الأربعاء ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم نعمان إسماعيل عبد القادر

صناعة أجنبيّة

أنْ تنجب ولدًا أو بنتًا قبل أن تبلغ الثّالثة والثّلاثين من عمرها! ومن أبٍ مجهول الهويّة؟ هذا في حدِّ ذاته جنون، وهو أمر لا يتقبّله، لا العقل بمنطقه، ولا المجتمع بأعرافه، ولا الدّين بِشِيَعِهِ. أمّا أن تصير أمًّا، فهذا مشروط بالزّواج. ولكن أيّ زواج هذا الّذي يتحدّثون عنه؟ هل يمكن صُنعه في مصنع خاصّ، كما تصنع السيارات، والطّائرات، والأدوات المنزلية؟ قالوا لها: "إذا كانت السيارات ذات أشكال وألوان أحجام، فللزواج أيضًا أشكال وألوان وأحجام". لكنّ حلمها الذي ظلّ يراودها، أن تصبح أمًّا، يقضّ مضجعها. كيف لا بعد أن بلغت هذا السنِّ دون أن يتحقق لها أدنى شكل أو لون من الزواج؟ كثيرًا ما كانت تقول لقريناتها: "إذا كنت تريد أن تحصل على المعرفة الكليّة الشّاملة، من وجهة نظر أفلاطون، فعليك أن تستخدم العقل وسيلة لها وتجعل الوصول إلى الحقيقة أسمى غاياتها، فأين العقل وأين الحقيقة عند هؤلاء الناس؟" ها هي الحياة تمرّ بسرعة دون أن ندري، والطيور من حقّها أن تهاجر في الخريف وأن تعود إلى وطنها في الربيع، أما هي فلا وطن لها بلا زواج. قالت له بلا تردد: "يا يوسف! ها قد قضينا معًا سبعة من الأعوام بحلوها ومرّها دون أن أطلب منك شيئًا، والآن إما أن تهتدي فنتزوّج أو أكون أوّل المنفصلين". أجابها بعد تفكير عميق:"بل نكون من المنفصلين". غاصت في أعماق بحر من التفكير المملّ وهي تحسّ أن قروشًا جائعةً تريد الانقضاض عليها والتهامها. أي مجتمع هذا الذي نعيشه في دنيا فانية؟ أي غربة هذه التي نعيشها في وطن نعيش فيه أجسادا بلا أرواح؟ أي تراث هذا الذي تغذيناه وهضمناه وصار يجري مجرى الدم في العروق مع أننا نعلم أنه مشبع بالتناقضات ثمّ نظلّ في الدير صامتين؟ يريدوننا أن نكون راهبات في زمن انحسرت فيها الرهبنة ثمّ يصيحون بأعلى أصواتهم أن لا رهبانية في عقيدتنا؟

ما إن نادى النادلة، وكانت روسيّةً الملامح، ليدفع لها الحساب، حتّى أحست وكأن شيئًا يلتفّ حول رقبتها ويحاول خنقها. حملت حقيبتها وتناولت من على الطاولة الرواية التي حدّثته عنها قبل يومين، للفيلسوف الألماني "فريدريك نيتشه" وعنوانها "هكذا تكلّم زرادشت"، كانت قد أحضرتها معها وهي تنوي أن تهديها إليه، ولطالما حدّثته عنها وعن تحذيره من اتخاذ المرأة صديقًا كما يقول، لأنها لا تصلح إلا للحب، فهي مجرد لعبة للرجل، ولا هدف منها سوى الولادة... ثمّ خرجت إلى سيارتها باكيةً دون أن تحدث ضجيجًا.

اختلط الحابل بالنابل، وهي تنظر بمرارة إلى الأمطار التي تهطل وتضرب زجاج السيارة بحبات كبيرة من البرد.. أفكارها التي انهمرت عليها من كلّ جانب تشتتت في أنحاء متفرقة، وتكاد لا تصدّق ما جرى. أيعقل أن يتركها بعد كلّ هذه المدّة؟ أيّ أنانيّ هذا؟ تذكّرت قصة أصحاب الكهف وتمنّت أن تكون تنام مثلهم ثمّ ترجع لترى الناس قد تبدّلوا وتغيّروا. سماعها للموسيقى والتي حاولت من خلالها أن تشغل نفسها عمّا جرى لعلّها تنسى الماضي، لم ينجح في طرد الأشباح من مخيلتها. لكنّ الحادث المروّع الذي تناثرت فيه أشلاء السيارتين، وتحطّمت منه عظام الركّاب، جعلها تمسك بالمقود جيّدًا وتنتبه للطريق كل الانتباه. نظرت إلى المتجمهرين وقالت في نفسها:"أيها الناس! تعالوا إلى كلمة سواء بيني وبينكم ألا تتجمهروا من حولي أبدًا".

كتبت على صفحتها في الفيس بوك:"إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا، نحن في المشرق نعيش في مجتمع شرس لا يقل عن شراسة الضباع الجائعة التي تلتهم فريستها وهي حية، ولا بدّ من ترويض الضباع البشرية قبل أن تفترسنا جميعا"، وكالعادة توالت التعليقات والتحليلات والتخمينات حتى فاقت الخمسين..

حين حطّت الطائرة في مطار "شارل ديغول" كان يتناقل الناس أنباء المظاهرات التي أججت الشارع الفرنسي بعد الرسومات المسيئة للإسلام. لكنّها لم تعر لذلك أي اهتمام فقد اهتمت بأن تصل إلى الفندق فترمي بجسدها المرهق على السرير وتنام ساعات طويلة قبل أن تبدأ جولتها الأولى في شوارع "باريس".

قبل أن تسافر بيوم واحد قرأت كتابًا جاء فيه: "تقول الأساطير إن الملاك الذي قام ببناء "باريس" قد مات بسهم مسمومة رماه بها ملكها الأوّل حتى لا يشيّد لغيره من الملوك مدينة تشبهها، وقد عثر على جثته راعي أغنام ودفنه فوق قمة أقرب جبل قرب باريس فألقت الآلهة بعض بذور التفاح على المنطقة فأخذت الأرض منذ ذلك اليوم تنبت تفاحًا". ما أجملك يا باريس! وما أجمل العيش فيكِ! حيث لا يُسأل أحد عن عقيدته ولا لونه أو جنسه أو قوميته. ولا يسألك أثيوبيٌّ أو يمنيٌّ أو روسيّ عن بطاقة هويّتك؟ ولا يقال لكِ كم راتبكِ؟ والناس لا شأن لهم إن كنتِ عزباء أم متزوجةً. والأهم من كلّ ذلك لا تُسأل الفتاة عن عذريّتها.

الإقامة في الفندق في شارع "مارسو" هي مؤقتة ومكلفة. ورحلتها إلى باريس لم تكن مجرّد نزهة. فمنذ أن فقدت عذريتها، وهي في السادسة والعشرين من عمرها، كانت تخطط للسفر إليها فحالت بينها وبين طموحها مهنة التدريس وذاك "اليوسف" لم يملك من الشجاعة ليسافر معها إلى "باريس"، ثمّ كيف له أن يترك أمّه وإخوته؟ والتفرغ لإجازة سنوية هذا العام والسفر إلى خارج البلاد بحجة التعلّم والاستكمال هو أمر منوط بالمخاطر ومن الممكن أن يحقق حلم حياتها.
مغربيّ، تعرّفت عليه من خلال شبكة التواصل "الفيس بوك"، ووعدها أن تقيم في بيته مقابل مبلغ من المال. وليس كل مغربيٍّ محافظًا أو متديّنًا. و"موسى" هذا علمانيٌّ، شأنه كشأن غالبية الفرنسيين، وتعود أصوله إلى جذور "بربرية" ولا دخل له فيمن أحسن أو أساء للدين. قالت له بافتخار: "إن الشجاعة التي نقلت "طارق بن زياد" إلى بلاد الأندلس، تختلف كلّ الاختلاف عن الشجاعة التي نقلتني إليك يا "موسى". أجابها باستهزاء مبتور: "إن العرب الذين احتلّوا بلادنا من ليبيا حتى المغرب، يختلفون كل الاختلاف عن عرب اليوم". لكنّها لم تستطع احتلال قلبه أكثر من شهرين، فاضطرت تحت تهديداته وصرخاته إلى الانتقال للعيش مع زميلتها "جانيت" التي تعمل معها نادلة في مطعم إيطالي.

الجنين المتحرك في أحشائها شلّ تفكيرها، والحيرة الدائمة حطّمت أعصابها.. لا يمكنها أن تستغني عنه أبدًا، ثُمَّ ليس هناك أدنى شكّ في أنّهم سيقولون لها: يا مريم! ما كان أبوك رجلا سيئًا، وما عرفت أمّك الخطيئة أبدًا. لقد جئتِ شيئًا فريًّا!! بماذا ستجيبهم؟.
نصحتها "جانيت" أن تكتب لأختها رسالة قصيرة عبر الواتس أب تقول فيها: "ذهبتُ اليوم أنا و"موسى" إلى المسجد القريب هنا في باريس وكتب لنا الشيخ عقد زواج شرعيٍّ على سنة الله ورسوله".

ولصديقتها "عبير"، كتبت بعد شهرٍ رسالة أخرى تقول لها فيها إنها حامل. ثمّ بعثت لأمها بعد الولادة رسائل تتذمر فيها من زوجها الذي وقع في الرذيلة وأنها تنوي الطلاق منه، ثُمَّ إنه لا يستأهل أن يكون زوجًا لها ولا أبًا لطفلها الجميل "تامر".

 لا يا بنيتي حاولي أن تعيشي معه بسلام.

 "عن أي عيشٍ تتحدّثين يا أمّاه؟ صحيح أنه كان رجلاً طيّبًا.. ولكن.. أولاد الحرام من الشباب المهاجرين العرب كانوا السبب في ذلك.. ولن أستطيع العيش معه في مثل هذه الظروف.
حصلت وابنها على الجنسية الفرنسية ثم عادت إلى وطنها بسلام..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى