الأربعاء ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
بقلم كريم مرزة الأسدي

نشأة النحو ودور الإمام«الحلقة الأولى»

1 - مدخل لنشأة النحو العربي و دور الإمام علي في ولادته

مقدمة:

يستكثربعض المؤرخين والباحثين المتأخرين من العرب والأجانب (1)على العرب في فجر إسلامهم أن يضعوا أساساً لقواعد لغتهم متناسين أن الأرض التي اختارها الله سبحانه وتعالى لبعث رسله هي أرض العرب، والأمة التي استوعبت الأديان السماوية وساهمت مساهمة فعالة في نشرها على هذه البسيطة هي أمة العرب، وإن العرب كانوا في قمة نهوضهم اللغوي حتى أن كتاب الله - وهو معجزة إسلامهم - أنزل بلغتهم، ولم يعهدوا قواعد للعتهم من قبله (2)، وما حاجتهم لها وهم يتكلمون على السليقة دون لحن أو زلل؟ ثم ما هو الرمز المقدس الذي يحفزهم على استنباطها ووضعها؟ أما من بعد أصبح القرآن الكريم رمزاً مقدساً، فأصبحت القواعد النحوية ضرورة ملحة للحفاظ عليه وعلى قدسيته، وخصوصاً بعد أن تداخلت الأمم تحت راية الإسلام، وظهرت على الساحة عناصر أجنبية (الحمراء)، فأخذت تلحن وتعجم، ثم من أين وردت هذه الترجمة الموسعة - كما زعم هذا البعض - التي نقل على أساسها النحو العربي من أمم أخرى كالإغريقية والهندية؟! والمؤرخون القدماء سجلوا نشوءه منذ صدر الإسلام قبل الترجمة والمترجمين، وتأثير الفلسفة والمنطق اليوناني على العقلية العربية، نعم...قد يكون أبان تطوره استند في بعض جوانبه على عقلية غير عربية في العصر العباسي، وهذا ما ذهب إليه (ليتمان) قائلاً: " ونحن نذهب في هذه المسألة مذهباً وسطاً ...وهو أنه أبدع العرب علم النحو في الأبتداء، وأنه لا يوجد في كتاب سيبويه إلا ما أخترعه هو والذين تقدموه، ولكن لمّا تعلـّم العرب الفلسفة اليونانية من السريان في بلاد العراق، تعلموا أيضاً شيئاً من النحو " (3)، ولعلمك أنّ سيبويه توفي (188 هـ / 804م) على أوثق الروايات حسب ظني - وإن كان من جذور فارسية هو عربي اللغة والفكر والثقافة والبيئة - ويُعدُّ رائد الطبقة الرابعة البصرية في النحو، وعلى كتابه (الكتاب) (4) استقر النحو العربي إلى حدٍّ ما، أو قل رسم الخطوط العريضة له، فسارعلى نهجه القياسي النحويون من بعده بمائة عام تقريبا، أي بعد وفاة ثعلب الكوفي (ت 291 هـ / 903م)، والمبرد البصري (ت 285 هـ /897م) إذ انبثقت المدرسة البغدادية النحوية فمُزجت المدرستان وثبتت أركانه، وتكرست أسسه.

وهذا يعني جلياً أنّ النحو العربي من عهد الإمام علي (ع) (ت 40هـ / 661م) حتى وفاة سيبويه شيخ البصريين والكسائي شيخ الكوفيين (ت 189 هـ / 805م)، أي قرن ونصف من الزمان بقى عربياً خالصاً، لم يتأثر بمنطق الآخرين ولا فلسفتهم، ونحن نحاول أن نبين أن النحو قد بذر بذرته الأولى الإمام علي (ع)، وتولى رعايتها أبو الأسود الدؤلي على هدي الإمام ورشده، وبالتالي فهو عربي الولادة والنشأة المبكرة والفتية حتى شرخ الشباب، وليس ذلك لدواعي العواطف، وإنما للمسؤولية التاريخية، ثم للحقيقة العلمية بما تحتمه علينا الاستدلالات العقلية والنقلية، والحقيقة أننا توجهنا إلى هذا البحث حتى وصل إلى مشروع كتاب بعد أن تناولنا بفصل مستقل مدرسة الكوفة في كتابنا الموسوم (تاريخ الحيرة ...الكوفة ...الأطوار المبكرة للنجف الأشرف) (5).

على كلِّ حال تناولنا في كتابنا الموسوم في هامش هذا المقال أخبار الأوائل وآراء بعض المعاصرين حول أول من وضع أساس علم النحو، وبدأ قواعده، والأسباب الموجبة لذلك، ومن ثم ألقينا الضوء على بدايات نشأته ورواده الأوائل حسب طبقات عصوره، وانفردنا بشيء من التفصيل لشعاب مدرسة الكوفة النحوية، وأشهر نحاتها، وأبرز ملامحها، ومدى إثرائها للإرث الأدبي العربي، ومن سار على دربها وشذوذ اجتهادها من الشعراء واللغويين القدماء والمتأخرين، وأخيراً تطرقنا بالنقد والإيجاز المُركـّز لأهم مفاصل الكتب المعاصرة التي بحثتْ في النحو الكوفي منهجاً، وكتبتْ عنه مدرسة وتاريخاً، ولم ننسَ أنْ نقارن ونبين مسائل الخلاف بين المدرستين النحويتين الكوفية والبصرية، وانبثاق المدرسة البغدادية، إنْ صحَّ الأجتهاد، وفي كل ذلك أبدينا رأينا وأوضحنا اجتهادنا، ولكن في هذه الحلقات سنكتفي بالبديات لبُعد المسافات.

المدخل:

ولادة النحو العربي ودور الإمام علي (ع):

يقول أبو البركات ابن الأنباري: " الصحيح أن أول من وضع النحو علي ابن أبي طالب (رض)، لأن الروايات كلها تسند إلى أبي الأسود، وأبو الأسود يسند إلى علي، فإنه قد روي عن أبي الأسود أنه سئل فقيل له: من أين لك هذا النحو؟ قال لفقت حدوده من علي بن أبي طالب " (6).

ويعتمدالشيخ محمد الطنطاوي، وهو أستاذ النحو والصرف في كلية اللغة العربية بالقاهرة في كتابه القيم " نشأة النحو وتاريخ أشهر الرواة " هذا الرأي ويعلل . لأن ابن الإنباري: " أغناهم بهذا المقام، وقد سرد معظم نقول السابقين عليه مع جودة الترتيب، فذكر مختاره أولاًمع روايتين في سبب وضع علي كرّم الله وجهه، ثم ذكر مختار غيره مع روايات أربع في سبب وضع أبي الأسودرضي الله عنه ...ثم عاد مصرحاً برجحان اختياره " (7) وننقل لك ما قاله ابن الأنباري ابتداءً: " اعلم أيدك الله بالتوفيق، وأرشدك إلى سواء الطريق أن أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده، وحدّ حدوده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض)، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي ...وسبب وضع علي (رض) لهذا العلم ما روى أبو الأسود قال: " دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض)، فوجدت في يده رقعة، فقلت ما هذه يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنـّي تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء (يعني الأعاجم)، فأردت أن أضع لهم شيئاًيرجعون إليه ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليّ الرقعة وفيها مكتوب " الكلام كلـّه اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأعن المسمى، والفعل ما أ ُنبى به، والحرف ما جاء لمعنى " وقال لي: انحُ هذا النحو وأضف إليه ما وقع إليك، واعلم يا أبو -كذا-(8) الأسود أن الاسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس يا أبو - كذا- الأسود فيما ليس بظاهر ولا مضمر، وأراد بذلك الاسم المبهم، قال: وضعت بابي العطف والنعت، ثم بابي التعجب والأستفهام إلى أن وصلت إلى باب (إنّ وأخواتها) ما خلا لكن، فلما عرضتها على عليّ (رض) أمرني بضم (لكن) إليها، وكنت كلما وضعت باباً من أبواب النحو عرضته عليه (رض) إلى أن حصلت ما فيه الكفاية . قال: " ما أحسن هذا النحو الذي قد نحوت "فلذلك سمي النحو، وكان أبو الأسود ممن صحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض) " . (9)

الأستاذ أحمد أمين لا يقنع بهذه الرواية ولا بغيرها من الروايات، بل يسخر منها في (ضحاه) مقارناً بشكل غير موفق بين ما هو عربي إسلامي واقعي ملموس، قد أرخ له كل من كتب عن نشأة النحو العربي وتطوره وبين رواية هندية خرافية لا أساس لها ولا رأس حول بداية النحو الهندي وصرفه (10) مستكثراًعلى الإمام (رض)، وهو من أكبر خطباء العرب وأفصحهم، صاحب (نهج البلاغة) الذي - كما يقول عنه حنا فاخوري - تتجلى فيه "عبقرية الإمام علي بكل وضوح، وهي قائمة على عقل ذكي، واسع الإدراك عميق، لا تفوته دقائق الأمور، فيسبر الأغوار، ويرسل الأفكار منخلة ثابتة بعيدة الاضطراب و الضعف" (11)...وعلى أبي الأسود الدؤلي وهو تابعي جليل ثقة كما وصفه ابن كثير الدمشقي (12)، و " من أفصح الناس" كما يقول عنه السيرافي (13)، أما السيوطي فقد ذكر عنه " أعلم الناس بكلام العرب " (14)، ولا نزيد فالأقوال في حقـّه كثيرة، وسنذكرها لاحقاً .

نقول يستكثر عليهما - الأستاذ أحمد أمين - أن يتفتق ذهنيهما على وضع النحو وقواعده الأولية للعرب، ضارباً بعرض الحائط كل الروايات التاريخية لأعظم المؤرخين واللغويين والنحويين كما سنوردها من بعد.

والدكتور (شوقي ضيف) دخل مدخلاً صحيحاً ولكنه خرج لنا باستنتاج عجيب غريب، إذ ردّ أسباب وضع النحو لبواعث مختلفة منها دينية لحفظ أداء نصوص القرآن الكريم من لحن الشعوب المغلوبة، ومنها قومية لاعتزاز العرب بلغتهم وتقديسهم لها، ومنها مصلحية لحاجة الشعوب المستعربة لقواعد يسيرون عليها، إضافة إلى رقي العقل العربي، ونمو طاقته الذهنية (15)، وهذا صحيح، ولكن عندما وصل إلى الإمام علي (رض)وأبي الأسود الدؤلي حاول تجريدهما من إنجاز هذه المهمة خصوصاً - كما يقول - أنّ الإمام كان مشعولاً بإعدادالجيوش لحرب معاوية ثم بحروب الخوارج عن وضع النحو وأصوله ورسومه وفصوله . ثم يذكر ما نصه: " ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يتفق في شيء وأولية هذا العلم ونشأته الأولى ." (16)

والحقيقة لم يقل أحد إنّ الإمام قد وضع النحو ورسومه وأصوله وفصوله وألـّف المؤلفات فيه، هذه أطروحات يراد به التمويه، وإثبات الرأي بالجور، فكل الأخبار تؤكد أن أبا الأسود الدؤلي قد وضع أسس النحو العربي ومبادئه على هدي الإمام ورشده، فالإمام أطلق الفكرة ووضع حجر الأساس ثم تراكمت البحوث ووصل النحو إلى ما وصل إليه من قواعد وصرف بشكله الموسع . والفكرة عندما تأتي من العظيم لا تحتاج إلى حروب وجهود وسهر الليالي، فقد اكتشف أرخميدسقاعدته الشهيرة وهو في الحمام ! واكتشف نيوتن قانون الجاذبية لحظة سقوط التفاحة على رأسه ! ومن بعد أن تطورت هذه القوانين وتراكمت عليها العلوم، فاستخدمت في أوسع مجالات الصناعة والتكنولوجيا، والعجيب أن الدكتور ذكرهذا الأمر من بعد قائلاً: " فالأصل في كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة من هنا وهناك ثم يُتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطول فيها من أقيسة وعلل " (17)، ولو أن الكلام غير دقيق علمياً - حسب وجهة نظرنا - هنالك فرق كبير و شاسع بين النظرات العابرة التي تتراكم على عقول أغلب البشر، وبين الأفكار الثاقبة الحاسمة، والأكتشافات العلمية الثابتة نسبياً،التي لا تختمر إلا في عقول العباقرة العظام، يتمسكون بها إصراراً، ويشيرون إليها تدوينا، ويبنون عليها تأسيساً.

والأمر الثاني الذي نريد أن نعرج عليه للأمانة العلمية والتاريخية - ونحن لا ندعي أننا أكثر ولاءً للإمام علي (ع) من الدكتور ضيف ولا من الأستاذ أحمد أمين - نقول: ليس الشيعة قد نحلوا الإمام ما ليس له، وإنما تواترت هذه الأخبار الصحيحة، والروايات الصادقة من علماء السنة ورواتهم قبل رجالات الشيعة وثقاتهم، وإليكم ما جاء في بطون الكتب خلاصة:

ونبدأ بأهل مصر، إذ يذكر الوزير القفطي (ت 646 هـ /1248 م)في كتابه (إنباه الرواة ...): " وأهل مصر قاطبة يرون بعد النقل والتصحيح أن أول من وضع النحو علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وأخذ عنه أبو الأسود الدؤلي " (18)، وأنه رأى " بمصر في زمن الطلب بأيدي الوراقين جزءاًفيه أبواب من النحو، يجمعون على أنها مقدمة علي بن أبي طالب التي أخذها عنه أبو الأسود الدؤلي " (19)، وأوضح أن الجمهور من أهل الرواية، أجمعوا على ذلك، وبأن الإمام (ع) ذكر أقسام الكلام، وأضاف (لكن) إلى أخوات (إنَّ)، عندما غفل إدراجها أبو الأسود الدؤلي . (20)

أمّا ابن النديم (ت بعد 390 هـ /1000م) في (الفهرست)، فيقول: " زعم أكثر العلماء أن النحو أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وأن أبا الأسود أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه" (21)، ثم يدلي بشهادة قيمة حول أصل النحو وواضعه قائلاً: " كان بمدينة الحديثة رجل يقال له محمد بن الحسين، ويعرف بابن أبي بعرة، جمّاعة للكتب له خزانة لم أر لأحد مثلها كثرة، تحتوي على قطعة من الكتب العربية في النحو واللغة والأدب والكتب القديمة، فلقيت هذا الرجل دفعات، فأنس بي، وكان نفوراً ضنيناً بما عنده، وخائفاً من بني حمدان، فأخرج إليّ قمطراً كبيراً فيه نحو ثلثمائة رطل جلود فلجان وصكاك وقرطاس مصر وورق صيني وورق تهامي وجلود آدم وورق خراساني فيها تعليقات و قصائد مفردات من أشعارهم وشيء من النحو والحكايات و الأخبار والاسماء والأنساب وغير ذلك من علوم العرب وغيرهم، ورأيت ما يدل على أنّ النحو عن أبي الأسود ما هذه حكايته، وهي أربعة أوراق أحسبها من ورق الصيني، ترجمتها هذي فيها كلام الفاعل والمفعول من أبي الأسود رحمة الله عليه بخط يحيى بن يعمر، وتحت هذا الخط بخط يثق هذا خط علان النحوي، وتحته هذا خط النضر بن شميل. " (22)

وهنالك شهادات أخرى كثيرة سجلها لنا القدماءغير ما ذكرنا عن الأنباري والقفطي وابن النديم، تؤكد إشارة الإمام وإرشاده وتوجيهه، فالسيوطي يقول وينقل ما يلي: " اشتهر أن أول من وضع النحو: علي بن أبي طالب (رض) لأبي الأسود، قال الفخر الرازي في كتابه (المحرر في النحو): " رسم علي (رض)لأبي الأسود باب (إنّ)، وباب الإضافة، وباب الإمالة، ثم صلف أبو الأسود: باب العطف، وباب النعت، ثم صنف باب التعجب، وباب الاستفهام، وتطابقت الروايات على أنّ أول من وضع النحو: أبو الأسود، وأنه أخذه أولاً عن علي " (23)، ووضح ذلك أيضاً أبو الطيب اللغوي في (مراتب النحويين) قائلاً: " أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي (رض)، لأنه سمع لحناًفقال لأبي الأسود: اجعل للناس حروفاً، وأشار له إلى الرفع والنصب والجر" (24)، وابن كثير الدمشقي في (البداية والنهاية) يذكر: " إنما أخذه عن أمير المؤمنين علي بن طالب ..ذكر له الإمام: "الكلام اسم وفعل وحرف، وإنّ أبا الأسود نحى نحوه ..." (25)، وابن خلكان في (وفيات الأعيان) يوضح أيضاً أن " الإمام (رض) وضع له أقسام الكلام،ثم رخصه إليه وقال له: تمم على هذا " (26)، واعتمد (حتـّي) رواية ابن خلكان في كتابه (تاريخ العرب)، وعلق قد تم له النجاح في عمله (27)، أمّا الزبيدي في (طبقاته) يسجل لنا شهادة لأبي الأسود الدؤلي قائلاً: " تلقيته من علي بن أبي طالب "، وفي رواية أخرى: " ألقى إليَّ عليٌّ أصولاً احتذيت عليها " (28)، والسيرافي في (أخبار النحويين يخبرنا، بدأت نشأة النحو بالبصرة على يد أبي الأسود الدؤلي، وأخذ عن علي بن أبي طالب (رض) العربية، وكان أفصح الناس، ركز رجاءً على كلمة (العربية)، ّإذ تعني اللغة جميعها بفصاحتها وبلاغتها ونحوها وصرفها،، كما أن السيرفي يذكر لنا روايات ضعيفة ترجع بدايته على يد نصر بن عاصم الدؤلي ويقال (الليثي)(ت 89 هـ / 707م)،، أو على يد عبد الرحمن بن هرمز (ت 117 هـ /734 م)، ثم يرجح متواصلاً: " وأكثر الناس على يد أبي الأسود الدؤلي " (29)، حتى لو أخذنا بأضعف الروايات لم نصل بدايات عصر الترجمة، فما زلنا في العصر الأموي، والترجمة بدأت فعلياً في عصر المنصور العباسي، ثم ازدهرت في عصري الرشيد والمأمون، ولم تفعل مفعولها الحقيقي بالمنطق اليوناني والهندي والفارسي وفلسفاتهم إلا بعد منتصف القرن الثالث للهجرة !! ومن قبل كانوا يعتمدون على القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ورواة العرب وإخبارييهم، والمسألة الزنبورية - التي سنأتي عليها - خير دليل، نواصل مشوارنا، ونحكم عقولنا، ونعتمد على تراث وموروث أفذاذنا، لا بتعصب مشدود، وإنما بتعقل محمود، والآن ننتظم لنروي ما دون في (منتظم) ابن الجوزي، ففي أحداث سنة (69 هـ)، يذكر لنا وفاة أبي الأسود، وبأنه: " أول من وضع النحو، أخذ عن علي بن أبي طالب العربية، وقد لحن الناس، فأخبر علياً، رضي الله عنه، فأعطاه أصولاً بنى منها . وعمل بعده عليها " (30)، وابن الجرزي في (غاية النهاية)، ذهب إلى أنّ أبا الأسود: " أول من وضع مسائل في النحو بإشارة علي (رض)، فلما عرضها على علي، قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، فسمي النحو نحواً " (31)، والعسقلاني في (الإصابة) يروي عن أبي علي القالي عن الزجاج عن المبرّد قال: " أول من وضع العربية ونقـّط المصاحف أبو الأسود، سئل أبو الأسود عمن نهـّج له الطريق، قال تلقيته عن علي بن أبي طالب " (32).

ومن المصادر - وهي قليلة - ما تفرّد أبا الأسودالدؤلي بأنه واضع علم النحو، أو لم تشر للإمام (ع) كما ذهب ابن سلام الجمحي في (طبقاته)، موضحاً عندما اضطرب كلام العرب وغلبت السليقية، وكان سراة الناس يلحنون " وضع باب الفاعل والمفعول والمضاف وحروف الرفع(كذا) والنصب والجزم " (33)، وابن قتيبة في (الشعر والشعراء)، إذ يجعله " أول مَنْ عمل في النحو كتاباً " (34)،وابن تغري في (النجوم الزاهرة) يعتبره " أول من وضع علم النحو " (35) .

ونكتفي بهذا القدر الكافي الوافي، وهنالك مصادر كثيرة أخرى وأغلبها لأهل العامة (36)، تترجم لأبي الأسود الدؤلي، وتؤكد ما ذهبنا إليه، وتركناها للهامش (37)، ونحن ركزنا في هذه الحلقة - وهي البداية والمقدمة - على دوري الإمام (ع)، و أبي الأسود الدؤلي، لأننا نعتبر النحو العربي قفزة فكرية عربية خالصة غاية الأهمية لحفظ اللغة وسلامة القراءة من اللحن، وخصوصاً بعد امتزاج العرب مع الأمم الأخرى، فرضها بزوغ الإسلام، ونزول القرآن الكريم الرمز المقدس لدى المسلمين، والعبقرية العربية والإسلامية لم تكن في حينها بحاجة إلى المنطق الهندي والفلسفة اليونانية والتراث الفارسي لوضع أسس وقواعد للغتهم، نعم بعد قرنين ونصف تلاقحت العقول وامتزجت الأمم، وليس في هذا عيب، بل نعتبره ضرورة ملحة لتطور الفكر الإنساني، ولا تجهد نفسك في تتبع جذور وأعراق من عاش على أرض العرب، وتعلم لغتهم وروى أشعارهم وانصهر معهم، فكانت دولتهم في القرون الأولى إسلامية تتسع للجميع، والله الموفق، وهو فوق الجميع.

(1) راجع أحمد أمين (ضحى الإسلام) ج1 ص 45 ط 10 - دار الكتاب العربي - لبنان -، د. شوقي ضيف (المدارس النحوية) ص 11 - 12- دار المعارف - مصر -، الطنطاوي:محمد (نشأة النحو وتاريخ أشهر النحاة) ص 15 وما بعدها ط 3 مصر 1969م، آل ياسين: د . محمد حسين (الدراسات اللغوية عند العرب ...) ص 63 - رسالة دكتوراه — مكتبة الحياة - بيروت - 1980م يذكر " أمّا المتأخرون من المستشرقين والعرب فذهب كثيرون منهم إلى أنّ أبا الأسود لم يضع العربية ويضبطها قواعد، ومن هؤلاء بروكلمان وليتمان وجوزيف بلانش وجرجي زيدان وأحمد أمين وشوقي ضيف، إذ يزعم هؤلاء أن التقسيمات النحوية هي تقسيمات منطقية لا تنسجم وعقلية العرب في أول عصر الثقافة التي بدأوها، وإن هذه التحديدات والتعريفات والتقسيمات إنما نشأت بعد ذلك، أي بعد تطوير الفكر العربي وتأثير الفلسفة والمنطق اليوناني على العقلية العربية . ومعرفة شيء من أصول اللغات القديمة."

والدكتور آل ياسين لا يميل إلى هذه التأويلات ويدعم ما جاءت به المصادر القديمة، ونحن نؤيد رأيه، ونصب في المنحى نفسه، ولكن من الإنصاف أنْ نذكر أنّ ليتمان كان معتدلاً في رأيه. كما ستوضح ذلك.

(2) يرى أحمد بن فارس في كتابه (الصاحبي في فقه اللغة) ص 38 - مؤسسة بدران بيروت 1964م - " أن أبا الأسود ليس أول من وضع العربية، ولا الخليل أول من تكلم في العروض، وإنما هذان العلمان كانا معروفين قديماً وجُددا على أيديهما."

(3) الطنطاوي: ص 15مصدر سابق.

(4) لم يضع سيبويه عنواناً لكتابه، فبقى النحويون يطلقون (الكتاب) بالمطلق، ويعنون كتاب سيبويه به.

(5) شاءت الأقدار أن يطبع في النجف الأشرف (2007م)، وكان قد نشر على حلقات استمرت سنتين في صحيفة (نداء الرافدين) الصادرة من دمشق فترة التسعينات، ونشر القسم الثالث منه مركز كربلاء للدراسات والبحوث (لندن) في المجلد الأول من (النجف الأشرف اسهامات في الحضارة الانسانية) 2000م، وغيره من المجلات والصحف والمواقع.

(6) ابن الأنباري: أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد (نزهة الألباء في طبقات الأدباء) ص5 - 6 (مطبعة المعارف - بغداد 1959م)، راجع القفطي: جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف " إنباه الرواة على أنباه النحاة " ص 50 (دار الفكر العربي القاهرة 1986)، الطنطاوي: ص 19، ويروي الزبيدي: أبو بكر محمد بن الحسن في " طبقات النحويين واللغويين " ص 21(دار المعارف بمصر 1954) أنه قال:" تلقيته من علي بن أبي طالب رحمه الله "، وفي رواية أخرى قال: " ألقى إليّ

(7) الطنطاوي: ص 16 م. س.

 (8) كذا - بمعنى هكذا وردت في المصدر، والملاحظة لمن لم يمارس البحوث الأكاديمية، وكررها ابن الأنباري مرتين، ربما اعتبر (أبو الأسود) كلمة واحد، فكتبها على الحكاية وليس بمضاف ومضاف إليه.

(9) ابن الأنباري: (نزهة الألباء) ص 1 - 5 (المعارف).
— وأبو الأسو د الدؤلي: هو ظالم بن عمرو ين سفيان منسوب إلى الدئل بن بكر بن كنانة، كان من سادات التابعين وأعيانهم، روى عن عمر وعلي وأبي ذر وابن عباس وغيرههم، وصحب الإمام علي، وشهد معه صفين، ومات بالطاعون الجارف (سنة 69 هـ / 688 م)، وتذكر فيه (دائرة المعارف الإسلامية - طبعة دار المعرفة - بيروت - م 14 - ص 61): فرجل مثل أبي الأسود الدؤلي قد حارب إلى جانب علي في وقعة صفين يمدح علياً مدحاً يبلغ فيه حد الإفتتان يقول:

إذا اسقبلت وجــه أبي حسين ٍ
رأيت البدر راق الناظرينا
فقد علمت قريش حيث كانت
بأنـّك خيرهم حســباً ودينا

(10) أحمد أمين:(ضحى الإسلام)ج 1 ص 245 م. س.
(11) حنا فاخوري: (تاريخ الأدب العربي ص 325 - ط 11- سنة 1983م بيروت .
(12) ابن كثير: (البداية والنهاية)ج8 ص 248 - 249 -العلمية -1994م - بيروت .
(13)السيرافي..أبو سعيدالحسن بن عبد الله: (أخبار النحويين البصريين ) ص 14 - مطبعة الحلبي - 1955م - مصر.
(14) السيوطي..عبد الرحمن جلال الدين: (المزهر في علوم اللغة) ج2ص 397- دار إحياء الكتب - ط1- مصر.
(15) ضيف...د.شوقي: (المدارس النحوية) ص11 - دار المعارف - مصر.
(16) المصدر نفسه: ص 12راجع.
(17) المصدر نفسه: ص 18 راجع.
(18) القفطي: (إنباه الرواة على أنباهالنحاة) ص 41 - دار الفكر العربي - 1986م - القاهرة .
(19) ص 40 المصدر نفسه .
(20) راجع ص 39 م. ن.
(21) ابن النديم:(الفهرست) ص 67 - دار الكتاب العربي - 1991م - القاهرة .
(22) ص 68 - 69 المصدر نفسه.
(23)السيوطي ..جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 911 هـ /1505م): (الأقتراح في علم أصول النحو)ص 203 ط1القاهرة سنة 1976م ، وراجع (بغية الوعاة ...) للمؤلف ج2 ص22 - 23 - مطبعة عيسى 1965 م مصر .
(24) أبو الطيب اللغوي ..عبد الواحد بن علي (ت 351 هـ / 962م): ( مراتب النحويين) ص 24 - دار النهضة - مصر.
(25) ابن كثير ...اسماعيل بن عمر الدمشقي (ت 774 هـ / 1372م): (البداية والنهاية) ج 8 ص 248 - العلمية - بيروت .
(26) ابن خلكان ..أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد (ت 681 هـ / 1282م: (وفيات الأعيان م 2 ص 535 دار صادر - بيروت .
(27) Hitti & (P . K .): ( History of the Arabs: p. 241 - tenth Editi on - 1970 - New York)
(28) الزبيدي .. أبو بكر محمد بن الحسن (ت 379 هـ /989 م ): (طبقات النحويين واللغويين - ص 21 - دار المعارف بمصر .
(29) راجع: السيرفي: ( أخبار النحويين البصريين) ص 5 - 12 مصدر سابق .
(30)ابن الجوزي ..عبد الرحمن (510 - 597 هـ / 1116 - 1200 م):( المنتظم في تاريخ الأمم والملوك) ج 6 ص 345 - 346 دار الكتب العلمية - بيروت .
(31) ابن الجرزي ..شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد ( ت 833 هـ /1429 م): ( غاية النهاية في طبقات القرّاء) ص 345 - 346 - مكتبة الخانجي - 1932م - مصر .
(32) العسقلاني ..ابن حجر أحمد بن علي (ت 852 هـ / 1449 م): ( الإصابة في تمييز الصحابة) م 3 ص 562 - دار الجيل - 1992م - بيروت .
(33) الجمحي ..محمد بن سلام (139- 231هـ /756 - 845 م): (طبقات فحول الشعراء) ج1ص 12- السفر الأول - مطبعة المدني - القاهرة .
(34) ابن قتيبة ..عبد الله بن مسلم (ت 276هـ / 899 م) .
(35) ابن تغري ..جمال الدين أبو المحاسن يوسف (813 - 874 هـ / 1410- 1469م): ( النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ) م 2 ص 238 العلمية - 1992م - بيروت .
(36) لأن في القرون الثلاثة الأولى، لم تتبلور المذاهب الإسلامية بشكل واضح، بل بعض مَن نقلنا أخبارهم وأقوالهم عاشوا قبل ولادة أصحاب المذاهب أو عاصروهم، وللعلم، توفي الإمام جعفر الصادق (ع) سنة (148 هـ /765م )، والإمام أبو حنيفة ..النعمان ابن ثابت (150 هـ / 767م)، ومالك بن أنس (179 هـ / 795م)، ومحمد بن ادريس الشافعي ( ت 204 هـ / 819 م)، والإمام أحمد بن حنبل سنة (241 هـ / 855م ) .
(37) راجع ترجمة أبي الأسود الدؤلي، وتوجيه الإمام له في مصادر أخرى: البغدادي (خزانة الأدب)ج 1 ص 281 - 286 - مكتبة الخانجي 1979م يذكر عنه: " واضع علم النحو بتعليم علي (رض) , وكان من وجوه شيعته "، المزي ابن الحجاج (تهذيب الكمال ..) - مؤسسة الرسالة - 1992م - ج 33 ص 469- الترجمة 7209 يقول: " ثقة أول من تكلم في النحو ..."، الذهبي ..محمد بن أحمد (تاريخ الإسلام ) - دار الكتب المصرية - طبعة 1367هـ - ج2 ص 383 يضمن: "...صاحب النحو "، المرزباني (معجم الشعراء )- القاهرة 1354هـ ترجمة مختصرة له، ابن قتيبة (المعارف) - دار الكتب 1960: " هو أول من وضع العربية، وكان شاعراً مجيداً, وشهد صفين مع علي ..." , الأصفهاني (الأغاني)- دار الكتب 1950م ج 12 ص 267 ترجمة مطولة عنه، ويروي عدّة روايات مسندة بأنه: " رسم أصول النحو كلـّها، فنقلها النحويون"، ويقول أبو الأسود " أخذت حدوده عن علي بن أبي طالب (ع) الذهبي (العبر ...)- الكويت 1960م: " ...صاحب النحو"،الرازي ..محمد الحنظلي ( الجرح والتعديل )- حيدر آباد 1952م - القسم الأول من المجلد الثاني ص 503 ترجمة 2214: "وهو أول من تكلم في النحو ، بصري ثقة "، البخاري (التاريخ الكبير ...)- ديار بكر - تركيا - ترجمة 2563، ابن سعد (الطبقات الكبرى) - دار صادر - بيروت -ج 7 ص 99، الحموي (معجم الأدباء) - دار المأمون ج 12 ص 34 يذكر: " أول من وضع العربية، ونقط المصحف..." الحنبلي ابن العماد (شذرات الذهب ) - دار المسيرة 1979م - ج1 ص 76: "الذي أسس النحو بإشارة من علي"، السيوطي عبد الرحمن (المزهر في اللغة) - دار إحياء الكتب ج2 ص 397: " أول من رسم للناس النحو ...أخذ ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض )، وكان أعلم الناس بكلام العرب ".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى