الثلاثاء ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (7)

ظاهرة "الحشو" ليست من خصائص البحث العلمي:

وهناك ظاهرة أخرى غريبة، ومُتعبة، لناجح نفسه، وللقارىء أيضاً، وتتمثل في أنه يجب أن يكتب كلّ ما قرأه واستوعبه عن الظاهرة أو السلوك المطروح حتى لو لم يكن ما يتحدث عنه له صلة بالموقف المحدّد الذي بين أيدينا. فحين تكون الموضوعة المطروحة هي الخصاء - كما هو الحال مع باتا هنا - فإن علينا أن نستمع من ناجح لكل شيء عن الخصاء حتى لو كان ما يتحدث عنه لا علاقة له بالشخصية المعينة أمامنا، وهي شخصية باتا. فقد تحدّث طويلا – كما قلت – عن الخصاء منذ فجر الأسطورة (منذ الحضارة السومرية والمصرية) وحتى العصور الحديثة (الرهبنة المسيحية). ولكن بقيت مسألة تعرّي من يخصي نفسه كعلامة من علامات الألوهة الشابة !! فيقول على طريقة (والشيء بالشيء يُذكر..):

(وعلى الرغم من ان حكاية الأخوين لم تشر لعري "بايتي" لكننا نجد في الطقوس المماثلة وجود العري، علامة من علامات الالوهة الشابة المذكرة وكهنتها وخدمها، ولذا كان المخصي يطوف عاريا لحظة قيامه بالطقس الديني لانه لا يجوز الابقاء على ثوب المخصي بل يجب استبداله، ويكون الثوب النسوي تعويضا له، بعدما تغيرت عناصر الرجل الذكورية، ويبدو بان ذلك له علاقة مباشرة بالقداسة والدناسة. ولم يكن للعبد أو لغيره من غير المقدسين ان يدخل موضعا مقدسا دون أن تخلع عنه ثيابه... إلخ - ص 90) (50).

باتا لم يكن عارياً، ولكن لا بأس أن نحكي كم سطر عن العري لدى من يمارسون الإخصاء في الأسطورة!! معقول؟!

ثم ينقل لنا رأي "روبرت سمث" في كتابه المعروف (محاضرات في ديانة الساميين) عن اكتساب ثياب العبد القدسية بمجرد دخولها المعبد، وانعدام نفع الثياب الملطخة بالدم للمخصي وصلة ذلك بالجذر الأمومي الأول... إلخ. فما علاقة ذلك بحالة باتا الذي لم يكن عارياً وبـ "هدوم" ولم يدخل معبداً ؟

الجواب، طبعاً، هو أن لا علاقة لما قاله ناجح بباتا، وهي استطالة لا مبرّر لها.

من جديد: لا شبه بين أنبو والإله "ست":

نعود إلى الحكاية الأسطورة، فنجد الأخ الصغير - بعد أن يخصي نفسه بسكين من قصب - ينادي على أخيه عبر النهر داعياً إيّاه إلى أن يعتني بالماشية لأنه لن يعيش معه في مكان واحد بعد الآن، وسيرحل إلى وادي الأكاسيا حيث سيسحب "روحه" (وهو المعنى المقابل للفظة "قلبه" في الأسطورة حسب بيتري)، ويضعها على قمة زهرة الأكاسيا، وإذا قُطعت هذه الزهرة وسقطت على الأرض فإنه سوف يُحتضر، وإذا جاء أخوه ليفتش عنها، وأمضى سبع سنوات في البحث عنها، يجب أن لا يدع قلبه يُنهك ويتوقف. لأنه سوف يجده، ويضعه في كوب ماء بارد، وعندها سيعيش ثانية. أمّا العلامة التي تدل أنبو على أن أخاه باتا في مأزق، فتحصل حين تتعكر كأس الجعة بين يدي الأخ الأكبر، عندها عليه أن يسارع إلى وادي الطلح لإنقاذ أخيه.

يرحل باتا إلى وادي الطلح، ويعود أنبو إلى البيت، وهو يضع كفّه على جبينه، والغبار والطين يجللان هامته وهي علامة على الحزن والأسى شائعة بين المصريين القدماء (هناك تصوير مصري قديم لأفراد عائلة وأصدقائهم مجللين بالتراب والطين وهم يقفون حول مومياء)، ويقوم بقتل زوجته ورمي جثتها للكلاب، ويجلس حزينا على فراق أخيه الأصغر، وإجحافه بحقه.
وبهذا الفعل الذي انتقم فيه أنبو لأخيه من زوجته، والشعور بالندم الذي استولى عليه، هل هناك شبه بينه وبين الإله ست الشرير الذي قتل أخاه اوزوريس، وأصرّ على مقاتلة ابنه حورس من بعده حتى الموت ؟:

And the youth went to the valley of the acacia; and his elder brother went unto his house; his hand was laid on his head, and he cast dust on his head; he came to his house, and he slew his wife, he cast her to the dogs, and he sat in mourning for his younger brother.(51).

في وادي الطلح يعيش باتا وحيدا، يقضي وقته في اصطياد الوحوش في الصحراء، ليعود مساءً ليستريح تحت شجرة الأكاسيا التي وضع روحه (soul كما في النص وهي تعني هنا قلبه) على أقصى زهرة في قمّتها. ثم بنى له بيتا جميلا في الوادي - بنفسه - يضم كل الأشياء الجميلة.
وقفة: القول بوادي الصنوبر ينقل الحكاية إلى سورية:

وادي الأكاسيا حسب ترجمة (ميريام ليشتايم) وهي باحثة متخصّصة بالمصريّات، يعني وادي الصنوبر، والصنوبر غير معروفة بأزهارها، ولكنها تُعتبر شجرة مقدسة (52). والإقرار بوادي الصنوبر ينقل مسرح الحكاية إلى لبنان !! كما ورد في بعض التفسيرات التي تعتمد أيضاً على ذكر مفردة "البحر" في الحكاية ناسين أن المصريين القدماء والحاليين على حدّ سواء يسمّون النيل بالبحر. ويعتقد بعض الشرّاح مثل السيّد (بيتري) أن المقصود هو وادي سوري أو كنعاني ، ولو اتفقنا معه ستحصل نقلة كبرى في تفسير الحكاية.

عودة: المصريات الريفيات يرفعن أذيال ثيابهن:

وحين خرج باتا من بيته، قابل الآلهة التسعة (الإينياد – أو التاسوعاء، وهو اسمُ جمعٍ لكلّ الآلهة في المنطقة، وليس شرطا أن يكونوا تسعة، فإينياد ممفيس يتكون من 15 إلهاً)، وهم ذاهبون لإدارة شؤون البلاد وسألوه هل سيبقى وحيدا، وأخبروه بأن زوجة أخيه التي غادر القرية بسببها قد قُتلت. وقد امتعضت قلوبهم من أجله، وطلب الإله رع – حوراختي من الإله "خنوم – Khnum" (خنوم أو غنوم Xnum، في الدين المصري القديم، إله كان يُصوّر على شكل كبش، أو رجل له رأس كبش وله قرنان (ربما اشتق اسم الغنم منه)، وطبقا للمعتقد المصري القديم قام خنوم بعملية الخلق المادي للإنسان من طمي النيل على عجلة الفخار) (53)، ليخلق له امرأة كي لا يبقى وحيدا، فخلق له خنوم رفيقة لتسكن معه.

كانت أجمل (في ساقيها كما تقول الأسطورة) من أي امرأة في البلاد (ولاحظ أن المصريات إلى الآن يرفعن أذيال ثيابهن وقت البذار لطينية الأرض وكثرة الترع، فتنكشف سيقانهن الجميلة عن بعد). ولكن ربّات الجمال والحب والسماء السبع ((seven Hathors بنات الإله رع المتنبّئات بالمستقبل، جئن ليشاهدنها فقلن بصوت واحد:

 سوف تموت ميتة "حادّة" (ورد التعبير هكذا: sharp death، ويعني حسب شارح الحكاية موتا بسكين! (54)).

هذا أخطر المواقف في الأسطورة:

لقد حاول ناجح المعموري طرح تفسيرات للفعل المروّع الذي قام به باتا بقطع أعضائه التناسلية، ولكنه توقّف أيضا عند مسألة أخرى مرتبطة بها وهي: هل كان ما قام به باتا ختاناً أم إخصاءً كاملاً ؟! وأشار في وقفته هذه إلى رأي د. شكري محمد عياد الذي يرى أن القطع كان ختاناً. قال ناجح:
(لم يكن قطع الذكورة ختانا كما قال الأستاذ شكري محمد عياد وإنما هو فعل له طابع ديني خاص بالألوهة الشابة في الشرق وهو – أيضا – نموذج مصغر من الطقوس والاحتفاليات الدينية التي تقام في موسم الربيع، وتقديم القربان البديل للإله اوزوريس – من خلال قطع القضيب – كي يعاود صعوده مرة اخرى - ص 76) (55).

وكما قلنا فإن التاريخ الأسطوري المصري القديم لم يشهد ممارسة إخصاء الذات كطقس من طقوس الإلوهة الشابة أبداً. وكان الخصاء حسب أغلب الباحثين غير معروف أو نادرا جدا في مصر القديمة. وفي الأساطير هناك أسطورة أوزوريس حين قام ست بتقطيع جسد اوزوريس ومنها ذكورته التي أكلتها سمكة في النيل. كما أن هناك إشارة في نصوص الأهرام إلى أن رجولة ست ضعفت في صراعه العنيف مع حورس، وغير واضح هل هي إشارة إلى الخصاء من عدمه. أسطورة الصراع بين حورس وست حيث هناك موقف غامض يُخصى فيه ست بعد هزيمته. وهناك إشارة في نص من المملكة الوسطى فيها تهديد موجّه لكل أعداء مصر، كل الرجال، وكل الخصيان، وكل النساء. باستثناء هذه الإشارات لا وجود لطقس الإخصاء في مصر القديمة على الإطلاق. وعليه فإن اعتبار ناجح إخصاء باتا لنفسه تماهيا مع الإله اوزوريس وطقسا من طقوس الإلوهة الشابة هو استنتاج خاطيء تماما، وبذلك يكون الشرح الطويل في القسم الأول من الفصل الثاني بلا داع أبدا وإضاعة لوقت القارىء ولجهد ناجح نفسه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى