية.

الشاعر يلخّص ما تذهب إليه هذه المقالة:

إن الحمائم لم تزل بحنينها
قِدْمًا تبكّي أعين العشاق

أما الثالثة فهي قصيدة أبي بكر الشِّبلي، واسمه دُلَف بن جُحْدر الشبلي (ت 334هـ):

رُبَّ وَرقاءَ هتوفٍ في الضُحى
ذاتِ شَجوٍ صَدَحت في فَنَنِ
ذكرتْ إِلفًا ودهرًا صالحًا
فبكت حُزنًا وهاجت حَزَني
فبكائي ربما أرَّقَها
وبكاها ربما أرَّقَني
ولقد تشكو فما أفهمها
ولقد أشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها
وهي أيضًا بالجوى تعرفني

هناك من نسبها لأبي الحسين النوري وأضاف هذا البيت:

أتراها بالبكا مولعةً
أم سقاها البَينُ ما جرّعني

(الورقاء: الحمامة التي يضرب لونها إلى خضرة).

هذه المعلومة:

نقل الدَّميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) عن الغَزالي في "الإحياء" أن الشعر هو لأبي الحسن النوري:

"وروى أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوة فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت، ثم رفع رأسه وأنشدهم القصيدة ....

قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه، وإن كان العلم حقًا."

(ج2، ص 688 – مادة ورقاء.)

أما أبو الحسين النوري فهو أحد أعيان الصوفية الكبار، ولد ونشأ في بغداد، وتوفي عام 295هـ.

ما أكثر ما وجدت ذكر الحمائم ومشاركة الشعراء الوجدانية في الشعر العربي بدءًا من شعر الجاهلية في شعر حميد بن ثور مثلاً.

من الشعراء الأندلسيين الذين ذكروا الحمامة الرمادي والألبيري، وابن عبد ربه الذي يقول:

ويهتاج قلبي كلما كان ساكنًا
دعاءُ حمام لم يبِتْ بوُكون
وإن ارتياحي من بكاء حمامةٍ
كذي شجنٍ داويته بشجون
كأن حمام الأيك لما تجاوبت
حزينٌ بكى من رحمة لحزين

ونختم هذه الجولة بما اخترته من شعرالبارودي:

(أَلا يَا حَمَامَ الأَيْكِ إِلْفُكَ حَاضِرٌ
وَغُصْنُكَ مَيَّادٌ فَفِيمَ تَنُوحُ)
غَدَوْتَ سَلِيمًا فِي نَعِيمٍ وَغِبْطَةٍ
وَلكِنَّ قَلْبِي بِالْغَرَامِ جَرِيحُ
فَإِنْ كُنْتَ لِي عَوْنًا عَلَى الشَّوْقِ فَاسْتَعِرْ
لِعَيْنَيْكَ دَمْعًا فَالْبُكَاءُ مُريحُ
وَإِلَّا فَدَعْنِي مِنْ هَدِيلِكَ وَانْصَرِفْ
فَلَيْسَ سَواءً بَاذِلٌ وشَحِيحُ

انظر:
ديوان البارود
ي، ج1، 124، ولم يشر الشارحان علي الجارم ومحمد شفيق معروف إلى أن البيت الأول بين قوسين هو من شعر أبي دهبل الجُمَحي).

للبحث صلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى