الاثنين ١٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٦
دراسة ٌلديوان
بقلم حاتم جوعية

قصائد من مسيرةِ العشق - الناصرة 2000

مُقدِّمة ٌ: يقعُ هذا الديوان "المجلَّد "(قصائد من مسيرة العشق) - من إصدار "رابطة الأدباء الفلسطينيِّين - طُبعَ في مطبعة فينوس الناصرة "في 650 صفحة من الحجم الكبير - للمرحوم الدكتور جمال قعوار. وقد اختارَ الدكتورُ "جمال "قصائد هذا الديوان من مجموعاتِهِ الشِّعريّة السَّابقة.. وتبدو أنَّ عمليَّة َ الإختيار كانت صعبة ً نوعًا ما، فمسيرة ُ شاعرنا الإبداعيَّة قد تجاوزت الخمسينَ عامًا عاصرَ وواكبَ فيها جميعَ الأحداثِ السِّياسيَّة والإجتماعيَّة التي مرَّ بها الشَّعبُ الفلسطيني. فاختارَ شاعرنا من كلِّ مجموعة ٍ مطبوعةٍ لهُ سابقا ً بعضَ القصائد، وهذهِ المجموعات هي: (أغنيات من الجليل، غبار السَّفر، قصائد من الدفتر القديم، دروب الليل، الريح والجدار، الريح والشراع، ليلى المريضة، قصائد من بيروت، قصائد من أيلول، زينب، الترياق، بريق السواد، لا تحزني، موسم الذكرى، شجون الوجيب،، وقصائد أخرى).

مَدخلٌ: الشَّاعر الدكتور "جمال قعوار "من سكان مدينةِ الناصرة يحملُ شهادةَ الدكتوراه في اللغةِ العربيَّة وآدابها، وأطروحتهُ للدكتوراه كانت في إعراب القرآن الكريم. عملَ سابقا ً مُحاضرًا في كليَّة دار المعلِّمين العرب – حيفا - وَمُحاضرًا في جامعة حيفا للغةِ العربيَّةِ والأدب العربي. وكانَ رئسًا لرابطةِ الكتابِ والشعراء الفلسطينيِّين في إسرائيل. وصاحب مجلَّة المواكب الأدبيَّة التي توقفت عن الصدور قبلَ وفاتِهِ ببضع سنوات، وكانَ مؤسِّسَ هذا المجلَّة الرَّائدة في مسيرة الأدب المحلي بالإضافةِ إلى الدكتور جمال قعوار الشاعر الكبير المرحوم "فوزي عبد الله "وهو إبن قريتي المغار وقد سكنَ في مدينةِ الناصرة. وتعتبرُ المواكب ُ المجلَّة الأولى محلِّيًّا والتي ُتعنى بشؤون ِالأدب والثقافةِ وتقوم بنشر ِ أخبار وإنتاج الكتاب والشُّعراء المحلِّيِّين، ولها الدورُ الكبير والباعُ الطويل والواسع في إبراز وإشهار العديدِ من من الكتاب والشُّعراء المُبدعين القوميِّين الملتزمين الذين عُتِّمَ عليهم سابقا ًمن قبل ِ بعض الأطر ِوالجهاتِ الإعلاميَّةِ المشبوهةِ.

يُعتبرُ المرحوم الدكتور "جمال قعوار "في طليعةِ الشُّعراءِ العربِ في الدَّاخل (عرب ال 48 داخل دولة إسرائيل)... بدأ مسيرتهُ الشِّعريَّة منذ أكثر من ستين عامًا ولديهِ مخزونٌ وكمٌّ كبيرٌ من الإنتاج الشِّعري والأدبي، قسمٌ منهُ لم يُطبعْ حتى الأن. وهو رمزٌ ومثالٌ أوَّليٌّ دائمًا للشُّعراءِ الكبارالمُلتزمين المُبدعين الجهابذة الذين عُتِّمَ عليهم سابقا ً: إعلاميًّا، ظلمًا وغُبنا ً من قبل بعض الجهات والأطر ِالسِّياسيَّة والفئويَّة المغرضة والمشبوهة... ولكن جميع وسائل التعتيم الإعلامي لم تجدِ نفعًا فقد استطاعَ شاعرنا الكبير والعملاق بعد كفاح ٍ وجُهدٍ متواصل ٍ وبفضل ِ مُستوى كتاباتهِ الشِّعريَّة الرًّاقية والمُمَيَّزة أن يتألَّقَ ويصلَ إلى الشُّهرةِ الكبيرةِ التي هو أهلٌ لها محلِّيًّا وعربيًّا.. وهنالكَ العديدُ من النقادِ والشُّعراءِ والدَّارسين والمُثقَّفين المحلِّيِّين المُتفهّمين والمُتذوِّقين للشِّعر والأدبِ يعتبرونهُ الشَّاعرَ الأوَّل، محلِّيًّا، دونَ منازع لِمُستوى كتاباتِهِ الرَّاقي ولأسلوبهِ المُتمَّق والأصيل والمُمَيَّز والمُتطوِّر الذي يُواكبُ التجديدَ والحَداثة َ في المسيرةِ الشِّعريَّةِ المُعاصرة على امتدادِ الوطن العربي.. ولأنَّهُ إنسانٌ عربيٌّ حُرٌّ وشريفٌ ونظيفٌ يعيشُ داخل دولة إسرائيل لم يصل إلى الشُهرةِ العالميَّة التي هوَ أهلٌ لها مثلهُ مثل الكثيرين غيرهُ من العمالقة والرُّوَّاد الأفذاذ في شتى الفنون والمجالات الثقاقية الإبداعية الذين لم يشتهروا خارجَ بلادهم... بل هنالك الذين لم يُسمع عنهم إطلاقا خارج وطنهم من عرب الداخل إلى الآن رغم مستواهم الإبداعي الكبير. الشَّاعر جمال قعوار عاصرَ وواكبَ مراحلَ مسيرةِ تطوُّر الشِّعر ِالعربي ومدارسهِ العديدة ومذاهبه متنوِّعة - من الشِّعر الكلاسيكي (التقليدي) – الغنائي القديم – والحديث - والمذاهب الإتّباعيَّة والإبداعيَّة ثمَّ الرَّمزيَّة وغيرها... إلى شعر ِالتفعيلة في أواخر الأربعينات ثمَّ الشِّعر الحُرّ الحديث (النثري) المتحرِّر كليًّا من الوزن والقافية. وهو بدورهِ عاشَ وتأثَّرَ وتناغمَ مع مُعظم ِ الأساليبِ والمدارس والمذاهب الشِّعريَّة الموجودة على السَّاحةِ الأدبيَّة.
وكما تأثرَ أيضًا بالشِّعرِ والأدبِ الغربي (الأجنبي) بأجمعِهِ.... فجسَّدَ ولخَّصَ في شعرهِ مسيرةِ الشِعر العربي جميعها منذ القدم ِ إلى الآن، حيثُ استطاعَ بفضل موهبتهِ الفنيَّةِ المُتقدةِ وعبقريَّتِهِ الشِّعريَّةِ الفذ َّةِ وثقافتِهِ الواسعةِ وبمقدرتِهِ اللغويَّةِ الكبيرةِ أن يعملَ ويصقلَ ويُطوِّرَ أدواتهُ الشِّعريَّة الفنيَّة ويسمو بها نحوَ الإبداع ِ والتجديد ليلائمَ مقتضيات التطوُّر والحداثة في المسيرةِ الشّعريَّةِ المُعاصرةِ (العصر الحديث) أسوة ً بكبار ِ وعمالقةِ الشُّعراءِ في الوطن العربي الذين عاصرَهم شاعرنا وعاصرَ ووَاكبَ كتاباتهم الجديدة وإبداعاتهم الرَّائدة، مثل: البياتي، السيَّاب، نازك الملائكة، نزار قبَّاني، خليل حاوي،، سعيد عقل، صلاح عبد الصَّبور، أمل دنقل، محمد إبراهيم أبو سنة، وغيرهم. والشَّاعرُ جمال قعوار أبدَعَ في صقل ِ وبلورةِ مفاهيم وعوالم مملكتهِ الشِّعريَّة وفي تلخيص ِ رُؤيتهِ وتجربتهِ الشِّعريَّة وتجارب جميع الشّعراء الذين قبلهُ ومن عاصرَهم. فانبثقَ تلخيصهُ لجميع المدارس وأنماط ِ الشِّعر بعبقريَّةٍ فنيَّةٍ رائدةٍ وبنكهةٍ جديدةٍ مُميَّزةٍ تجلَّت بوضوح في مدرسةٍ شعريَّةٍ خاصَّةٍ بهِ لوحده - محلّيًّا وعربيًّا. وهوَ يُذكِّرنا بالشَّاعرالعُملاق ِ إبي الطيِّب المُتنبِّي.. الذي تأثرَ في بداياتِهِ الأولى بالشِّعر ِ العربي وبالشُّعراءِ الذينَ سبقوهُ حقبة ً زمنيَّة ً واستطاعَ تلخيصَ تجربةِ الشِّعر العربي بأجمعهِ فأعادَ صياغتهُ في لغةٍ شعريَّةٍ جديدةٍ وبأسلوبٍ ومدرسةٍ جديدةٍ لهُ مُمَيَّزةٍ مُتفرِّدةٍ ومتفوِّقة على ما قبله وما بعده بأجيال ٍ عديدة... وإن فقدَ المتنبيِّ حظَّهُ وفرصتهُ كزعيم ٍ ونبيٍّ لحركةٍ سياسيَّةٍ وعقائديَّة فقد أخذ َ حظَّهُ وشهرتهُ كرائدٍ ونبيٍّ للشِّعر ِ والتجديدِ للأمَّةِ العربيَّةِ... وحتى في يومنا هذا يعتبرُ الكثيرون من النقاد والمختصون بالأدب (عربا وأجانب) المتبِّي شاعرًا معاصرًا مُبدعًا ومُمَيَّزًا سابقا ً عصرَهُ آلاف السنين. وشاعرنا جمال قعوار يتميَّزُ شعريًّا عن غيره من الشُّعراءِ المحلِّيِّين والعرب لغة ً وأسلوبًا وطابعًا ونكهة ً وتوجُّهًا، وقد نرى عندهُ بعضَ التأثر بالمُتنبي في عُلوّ الهمَّة وقوَّة النبرة والتغنِّي بالكرامةِ والإباءِ والإعتزاز الشَّخصي والقومي، ونلمسُ عندهُ فلسفة َ القوَّة والثقة َ بالنفس وحُبّ المَجد وتحقيق الذات والكفاح والنضال لأجل العيش الشَّريف. وجمال قعوار لم يتاثَّرْ ويُلخِّص مراحلَ مسيرةِ الشّعر العربي فقط من الجاهليَّة إلى العصر ِ العبَّاسي، بل تابعَ التطوُّر والتجديد حتى العصر الحديث الذي تنوَّعت وتشعَّبت وتوسَّعت فيهِ الأهدافُ والرُّؤى الشِّعريَّة والعناصر والأدوات الفنيَّة حميعها وتموُّجاتها الشُّموليَّة الإبداعيَّة... فاستطاعَ تلخيصَ الشِّعرَ العربي جميعهُ وتجارب شعراء الضَّاد العمالقة المُبدعين جميعًا من الجاهليَّة حتى العصر الحديث ومراحلهِ التطويريَّة والتجديديَّة والحداثة المتجسِّد في الشعر التفعيلي والشعر النثري.

وقد نجدُ تشابهًا بين الشاعرالفلسطيني "إبراهيم طوقان "- شاعر فلسطين قبل النكبة وجمال قعوار فهما كانا رائدين لمسيرة الشعر الفلسطيني جميعه وابراهيم عاشَ قبلَ نكبة أل 48 (توفي عام 1941) ولم يعش حتى مرحلة ظهور شعرالتفعيلة والشعرالنثري الحُر.. بل عاشَ فقط مرحلة تطوُّر الشعر الكلاسيكي، وقد أخذ َ حقهُ إسما وشهرة ً وانتشارًا فلسطينيًّا وعربيًّا، بيد أنَّ شاعرنا "جمال قعوار "لم يأخذ حقهُ من الشُّهرة الأدبيَّة والإنتشار الواسع وبما هو أهل لهُ إلاَّ منذ فترةٍ قصيرة بالرغم من كونهِ وَمميز فنيًّا. ويفوقُ مستوى شعره معظم شعرهِ الشعراء المحلِّيِّين، فهو إنسانٌ وفنانٌ وشاعرٌ ملتزمٌ مبدعٌ يُجسِّدُ من خلال كتاباتِهِ قضايا وهموم وآمال وتطلُّعات شعبهِ الفلسطيني وآلامهِ العربيَّة ككل، كالقضايا: السِّياسي|َّة والوطنيَّة، الثقافيَّة والإجتماعيه.. وغيرها.
وعالجَ في شعرهِ أيضًا جميعَ المواضيع والأمور الأخرى العامَّة: العاطقيَّة، الوجدانيَّة، الوصفيَّة، الرِّثائيَّة، الإنسانيَّة والفلسفيَّة... إلخ.

يمتازُ شعرُ "جمال قعوار "جميعه (الكلاسيكي والتفعيلي والنثري) بقوَّة اللغةِ وجزالتها، وبمقدرةٍ وبثروةٍ لغويَّةٍ ثريَّة من الكلمات والمُفردات وبالتعابير البلاغيَّة الجديدة المُبتكرة وببراعةٍ فائقة في اختيارالكلمات والمفردات الجميلة الخلابة والمُميِّزة، وبالمستوى الفني الرَّاقي، وبالصُّور الشِّعريَّة المنُكثَّفة البليغة، وبالخيال الرُّومانسي المُجنَّح الحالم الخصب، وبالرُّؤيا الشُّموليَّة والفلسفيَّة للحياة، وشعرُهُ قويُّ النبرة عاليَ الهمَّة نفيسٌ رائعٌ جميل، جليل الهدف يحملُ رسللة ً مثلى سامية ً للأجيال وللإنسانيَّة جمعاء في شتى ظروبهِ وألوانهِ.

إنَّ هذا الديوان الذي بين أيدينا - (قصائد من مسيرة العشق) فمن الناحية الشَّكليَّة معظمها على نمط الشِّعر الكلاسيكي التقليدي وشعر التفعيلة، والقليل منهُ شعرٌ نثري - من دون وزن وقافية. والشعرُ الحُرّ النثري قد برزَ في مجموعةٍ شعريَّةٍ للشاعر بعنوان: "غبار السَّفر "من هذا المجلَّد. وفي قصائد أخرى متنوِّعة متفرِّقة من مجموعاتٍ أخرى أدرجها في هذا المجلَّد الضخم. وشاعرنا في معظم قصائدهِ يستعملُ لغة ً تراثيَّة ً تقليديَّة ً ويُوظِّفُ التاريخَ والتراثَ العربي الفلسطيني في شعرهِ. وقد جاءَ بالكثير من الإستعارات والمفردات والجمل والتعابير البلغيَّة الجديدة وباللصُّور الشِّعريَّة المُستحدثة مجاراة ً مع ركب التطوُّر والحداثة في مسيرة الشِّعر المُعاصر (العربي والأجنبي)، وكما أنَّ الصُّورَ الشِّعريَّة عند الدكتور "جمال قعوار "هي أكثرعقليَّة وواقعيَّة، وبعضها غير حسيَّة، وما فيها من حسٍّ هو تجسيد ٌ وتعبيرٌ وانعكاس عمَّا يجيشُ في النفس. والصورُ الشِّعريَّة عندهُ بدأت من الخارج إلى الداخل ثمَّ تحوَّلت من الداخل إلى الخارج، وهذهِ الصُّور فمجالاتها وآفاقها وأبوابها متنوِّعة، ومستمدَّة وموحاة من عدَّة أسس وجوانب ومصادر، وهي:

1 ) مُستمدَّة ٌ من التراث العربي والفلسطيني.

2 ) من الأمثال والأساطير العربيَّة والأجنبيَّة.

3 ) من الإشارات المسيحيَّة - (العهد الجديد ).

وسأختارُ نموذجًا من إحدى قصائدِهِ التفعيليَّة - حيث يقول:

( "يا بحرُ موجُكَ ثائرًا // بعضُ الذي ما بينَ أضلعي يثورْ //
يا بحرُ زمجرةُ اصطخابِكَ هادرًا //
بعضُ الذي في صمتِ فكري من هَديرْ //
يا بحرُ بعضُ تلهُّفي // يسعُ للبحورَ وهولَ زوبعةِ البُحورْ // ").

أمَّا في قصاءدِهِ الكلاسيكيَّة التقليديَّة فنجدُ فيها قوَّة اللغة َ والجزالةَ في الألفاظ ومتانة َ السَّبك والبناء، وهي مترعة بالأبعاد المعنويَّة والفكريَّة والمُفردات والإستعارات الحديثة، فيقولُ في إحدى قصائدهِ مثلا ً:

("تلفَّتوا وأكفُّ المجدِ تلتهبُ مُصَفِّقا ً لِضُحًى يرنو لهُ العربُ
يا أمَّة َ المجدِ والسَّاحاتُ دامية ٌ والكونُ مُرتقبٌ والنصرُ يرتقبُ
بلادُنا الشَّمسُ، أنوارٌ مُخلَّدَةٌ وأمس كانت وراءَ السُّحبِ تُحتجبُ).

لقد كتبَ شاعرُنا الكثيرَ للأرض ِ وللوطن ولشعبِهِ الفلسطيني الأبي، وفي الكثير من قصائِدهِ الوطنيَّة يُشبِّهُ الأرضَ بالحبيبةِ وبالفتاة الجميلة الرَّائعة السَّاحرة والوفية ومُخلصة... كالكثير غيره من شعراء لمقاومة، فيقولُ في قصيدةٍ لهُ بعنوان: "زينب "– على بحر "الرّمل ":

( "أنتِ يا زينبُ آمالي التي ُتسعِدُ الشِّعرَ وتغني الأدَبَا
وبعينيكِ مَدًى، في غُربةٍ شاطىءُ الحُبِّ الذي ما نضَبَا
يا حمى زينبَ يا بَيَّارَة ً شمخت قدسيَّة ً بينَ الرُّبَى ").

والشَّاعرُ "جمال قعوار "كتبَ أيضًا الشّشعرَ العامِّي (الشَّعبي ) وأبدَعَ فيهِ أيُّما إبداع كدأبهِ في كتابةِ الشعرِ بالغةِ الفصحى، وهنالك بعضُ الأغاني الشَّعبيَّة المألوفة قد أخذها وعملَ على تطوريها بلغةٍ وأسلوبٍ وتوَجُّهٍ وصيغةٍ وطابع ٍ جديد وبلغةٍ فصحى أو بالأحرى عاميَّة قريبة جدًّا الفصحى، فيقولُ مثلاً في قصيدةٍ لهُ بعنوان: ("جفرا "- صفحة 303 ):

("أنا بينَ الأسى وبين الصُّمودِ ما استقرَّت على الجراح ِ جُدُودي
فاطلبي للمجدَ يا فلسطينُ دربًا َوردِي العِزَّ مُستطابًا بالوُرُودِ
ويقول: ("جفرَا ويا هالرَّبعْ جَفرَا أغانينا
جفرا وظلّ الوَجَعْ يحيي أمانينا
حُبِّكْ يا جَفرَا انزرَعْ بضلوع وادِينا
وبكرهْ، وبعد الدَّمعْ عيشي بحُرِّيّهْ ").

ثمَّ ينتقلُ الشَّاعر في القصيدة إلى إيقاع جديدٍ وبأسلوبٍ جديد "على بحر الخفيف "كما في المقدِّمة:

("يا بلادَ الورودِ رُفِّي بعطر ٍ هل تميتُ المأساة ُ عطرَ الوُرودِ
يا فلسطينُ يا سجلاًّ مجيدًا لفعال ٍ تليقُ بالتمجيدِ...
ويتابعُ بالعاميَّةِ على وزن وإيقاع جفرا:
("جفرا ويا هالرَّبعْ تتجلَّى ببلادِي
واخضَرْ نادي الزَّرعْ وعَحْبَابنا نادي
وامسَحْ جوار الدمعْ عَ تراب اجدادي
من حَدِّ بير السَّبع لحدود سوريَّا "... إلخ.

ومن أروع قصائدهِ في هذا الديوان قصيدة بعنوان ("دمشق"- صفحة 513 ) - على بحر الخفيف، وربَّما القليلون من الشعراء المحلِّيِّين فقط يستطيعونَ أن يكتبوا على مستوى هذهِ القصيدة العصماء من ناحيةِ المستوى الفني والإبداع في المعاني والصورالشعريَّة وفي قوّةِ اللغةِ وجمال وعذوبة الكلمات والمفردات وفي التعابير اللغويَّة الرَّائعة وفي توهُّج وتألُّق ِ هذه القصيدة وعمقها القومي والثوري والإنساني، ومن الناحيةِ التجديديَّة. وقد سبقَ أن كتبَ أحدُ المغرضين المستكتبين والمدسوسين المأجورين المرتزقين نقدا مسموما وحاقدًا موجَّهًا لمجلة المواكب وللأقلام المبدعة التي تكتب فيها باستمرار، وهذا النقد السَّخيف والعقيم كانَ نابعًا عن حقدٍ شخصي أرعن وحسد وغيرة وبتوجيهٍ وإيعاز من بغض ِ الجهات المغرضة والمشبوهة التي أفلست، كما كان واضحًا، سياسيًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا، فانتقدَ ذلك الشَّخص المدسوس النكرة هذهِ القصيدة الرَّائعة "دمشق "التي حتى الشَّاعر "محمد مهدي الجواهري "وعظمته الشعريَّة لا يستطيعُ أن يكتبُ أحسنَ وأجملَ منها، إنتقادًا سخيفا مُضحكًا لا ينمُّ إلى النقد الأدبي الموضوعي وأسسهِ واصولهِ بشيىء. فمن خلال ِ ما كتبهُ يظهرُ بوضوح ٍ أنهُ أمِّيٌّ من ناحيةِ الثقافيَّةِ والإطلاع، يجهلُ النقدَ والذوقَ الفني والمعرفة َ في الثقافةِ والأدبِ كليًّا. وهذهِ القصيدة "دمشق "حسب رأيي قمَّةٌ في الإبداع ِ والرَّوعةِ وتضاهي وتتميَّزَ وتفوقُ معظمَ ما كتبَ من شعر ٍ عربي قومي من المحيط إلى الخليج ويطربُ لها ويرفعُ رأسَهُ بها شُموخًا واعتزازًا جميعُ شعراءِ "الضَّاد "الأحرار الشُّرفاء. ويقولُ شاعرُنا فيها:

("طالَ يا شامُ للقاءِ حنيني وَلِطول ِ الفراق ِ طالتْ شُجُوني
أنا طيرٌ مِنَ الجليل ِ يُغنِّي لجليل ِ الأمجادِ في تشرين ِ
أيُّهَا العُمرُ إنَّ في الشَّام أهلا ً شربُوا العِزَّ في صَفاءِ المَعِين ِ
في صُمودِ الجهَادِ في ساحةِ المَج دِ وَمثوَى الشَّهيدِ في مَيسَلون ِ

ويقولُ:

("أنا شعري الوُثوبُ من أجل ِ حقٍّ حائرٌ في وجهِ الدُّجَى مَرْهُون ِ
وسبلي الجُموحُ بالوطن ِ النا هِض ِ حتى يظلَّ عاليَ الجبين ِ
فاهزُجي يا ديارَ يَعرُبَ حتى يرقصُ الصَّخرُ في أعالي الحَزُون ِ).

.. إلى آخر القصيدة. وربَّما تكونُ هذه الكلمات الرَّائعة المُترعة بحبِّ الوطن وشرفِ الوفاء والفداء وعلوّ الهمَّة وأصالة الإنتماء والشُّعور القومي والتغني بالسُّؤدد والمجد العربي لم تعجب ذلك الدَّعي النكرة والمَسخ الأرعن الذي انتقدَ سابقا هذهِ القصيدة العصماء.
إنَّ شاعرَنا كما ذكرتُ سابقا ً واكبَ جميعَ أحداث وقضايا شعبهٌ وأمَّتهُ والقضايا العربيَّة جميعها وجسَّدَها في شعرهِ وروعةِ بيانهِ فكتبَ لفلسطين ولعمَّان ولبغداد وللشَّعب العراقي الذي عانى الكثيرَ من سياسةِ الغرب الغاشمة، فيقولُ في قصيدةٍ بعنوان: ( "إلى بغداد - مع حُبِّي "– صفحة 517 ) – على بحرمجزوء الكامل:

( "الحُبُّ يا بلدَ الرَّشيدِ // لبراعم ِ الفجر ِ الجديدِ
نذروا بهاءَكِ للرَّدَى // وَأنا َنذرتُكِ للخُلودِ ").
وكتبَ قصيدة ً لعمَّان (صفحة 518 ) - على بحر الكامل، يقول فيها:
( "عَمَّانُ يا ريحَ الصَّبا النَّادي يا بَوْحَ أفراحي وَأعيادِي
أطلقتُ أشعاري وَأبحُرَهَا لتدُورَ في تاريخ ِ أمجادِي

ويقولُ فيها أيضًا:

( "وأعيدُ للقدس ِ ابتسَامتهَا وإلى رُبَاهَا عطرَ أورَادِي")..إلخ.

وشاعرنا كتبَ أيضًا الكثيرَ منَ القصائد لإنتفاضةِ شعبهِ الفلسطيني الباسل (شعر كلاسيكي وتفعيلة)، وكانَ قد كتبَ سابقا ً قصَّة ً رائعة ً، نثريَّة عن الأنتفاضة مُؤجَّجَة ً بالجوِّ الدرامي والمشاهد الإنسانيَّة السَّامية، ولكن رغم مستوى هذهِ القصَّة الراقي فنيًّا وإبداعيًّا لم تحظ َ بالتغطيةِ الإعلاميَّة والشُّهرةِ التي تستحقُّها... والأسبابُ معروفة ٌ للجميع، بسبب الجهات الإعلاميَّة وأجهزتها الفئويَّة المُغرضة والمشبوهة.

وكتبَ أيضًا الكثيرَ من القصائد الإجتماعيَّة والرِّثائيَّة، وخاصَّة ً في رثاءِ صديقهِ ونسيبهِ (شقيق زوجتهِ) الشَّاعر الكبير المرحوم "فوزي عبد الله قرواني مؤسِّس مجلَّة المواكب وأصلُهُ من قريتي المغار. وكما كتبَ أيضًا في الغزل ِ أروع وأرق وأعذب القصائد الغزليَّة وأصدقها وتألَّق وكان فيها في قمَّةِ الإبداع ِ والتجديد... ولولا الإطالة لذكرتُ بعضَ النماذج من قصائدِهِ الغزليَّة. وفي موضوع الوصف، أيضًا، كتبَ الكثيرَ، وشعرُهُ في هذا الصَّددِ عابقٌ وحافلٌ بوصفِ الطبيعةِ وجمالها ومفاتِنها وسحرها وقد توسَّعَ كثيرًا في هذا الموضوع. وفي بعض قصائِدِهِ الوصفيَّة يبدو التأثُّرُ بعضَ الشَّيىء بشعراء مدرسة "أبولو "والمدرسة المهجريَّة، ولكننا نحسُّ ونرى ونلمسُ بوضوح ٍ شخصيَّة َ الشَّاعر "جمال قعوار "المستقلَّة وبصماته الشعريَّة الإبداعيَّة وعبقريَّتهُ ومَدَى تجديدِهِ وإبداعِهِ الثريِّ المُبتكر. فيقولُ في قصيدةٍ بعنوان: (أغنية من الجليل - صفحة 58) - على وزن مجزوء الكامل.

("الفجرُ وزَّعَ سحرَهُ بينَ الرَّوابي والسُّفوحْ
والسُّنبلاتُ تميلُ وال أنسَامُ في الحقل ِ الفسِيحْ
وهناكَ أغنامٌ على السَّ ْفح ِ المُلفَّع ِ بالصَّباح ِ
تصغي إلى للرَّاعي الجَم ِ يل ِ يقصُّ أخبارَ الرِّياح ِ

وينتقلُ إلى قافيةٍ أخرى فيب نفس القصيدة فبقول على نفس الوزن: ( "أنا من رُبوع ٍ في الجَلِي ل ِ مِنَ الأزاهر والطُّيوبِ
مِنْ لازَوَرْدِ سَمائِهِ مِن روضِهِ الخَضِل الرَّطيبِ
أنا من شَذا زهر ِ الخَما ئِل ِ فاحَ في السَّفح ِ الخَضيبِ
أنا من وَداعةِ مريم ِ ال عذراءِ، من طُهر ِ الصَّليبِ ")... إلخ.

والقصيدةُ جميلةٌ وعذبة ٌ تعيدُ إلى أذهانِنا روائعَ أبي القاسم الشَّابي وروائع إبراهيم طوقان في وصف الطبيعةِ والتصوُّف في مِحرابها والذوبان والإتحاد في مفاتِنها، بيدَ أنَّ شاعرنا "جمال قعوار "يثري ويضيفُ إلى قصائِدِهِ الوصفيَّةِ الطابعَ القومي والوطني والرُّؤيا الفلسطينيَّة والنفس والطابعَ الفلسطيني المُقاوم، فالقصيدة ُ وصفيَّة ٌ وجدانيَّة ٌ ووطنيَّة ٌ وفلسفيَّة. ومن خلال ِ تصفحِنا لجميع قصائد هذا الديوان نجدُ الشَّاعرَ الدكتور "جمال قعوار "متأثِّرًا بشكل ٍ خاص ببعض الشُّعراء الكبار، مثل: المتنبِّي واحمد شوقي وأمرؤ القيس، وبالشِّعر المهجري والعربي المُعاصر وبعمالقتِهِ وَرُوَّادِهِ، كما أنَّهُ تأثَّرَ بالقرآن الكريم بشكل واضح.

 وأخيرًا - سأكتفي بهذا القدر من إستطلاع ِ قصائد هذا الديوان، ونحن ُكنا نتمنى للصديق والشَّاعر الكبير المبدع والرَّائد في عالم ِ الثقاقة ِ والأدبِ الدكتور "جمال قعوار "أن تطولَ بهِ السنون أكثر وأكثر مع المزيدِ من العطاء الشعري الإبداعي المُمَيَّز... والكثير من الإصدارات المطبوعة - شعرًا ونثرا - ولكنَّ يدَ المنون ِ لم تمهلهُ فاقتطفته ُ بشكل ٍ مفاجىءٍ عن عمر ٍ يناهز ال 82 عاما - بعد حياة عريضةٍ غنيَّةٍ وحافلة بالعطاءِ والسَّخاء والأنجازات الرَّائعة أدبيًّا وثقافيًّا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى