السبت ٢٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٦
جولة أدبية:
بقلم فاروق مواسي

بيضاء باكرها النعيم

بيضاء باكرها النعيم

من القائل، وما المعنى في هذا البيت:

بيضاءُ باكرها النعيمُ فصاغها ... بلباقة فأدقّها وأجلّها

هذا البيت من قصيدة مشهورة قالها عمرو بن أُذَيْنة، ومطلعها:

إن التي زعمتْ فؤادَك ملّها ... خُلقتْ هواكَ كما خُلِقتَ هوًى لها

كان عروةُ بن أذينة فقيهًا ومحدِّثًا يقال إن مالك بن أنس روى عنه، فهو تابعي جليل.
ومع ذلك فقد اشتهر بأنه شاعر غزل وفخر، توفي في المدينة المنورة سنة 130هـ (نحو 747م).
له ديوان شعري، وأكثر من ستين قصيدة في أغراض شتى، لكنه اشتهر بلاميته هذه.

الزَّعْم = القَوْل بِمَعْنى الدَّعْوَى وَالظَّن، والهوى فِي الْبَيت= المحبوب.

وَالْمعْنَى أَن الَّتِي ظنت وَقَالَت إِنَّك مللتها لَيْست على حق، بل أَنْت تحبها كَمَا تحبك، وليس أدل على ذلك من البيت التالي:

فِيكَ الذي زعمتْ بِها وكلاكُما
يُبْدِي لصاحِبه الصَّبابَة َ كُلَّها.

إلى السؤال عن شرح البيت المطلوب:

باكرها= هُنَا بِمَعْنى سبق إِلَيْهَا فِي أول أحوالها، واللباقة= الحذق.

وأدقها وأجلها= أَي أَتَى بهَا دقيقة جليلة، وَالْمعْنَى أَنَّهَا حسناء سبق إِلَيْهَا النَّعيم فِي أول أحوالها فصاغها بحذق وعناية، فَأتى بهَا دقيقة جليلة، فَمَا يسْتَحبّ أن تكون فيه دقيقة مثل الْأنف والخصر صيّرها فِيهِما دقيقة، وَمَا يسْتَحبّ جلالته (أي الامتلاء) مثل السَّاق والردف جعلهما فِيها جليلة.
يُرِيد أَنَّهَا نشأت فِي النِّعْمَة، وَأَن خفض الْعَيْش ربّاها وَحسّن خَـلقهَا، فهي جميلة، فقد دقت وجلت.

(انظر القصيدة في الحماسة- شرح التبريزي، ج2، ص 63)

أما الوصف دقيقة وجليلة في آن واحد، فقد ذكر ذلك قبله الشَّنْفَرَى وأبدع:

فدقّت وجلّت واسبكرّت وأُكْمِلت ... فلو جُنَّ إنسان من الحسن جُنَّتِ

اسبكرّت= استقامت واعتدلت، ولو نسب إنسان إلى الجن لِما مُنح من الحسن لكانت هذه المرأة.

أعود إلى عمرو بن أذينة، وقصيدته التي هي من عيون الشعر في أبياتها، ومن أجملها:

لما عرضتُ مسلِّما لي حاجة
أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كَانَ أكثرها لنا وأقلها!
فدنا، فَقَالَ: لعلها معذورة
فِي بعض رقبتها، فقلت: لعلها!

فتخيل أن الراوي يريد أن يسلّمها حاجة، ولكنه يخشى أن تخيّب أمله، ويكون الأمر صعبًا، وفيه إذلال له.

يحصل ما توقع، فقد حجبت تحيتها عنه، فشكا لصاحبه قائلاً في طباقية موقف: ما أكثر تحيتها وما أقلها! إذ أن القليل ممن يحب هو كثير، وأن الكثير منها هو قليل، أقول ذلك مسترشدًا ببيت إسحق المَوْصلي:

إن ما قل منك يكثر عندي
وكثير ممن تحب القليل

أما شرح التبريزي للبيت فهو بصورة أخرى:
ما أكثرها لي حيث كانت مواصلة بالعطف والميل إليّ، وما أقلها لنا هذه الساعة وقد زهدت فيّ.

يجيبه صاحبه مسرّيًا عنه:
"لعلها معذورة"، وأن هناك بعض من يراقبها، فهي تخشاهم، فلا تؤاخذها!
يبدو أن الراوي الشاعر اقتنع بما قاله صاحبه، فكرر كلمته بقوله، "فقلت لعلها"!

من الطريف أن أذكر لكم قصتين تدلان على تقدير هذا السلوك من قِبل الشاعر، والإعجاب به:
في تاريخ دمشق لابن عساكر (الحديث 41379) ورد تعليق جميل على هذا البيت،
يقول:

"ما يروي هذه إلا أهل المعرفة والعقل، هذا والله الصادق الود، الدائم العهد لا الهُذَلي الذي يقول:

إن كَانَ أهلك يمنعونك رغبة
عني فأهلي بي أضنّ وأرغب

لقد عدا الإعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر اللَّه لصاحبه (أي لعروة) فِي حسن الظن بها، وطلب العذر لها."

ورد في (الكشكول) للعاملي ج2، ص 122:
"حكى عروة بن عبد الله قال: كان عروة بن أذنية نازلاً في داري بالعقيق، فسمعته ينشد لنفسه الأبيات [.....]

فاتاني أبو السائب المخزومي، فقلت له بعد الترحيب: ألك حاجة؟ فقال نعم، أبيات لعروة بلغني أنك تحفظها، فأنشدته الأبيات، فلما بلغت قوله " فدنا " قام وطرب، وقال: هذا والله صادق العهد، وإني لأرجو أن يغفر الله له الحسن الظن بها، وطلب العذر لها، فقال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنت لأخلط بهذه الأبيات شيئا ثم خرج.

وردت الرواية باختلاف قليل في (زهر الآداب) للحُصْـري ج1، ص 166

فتصوروا أن الأول يدعو للشاعر لأنه أحسن الظن بها، وهو الصادق الودّ، بينما الثاني شبع من روعة هذا الشعر، ورحم الله صديقي المرحوم أبا جمال الأصمعي الذي سألني مرة بعد أن طرب لأبيات شعر:
"هل أضرب رأسي على الحائط"؟

مع أن أكثر المصادر كالأغاني والحماسة والحماسة البصرية وغيرها كثير تشير إلى أن الشاعر هو عمرو بن أذينة إلا أنني وجدت من يخالف ذلك، فقد وردت أربعة أبيات من القصيدة في ديون بشار بن بُرد، وهي:

إن التي زعمتْ فؤادَك ملّها ...
خُلقتْ هواك كما خُلِقتَ هوًى لها
بيضاءُ باكرها النعيمُ فصاغها ...
بلُبانة فأدقّها وأجلّها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كَانَ أكثرها لنا وأقلها!
وإذا وجدتُ لها وساوسَ سَلوة
شفَعَ الضمير لها إلي فسلّها

(ديوان بشار – دار الكتب العلمية، ص 586)، وقد لاحظنا أنه جرى تغيير في البيت الثاني على (بلباقة) فذكر بشار (بلبانة) أي بقصد.

بل ذكر ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) ج2، ص 572 القصيدة على أنها لمجنون ليلى (قيس بن معاذ)، مع أنه أشار بعد ذلك: "ويقال إنه منحول"، ومن العجيب أن المحقق أحمد محمد شاكر لم يتطرق للموضوع في الهامش أو الحاشية، ومر على ذلك مر الكرام.

من العجيب كذلك أن ابن قتيبة لم يورد في ترجمة عروة بن أذينة هذا النص المشهور، بل ذكر غزليات أخرى. (ج2، ص 579).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى