هل الناس مع «الحيط» الواقف؟
هناك مثل يقول:
الناس مع الواقف حتى تنجلي المواقف، فما رأيكم؟
نُسب لابن البيطار، (وبعضهم يقول للشافعي) أنه قال في وصف طبائع الناس وبتجنيس متعمّد:
رأيت الناس قد مالواإلى من عنده مالٌومن لا عنده مالٌفعنه الناس قد مالوارأيت الناس قد ذهبواإلى من عنده ذهبُومن لا عنده ذهبُفعنه الناس قد ذهبوارأيت الناس منفضهإلى من عنده فضهومن لا عنده فضهفعنه الناس منفضه
لمَ نعجب من طبائع الناس؟
قال بشار في وصف من أقبلت عليه الدنيا:
يزدحم الناس على بابهوالمنهل العذب كثير الزّحام
فالناس مع من هو قوي مالاً أو مكانة أو سلطة، هم مع القوي ومع الغني، حتى لو نطقت الشخصية بما يشبه الكفر لصدق معظم الناس كلامه، وأعادوه بنوع من الإعجاب، وحتى لو ظلم من حوله لبجلوه وعظّموه.
هذا علي بن عيسى وزير الخليفة المقتدر لما نُكب وزالت عنه الوزارة انفضّ أصحابه ومريدوه، ولم يعد يرى ببابه أحدًا، وذلك بعد أن كانوا يتزاحمون عليه، ويأتون إليه من كل الطرق.
أتذكر هنا الشاعر زهيرًا وهو يصف توافد الناس على بيت هرم بن سنان:
قد جعل المبتغون الخير في هَرِمٍوالسائلون إلى أبوابه طُرُقامَنْ يلق يومًا على عِلاَّته هرمًايلقَ السماحة منه والنَّدى خُلُقا
إذن عرفنا سبب ازدحام الناس!
أما صاحبنا الوزير فقد عادت إليه الوزارة، وإذا بالوفود تعود تتوافد تترى، فتذكّر أبياتًا لأبي العتاهية، وقال:
مَا النَّاسُ إلاَّ مَعَ الدُّنْيا وصَاحِبِهَافكيفَ مَا انقلَبَتْ يَوْمًا بِهِ انقلبُوايُعَظّمُونَ أخا الدّنْيا، فإنْ وثَبَتْعَلَيْهِ يَوْمًا بما لا يَشتَهي وَثـبُوا
من قبيل هذا ما جرى مع الوزير ابن مقلة الخطاط، حيث غضب عليه الخليفة الراضي بالله، بسبب وشاية، فأمر بقطع يده، وعزله، فإذا بالناس يتحاشَونه، ويُعرضون عنه.
ثم ظهر للخليفة أن الوشاية كاذبة، فندم على فعلته، وأعاد ابن مقلة للوزارة.
فكتب ابن مقلة على باب داره يقول:
تحالف الناس والزمانفحيث كان الزمان كانواعاداني الدهر نصف يومفانكشف الناس لي وبانوايا أيها المعرضون عنيعودوا فقد عاد لي الزمان
وفي مثل ذلك يقول منصور بن إسماعيل الفقيه (أو عبد الله بن كثير، أو الوزير المهلبي):
الناسُ أتباعُ مَن دامت له النِّعمُوالوَيلُ للمرءِ إن زلَّت به القدمُلما رأيت أخلائي وخالصتيوالكل مستتر عني ومحتشم
أبدَوا جفاء وإعراضًا فقلت لهم: أذنبتُ ذنبًا؟ فقالوا: ذنبك العدَم
ونحن في مثل هذا الشعر نتذكر قول إبراهيم بن العباس الصولي مخاطبًا صديقه ابن الزيات:
صديقي ما استقام وإننبا دهرٌ علي نباوثبتُ على الزمان بهفعاد به وقد وثباولو عاد الزمان لنالعاد به أخًا حدِبا
وفي مكان آخر يقول له بعد أن انقلب عليه الدهر:
وكنت أعدّك للنائباتفأصبحت أطلب منك الأمانا
ما أقل الوفاء في الناس بعد تقلب الأحوال، ولم أر في حكايات التراث إلا القليل الأقل من قصص الوفاء، ومن أجمل ذلك أشعار ابن اللَّـبّانة في المعتمِد بن عبّاد في سجنه في أَغْمات (قرب مراكش) في المغرب، فقد ظل على مديحه رغم أن الأيام انقلبت عليه.
شاهد ابن اللَّبّانة حفيد المعتمِد وهو في خدمة حدّاد، فتمنّى العمى على رؤيته له وهو على تلك الحال، فقال:
للنّفخ في الصُورِ هولٌ ما حكاه سوىهولٍ أريناك فيه تنفخُ الفَحَماوددتُ إذ نظرت عيني إليك بهلو أنّ عينيَ تشكو قبل ذاكِ عمى
وابن اللبانة ألف كتابًا وسمه "نظم السلوك في وعظ الملوك" نظمه في دولة المعتمد وأيامه أيام كان في قصره في إشبيلية، ثم في وصف أسره.
ثم في قصة ابن المقفع- إذا صحت- مع عبد الحميد الكاتب عبرة رائعة، فليعدْ إليها من نسيها.
يقول المتنبي واصفًا الخيل:
وما الخيل إلا كالصديق قليلةوإن كثرت في عين من لم يجرب
فالصديق قليل، وصدق حسان بن ثابت في قوله:
أخلاء الرخاء همُ كثيرولكن في البلاءِ همُ قليلفلا تغررك خَلةُ من تؤاخيفما لك عند نائبةٍ خليل
وبعد،
فإنني أتذكر المثل "الصديق وقت الضيق".
قال لي جار وهو شيخ مسنّ- يوم أن عايشت "محنة" ظالمة في سنوات الثمانينيات:
توقّع ألا يأتي لزيارتك –كالمعتاد- أي من أصدقائك!
ما رأيكم؟
هل صدق الجار أم أنه جار؟
ملاحظة:
* خمّس الشاعر عمر الأنسي (لبناني ت. 1876) أبيات أبي العتاهية، فبدأ قصيدته:
اعمل بدنياك واحذر من عواقبهافلست تأمن يومًا من نوائبهاوعاشر الناس وانظر من عجائبهامَا النَّاسُ إلاَّ مَعَ الدُّنْيا وصَاحِبِهَا
فكيفَ مَا انقلَبَتْ يَوْمًا بِهِ انقلبُوا.