الأربعاء ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم حسين سرمك حسن

ليلة تسليم جلجامش لليهود (9)

رأي متناقض: الألوهة الشابة تخدم السلطة البطرياركية ضد الإلهة الأم!!:

الأن خرج باتا ليصطاد كعادته يوميا، وخرجت الفتاة الشابة التي خلقتها الآلهة زوجاً له لتتمشى تحت شجرة الأكاسيا المجاورة لمنزلها، فشاهدها "البحر"، وقذف بأمواجه عليها، ولكنها هربت منه، ودخلت منزلها، فخاطب البحر شجرة الأكاسيا قائلا: هل يمكنني الإمساك بها؟
فجلبت له الأكاسيا خصلة من شعرها فحملها إلى مصر، وألقاها في موضع الغسّالين الذين يغسلون ملابس الفرعون.

ولوصف هذه الحالة، يقول ناجح:

(وخرج بايتي للصيد ذات يوم، وكان الضجر قد أخذ بامرأته لطول ما أقامت وحدها (...) جلست على جانب النهر وكشفت عن ساقيها الجميلتين... اضطرب النيل وأثاره مرأى الساقين الجميلتين، وأحسّ جوى إليها - ص 43) (66).

لكن على هذه المعلومة المفبركة سرديا وأدبيا من قبل سليمان مظهر وهذا حقّ الأخير لأنه يريد أن "يُطرب نفوس قرّائه"، بنى ناجح تحليلا طويلا عن أن النيل قد استثارته حركات ساقي الفتاة المُغوية.. ثم يبدأ بشرح دور النيل الإخصابي، وعلاقته بازوريس، وكيف أنه أراد مضاجعة الفتاة وصار الماء بديلاً عن ذكورته الضائعة، والإلهات الأمّهات في الحضارة البشرية اللائي تمثلّهن الفتاة... إلخ:

(لقد تأنسن النيل وحاز قدرات سحرية / إلهية وحصرا الالوهية الشابة / اوزوريس، وجسّدت الحكاية موقفا عاطفيا / وجنسيا مكشوفا...

تقدّم هذه التوصيفات تأويلا واسعا، وهو أن الزوجة جائعة جنسيا وشبقه وفيها عناصر الألوهة المؤنثة ذات الوظيفة الجنسية مثل إنانا / عشتار في العراق، عشتاروت / سوريا... إلخ
مثلما اضاءت المجال الحيوي في عقائد أوزوريس الخاصة بالخصوبة عبر مشهدها وهي تمارس فعل الاتصال الرمزي معه من خلال حركة ساقيها، وقد أشعلت في اعماقه الحب والوله، وحاول اختطافها. وربما كان فعل النيل / الاله اوزوريس تعويضا لذكورته المفقودة واستبدالها بالماء.. لأن ماء الذكورة مخصب للأنوثة بعد الاتصال... ولان البنية الذهنية في الشرق (...)

وهنا لا نستطيع التفريق بين النيل والاله اوزوريس، احدهما ينوب عن الاخر، اوزوريس / النيل حاول وجاهد من اجل اختطاف ابنة الالهة وممارسة الاتصال البايولوجي معها - ص 120 و121) (68).

ثم يتحدث عن أهمية فيضان النيل، وكيف أن فيضانه قد يكون شاذاً مسرفاً، وعن الدلالة المتبادلة - من جديد - بين النيل واوزوريس باعتبار المصريين النيل إلهاً، وأنه مزدوج الجنس، وعلى رأسه حزمة بردي، وعبدوه، وقدّموا له الأضاحي (ص 121 و122) (69).

ثم نصل إلى هذا التحليل المُعاد تقريبا:

(انغمار ساقيها الجميلتين في النيل وتحريكهما معا بصوت مثير هو فعل اتصال جنسي بين الزوجة والنيل والمرأة والاله اوزوريس - ص 122) (70).

طيّب، إذا الفتاة قامت بالإتصال الجنسي بالنيل، فلماذا تهرب منه؟

لكن الفتاة لم تدخل ساقيها في النيل يا ناجح ويا أيّها الأخوة القرّاء، ولم تحركهما في مياهه بصوت مثير، وعندما هربت من أمواج النيل، ودخلت منزلها لم يتوسّل النيل، بل تساءل أمام شجرة الأكاسيا: "ألا يمكنني أن أمسك بها ؟!"، فجلبت له الأكاسيا خصلة من شعرها. وعن سلوك النيل تجاه الخصلة يقول ناجح:

(يهدىء جنونه بشم الخصلة وشمّ الخصلة فعل تعويضي / وبديل للاتصال الجنسي / الجسدي، وهو شكل اتصالي مع الجزء ليعني الكل - ص 122) (71).

ولم تكن هناك أيّ علامة على مثل هذا السلوك من قبل النيل، فما قام به بعد حصوله على خصلة شعر الزوجة من شجرة الأكاسيا هو إلقاؤها في محل غاسلي بياضات (ملاءات وأكياس وسائد) الفرعون.

لقد أظهرت الأسطورة النيل، وكأنه "وكيل" للفرعون وليس ممثلاً للألوهة الشابة، حيث قام بحمل الخصلة، وأسقطها في موضع غاسلي ملابس الفرعون، فانسربت رائحتها الزكية المثيرة إلى ملابس الأخير، وبهذا يسلّم ممثلة الإلهة الأم لممثل السلطة البطرياركية!! وهذا ما يفرضه - للمرة الألف - "السياق" الحكائي الجديد للأسطورة، وليس الثوابت الرمزية المقرّرة الجامدة.
وفي كل موقف يخص الإله اوزوريس أو يرتبط برموزه، كالنيل مثلا، يبدأ ناجح بالحديث عن السلطة الذكورية، وكيف أنها تهيمن على تجسّدات الألوهة المؤنثة، حديثا طويلا وعريضا. وعلى سبيل المثال - وبعد أن يتحدّث هنا عن شمّ النيل المراهق لخصلة شعر الفتاة (زوجة باتا) - كبديل للاتصال الجنسي / الجسدي نجده يتساءل مباشرة:

(لكن ما هي العلاقة بين النيل وشجرة الطلح ؟ - ص 122) (73).

ويجيب:

(عرفنا بأن النيل هو الاله اوزوريس المعني بالخصب في الحياة وأشجار الطلح من تبديات الخصب وعلاقة الماء مع الارض، وطلبه الى الشجرة باختطاف الزوجة هو تعبير عن السيادة الذكورية الممثل لها بالنيل / الماء وطغيان صوته على التجسدات الأنثوية في الحياة والتي كانت اشجار الطلح إنموذجا لها - ص 123) (74).

أي أننا الآن أمام سلطة ذكورية، وحينما ترد مفردة سلطة تنهض في أذهاننا معاني المركزية، والتسلّط، وإزاحة الآخر، وهيمنة الدور الواحد، وغيرها من الدلالات التي تستدعيها مفردة "السلطة". وعندما تكون ذكورية تأتي مفاهيم ودلالات وخصائص الذكورة كالإختراق والتجبّر وسمات الحضارة الشمسية والقضيب والعقل والقوّة والنفوذ وغيرها مما يعكس السمات الذكورية. ولاحظ التناقض: أشجار الطلح – حسب ناجح – ممثلة للسلطة الأمومية الأنثوية (هي أشجار إيزيس الإلهة المصرية الأم كما يرد في الموروث الأسطوري المصري) تقوم بمساعدة ممثل السلطة الذكورية البطرياركية وهو النيل لخطف ممثلة للإلهة الأم وتسليمها للفرعون الإله البطرياركي الأكبر!!

وقد ماهى (من التماهي) ناجح بين باتا والآلهة الشابّة في الشرق الأدنى القديم من ناحية، وبينه وبين الإله أوزوريس بصورة نهائية من ناحية أخرى. دعوني أذكّر الآن بما قاله:

(واندفاع الشاب "بايتي" لقطع ذكورته يفضي به إلى محيط الالوهية الشابة التي عرفتها ديانات الشرق الأدنى القديم... كفعل له طابع ديني خاص بالألوهة الشابة في الشرق وهو – أيضا – نموذج مصغّر من الطقوس والاحتفاليات الدينية التي تقام في موسم الربيع، وتقديم القربان للإله اوزوريس – من خلال قطع القضيب (!!!!) – كي يعاود صعوده مرة أخرى - ص 76) (75).
وهذا قول واستنتاج آخر له من بين الكثير من الأقوال والإستنتاجات المماثلة:

(ان اندفاع "بايتي" لقطع ذكورته، محاولة منه للتماهي مع الاله "اوزوريس" الذي صار مثالا لعدد غير قليل من الالوهة الشابة في الشرق. لقد خسر ذكورته بفعل ارادي وصار نموذجا محايثا للاله اوزوريس، ومتمثلا في الالهين ديونيسس وسيبيل (!!!) بسبب من موقفه الكهنوتي - ص 76) (76).

عودة وتساؤلات خطيرة:

الآن تثور تساؤلات مهمة وخطيرة نطرحها اعتراضاً على استنتاج ناجح بأن باتا والنيل ممثّلين للإله أوزوريس:

إذا كان باتا ممثلا للإله اوزوريس، فلماذا يتآمر عليه هذا الإله ليسلبه زوجته من خلال ممثله وهو النيل الذي يقول ناجح أنه مكافىء للإله أوزوريس ومن رموزه؟

إذا كان باتا رمزا للخصوبة، فلماذا يتآمر عليه النيل وهو رمز الخصوبة الأكبر ومن المفروض أن يتحالف معه؟

إذا كان ناجح قد استنتج أنّ المرأة التي خلقها الإله "خنوم" بأمر الآلهة التسعة وصارت زوجة له:
(امرأة تشبه الآلهة "ايزيس" زوجة الاله الشاب "اوزوريس" ويقود هذا الشبه القراءة للتذكير بالمهام المشتركة بين "بايتي" و"اوزوريس" في المجال الزراعي والاخصاء - ص 105) (77).
إذا كان ناجح يرى ذلك التطابق بين زوجة باتا والإلهة ايزيس وهي زوجة الإله اوزوريس - فوق التماهي بين بايتي واوزوريس - فكيف يبرّر لنا سعي النيل – المتماهي بدوره مع اوزوريس كما يقول ناجح – لخطف زوجة باتا وسلبه إياها، ومضاجعتها باتصال إدخالي، ثم عن طريق حاسة الشم (خصلة الشعر، الجزء، تنوب مناب الجسد، الكل، كما يقول ناجح ). ثم إسقاط الخصلة في مغاسل فرعون لكي يصل إليها أخيراً ويسلبها من باتا ؟ وهذا يعني قيام الإله أوزوريس – من خلال ممثله النيل – بتسليم حبيبته وزوجته الإلهة الأم "إيزيس" للسلطة البطرياركية، من خلال تسليم ممثلتها زوجة باتا إلى الفرعون ممثل السلطة البطرياركية؟؟!!

ألا يعني هذا – وحسب استنتاجات ناجح - أن الألوهة الشابة تتآمر على ذاتها، وبعضها يدمّر البعض الآخر!!

ألا يعني هذا تيسير الألوهة الشابة لعمليّ’ سقوط الإلهة الأم (زوجة باتا = إيزيس) بين براثن السلطة الأبوية البطرياركية القامعة الديكتاتورية ممثلة بالفرعون؟

إن هذه الإرتباكات المكشوفة، تسم أغلب مشروع ناجح البحثي في مؤلفاته المتعدّدة والتي سوف نتوقّف عندها قريباً، فما يقوله هنا يعود ليناقضه بعد صفحات بتحليل آخر دون أن يلتفت إلى هذا التناقض، وهذا يعود - في الجانب الأكبر من وجهة نظري - إلى فعل العوامل اللاواعية في شخصية الباحث والتي تتطلب بحثاً مستقلّاً.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى