الخميس ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم رياض كامل

قراءة تمهيدية في شعر سميح القاسم

مقدمة

عرف العرب الشعر قديما، كما عرفته جميع شعوب الأرض، للتعبير عن المشاعر والأحاسيس، فكان انعكاسا للوضع القائم في تلك العصور، حتى قال الدارسون والمنظرون قولتهم الشهيرة: "الشعر ديوان العرب". نرى من خلاله عاداتهم، تقاليدهم، فلسفتهم، رؤاهم للحياة، مبادئهم، طرق تفكيرهم، حروبهم، أيامهم، غزواتهم، انتصاراتهم وانتكاساتهم، غير مختلفين في ذلك عن غيرهم من الشعوب، رغم انحسار عيشهم في صحراء قاحلة. وآمنوا أن لكل شاعر جنّاً يعيش في وادي عبقر يوحي له بقول الشعر، ما يذكرنا بإيمان الإغريق بربات الوحي. فحظي نتيجة ذلك مكانة خاصة ومميزة أهلته للوقوف في الصف الأول، من خلال فكره ورؤياه واستشرافه المستقبل قبل غيره، إذ خصصوا له مكانة فريدة ومرموقة، بالذات في مشاركته علية القوم اجتماعاتهم الهامة.

ويبدو لنا أن المكانة المميزة التي نسبت للشعراء، عبر عصور طويلة في تاريخ الأدب العربي، ما زالت تلعب دورا هاما في تمجيد الشاعر وتخليد إنتاجه حتى اليوم. فهل يستحق جميع الشعراء هذا "الشرف" الرفيع"، أم هو من نصيب من استطاعوا أن يخلقوا لهم عالما شعريا يتحلى بتقنيات ذات نكهة خاصة بهم؟

لقد تبوأت مجموعة من الأدباء الفلسطينيين موقعا متقدما بين مجمل الكتاب والمبدعين على امتداد الوطن العربي، وساهمت في دفع القضايا الفكرية والفنية. بل كانت وما تزال رائدة في إعلاء شأن الكلمة الحرة، فبرزت أسماء لامعة في سماء الفكر والفن. أما في مجال تجديد وتطوير الشعر الحديث فقد كان لسميح القاسم ورفاقه دور رائد في دعم وتدعيم هذه الحركة.
لسنا هنا في معرض الحديث عن مكانة الشاعر سميح القاسم وموقعه على خارطة الشعر المعاصر، فهو موضوع قد تعداه غيرنا منذ زمن طويل. لكن يمكننا القول، بكل ثقة، إن شعره مرآة لقضيتين هامتين في الشكل وفي المضمون. وهو يتوازى في مسيرته مع تطور الشعر العربي في أشكاله وأنساقه، وفي كونه مرآة للقضايا الفكرية الكبرى منذ أكثر من نصف قرن من الزمن على الصعيدين المحلي والعربي والعالمي.

لم ينتظر القاسم كثيرا للانتقال من القصيدة العمودية نحو قصيدة التفعيلة، حيث كانت النقلة الأولى في ديوانه "أغاني الدروب" (1964) في وقت مبكر جدا من رحلته الشعرية. إن هذا الانتقال السريع مؤشر على رغبته بالتجديد وإعلان التغيير عن وعي وتصميم، غير آبه بالمعارك التي شنها الكثير ممن ادعوا، في منتصف القرن العشرين، أن شعر التفعيلة هو اعتداء على حرمة القوالب "المقدسة". لم يتوقف القاسم عند ذلك بل رأيناه يكتب الشعر العمودي، إلى جانب قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، ورأيناه يمزج بين جميع هذه الأشكال، في بعض الأحيان، استجابة لمتطلبات الموقف والحالة الشعرية.

قيل الكثير في شعر القاسم وتعرض له عدد كبير من الدارسين والنقاد في معظم الأقطار العربية، هذا فضلا عن ترجمة شعره إلى العديد من اللغات. ونحن في هذا المقام نود أن نتطرق إلى نقطتين هامتين، برأينا، وهما ثقافة التلقي، ونبرة السخرية في شعره.

شعر القاسم وثقافة التلقي

"لمن يكتب الشاعر"؟ تساؤل ما انفك يتردد ويتكرر، هل يكتب للجمهور العريض؟ أم يكتب لجمهور الخاصة؟ تساؤل تم طرحه منذ بداية الدراسات النقدية العربية القديمة، ومنذ أبي تمام والبحتري وغيرهما. ثم ثار بقوة في بدايات القرن العشرين، واستمر إلى ما بعد ذلك. وكان ممن تعرض لهذه الإشكالية في لبنان توفيق صايغ وعمر فاخوري وسعيد عقل والياس أبو شبكة وغيرهم. فقد رأى الياس أبو شبكة، على سبيل المثال، أن هناك من الأدباء من يسعى إلى تسلية القارئ، وأن هناك من يعتمدون على الموهبة، ومن ثم يرجعون إلى التاريخ والتراث الثقافي القومي والإنساني، فيعطون نتاجا مبدعا ذا فائدة.

أما عمر فاخوري فقد أضاف إلى ذلك ما يعني أن القارئ والأديب بحاجة إلى "قاض عادل"، مشيرا إلى الناقد الأدبي الذي يفك الرموز ويسهل الطريق أمام القارئ العادي معتبرا أن الأديب لا يكتب لنفسه، بل يكتب لجمهوره. ولم تبتعد الناقدة خالدة سعيد كثيرا عن هذا الرأي فقد اقترحت على الناقد أن يقوم بمد الجسور بين المبدع والمتلقي من خلال "ترجمة" غموض القصيدة الحديثة دون حرمان القارئ من متعة الخلق.

لقد تم التعامل لفترة طويلة مع شعر القاسم على أنه شعر إيديولوجي محرض، انطلاقا من كونه "شعر مقاومة" حفظته الجماهير ورددته في مناسباتها الوطنية، فساندها في الدفاع عن حقوقها ومبادئها، وفي التعبير عما يجول في خاطرها من قهر وتعذيب وحسرة. وكان للمغنين الوطنيين ووسائل الإعلام المسموعة والمقروءة دور هام في نشر شعبية شعر القاسم. واليوم يعتبر بعض المتلقين لشعره أنه يجنح نحو الذاتية والغموض، فاستعصى على القراء، أو على بعضهم، مما أفقده جزءا من جماهيريته.

إن مضامين شعر القاسم، كما نرى، عبر مسيرته الشعرية الطويلة، عديدة ومتنوعة، كما هو الحال في الأشكال الفنية التي يتبعها. واعتمادا على هذا الرصيد الغني، وهذا الكم الهائل يبقى، برأينا، هناك متسع من الشعر للقراء على اختلاف مشاربهم ومستويات تعاطيهم.

إن غوص الشاعر في الإبهام والغموض أو الذاتية أحيانا، قد ينبع من حالة نفسية تلبست الشاعر أثناء كتابة القصيدة. وشاعرنا، كما ذكرنا، صاحب التجربة الطويلة، دائب البحث عن كل ما هو جديد يراه عبر تأملاته في الحياة، فيرى ما لا يراه الآخرون، أو قد يرى ما لا يراه هو نفسه في أوقات أخرى. فالشاعر المجرب يتحول مع الزمن إلى مفكر شأنه في ذلك شأن الكثير من الفنانين الكبار. وبالتالي فإن "الهذيان" الشعري، إن شئتم، ليس مأخذا على الشاعر وهو يرى تقلبات الدهر وحوادثه.

لقد غرق شعراء أوروبا في رومانسيتهم التي جعلت العاطفة تتفوق على العقل في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تأثرا بما آلت إليه أحوال الناس الاقتصادية والاجتماعية حينذاك، فهربوا من واقعهم نحو عالم الخيال والحلم والطبيعة بحثا عن عالم أفضل من عالمهم ذاك، وأبدعوا شعرا وروايات خالدة. ثم عادوا إلى الواقعية بكل أنواعها، بعدها كانت السريالية وأتباعها ملجأ، ربما، لشعراء العالم نتيجة الحرب العالمية الأولى والصراعات الدولية وحالة القتل والدمار والتشريد. فثار الفنانون على هذا الواقع، كما كانت الثورة الرومانسية أيضا ثورة على واقع آخر.

فإذا كانت هذه هي ظروف الفنانين والأدباء الأوروبيين الباحثين عن الانعتاق من الواقع أو محاربته، وهم يمرون في تجارب الحياة المعقدة والعبثية أحيانا، فلماذا لا يمر شعراؤنا العرب والفلسطينيون في حالات مشابهة، وهم أكثر الناس حسا ورهافة؟ أم هل ينقصنا قتل وفتك وتشريد!؟
إن الصراع في منطقتنا هذه، ومنذ أكثر من قرن كان له انعكاسه على أدبنا الفلسطيني عامة. وكان من الطبيعي أن يكون شعرا مقاوما ومحرضا في مرحلة معينة، وهو يواجه راهنا جديدا. وأن يكون داعيا إلى التشبث بالأرض نظرا لحالة التشرد والخوف من الآتي. وأن يكون شعر رؤيا واستشراف للمستقبل، وشعرا محاورا وحالما وناقدا وساخرا.

مر شعر القاسم بمحطات هامة عبر مسيرته الطويلة، وكان الشاعر في مرحلة معينة ينتمي للحزب الشيوعي فكان لذلك انعكاسه على شعره، حيث رأينا البعد الأمميّ بارزا في العديد من قصائده التي استحضرت صورا لشخصيات أممية وأحداثا عالمية لتكون درسا وخطابا للذات وللآخر.
أما حالة الشك والغموض، على الصعيد السياسي والفكري والإيديولوجي، وعلى الصعيد الذاتي فإنها تدعو أصحاب الرؤى والمفكرين للغوص في قراءة متأنية عميقة في أحوال الدنيا، بما فيها من تعقيدات وعدم منطق وعبثية أحيانا. من ناحية أخرى فإن القاسم ذا الباع الطويل مطلع على ثقافتنا العربية وميراثها الغني منذ الجاهلية وحتى اليوم، وعلى الموروث الديني على اختلافه، وعلى الميثولوجيا والأساطير العالمية وعلى التاريخ والحضارات المتعددة. لذلك فمن الطبيعي أن يغتني شعره بهذه الثقافات وبهذه الأساطير، فيثرى بالرمز والمثاقفة والمحاورة مما يفرض على المتلقي أن يبحث في الدلالات والإيحاءات التي تحملها مفردات الشاعر وتعبيراته وصوره.

يفرض على قارئ القاسم أن يتزود بالمعرفة الشمولية كي يجاري إبداعه الشعري، فالنص كما يقول أمبرتو إيكوUmberto Eco) ) "آلة كسولة تفرض على القارئ عملا مرهقا لملء مساحات المسكوت عنه"، وما عليه، برأيه، إلا أن يتسلح بذخيرة معرفية هائلة حتى يتمكن من تفعيل النص كما يطمح إليه الكاتب. وشاعرنا، كعادته، يرصع شعره بالمعاني والدلالات المستحضرة من ثقافته الشمولية، بدءا من الرصيد الديني الإسلامي، مرورا بالتراث الديني المسيحي، كما نرى في النص التالي من نفس القصيدة:

"فاعتصم بالله يا ابن محمد،
واصعد سلالمك الكثيرة
في معاريج الأعالي
وارفع قميصك راية خفاقة بالدم

واصعد بالصليب ظلام دربك" (مقدمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس، 2006، ص14،ص18)
يمزج الشاعر ببراعة وسلاسة بين مأساة الخليفة عثمان بن عفان وقميصه الملطخ بالدم، في درامية الحدث، وبين مأساة السيد المسيح صاعدا جبل الجلجلة ليواجه مصيره المؤلم على الصليب الذي حمله بيديه هو، فيُسقط هاتين الحالتين على الفلسطيني المعذب في رحلته السيزيفية الشاقة والمرهقة. كما يستحضر في موقع آخر من نفس القصيدة ميلاد المسيح وما يحمله هذا الميلاد من أبعاد الخلاص والتجدد والفرح ليوظفه في إثراء الفكرة:

"ليكون مجد الله مكتمل العلى ويكون في الأرض السلام تكون في الناس المسرة.." (مقدمة ابن محمد، ص26)

إن التناص، بأنواعه، ميزة الشعر الغني يثري ويُغني، ويُحمّل النص دلالات جديدة كما يتجلى في مواقع عدة في أشعار القاسم ودواوينه في مثل قوله:

"كم غادر الشعراء من متردم.. كم غادر الشعراء" (مقدمة ابن محمد، ص36)، مستحضرا مطلع معلقة الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد:

هل غادر الشعراء من متردم
أم هل عرفت الدار بعد توهم

وتحويره لنص ابن هانئ الأندلسي في مدح المعز لدين الله الفاطمي:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار

فيصبح عند شاعرنا:

"لتكون يا ابن محمد ما شئت لا ما شاءت الدهماء" (مقدمة ابن محمد، ص40)
وتناص آخر يتم استحضاره من قصيدة "أبو تمام" في مدح المعتصم يوم فتح عمورية وقوله:

تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت
جلودهم قبل نضج التين والعنب

فيصبح لدى شاعرنا:

"قبل نضج التين والرمان
تنضج في الزرقاء والسلط وفي عمان

فاكهة الوحي على لقمان" (مقدمة ابن محمد، ص47)

إن توظيف التناص في قصيدة واحدة والإحالات الثقافية المستمدة من الرصيد العربي عبر عصور عديدة مرورا بالرصيد الإسلامي فالمسيحي قد يرهق القارئ العادي، لكنه يبعث المتعة في نفس القارئ المتمرس. ولا شك لدينا أن القاسم الشاعر المتجدد له قارئه الضمني الذي يقيم ،حسب نظرية آيزر (Iser)، في داخل النص.

إن مثل هذه التوظيفات، كما نرى، لا تعني ولا بأي حال من الأحوال أن النص لا يزال يحمل نفس المعنى الأصلي، بل قد يسعى الشاعر إلى ما هو مناقض. إن هذه العملية، هنا بالذات، ما هي إلا عملية "مشاكسة" ولعبة شعرية فنية تشهد على سعة المعلومات وعلى المهارة في التلاعب باللفظ والمعنى، فتخلق لدى القارئ المتمرس، حالة من الاندهاش والانفعال، وبالذات حين يوظف في نصه بشكل مكثف الأساطير الشرقية والغربية والرموز العالمية:

"فاعبر على تموز في عجل ولا تمكث عند جلجامش
ولا تعبأ بلعبة فاوست أنت الآن بين رؤاك
بين رؤاك أنت الآن..: (مقدمة ابن محمد، ص24)

تتكرر ظاهرة الإحالات الثقافية والتضمينات الأدبية وتداخل النصوص واتساع الدلالات في مجموعة كولاج2 (2009)، خاصة في رجوعه إلى سفر التكوين وانعكاس ذلك في صفحات ديوانه الأولى. اعتقد أن سميح القاسم كان قد دخل في دور الرؤى والتأملات على الصعيدين الخاص والعام بعد أن اكتسب من التجربة ما يؤهله للغوص في الفلسفة و"التنظير" والبحث، وتحليل ما رآه خلال مسيرته الطويلة. فقد تسلح بمعرفة شمولية وذخيرة هائلة منذ بداية مشواره الشعري، فضلا عن اكتسابه تجربة طويلة في الأدب وفي الحياة. سميح القاسم لم يكن في يوم من الأيام شاعرا محايدا، بل كان دائم البحث والتنقيب والتحليل والنظر والتفكير في كل ما يدور حوله. ويكفينا للتدليل على ذلك عنوان ديوانه "مقدمة ابن محمد لرؤى نوستراسميحداموس" (2006) الذي ضمنه الكثير من القضايا الفكرية والفلسفية. كما يتجلى ذلك بوضوح في ديوانه الساخر "أنا متأسف" (2009)، وفي مجموعته الشعرية "كولاج2"، التي تحفل بالرؤى الفلسفية والتأمل في الحياة وفي مصير الإنسان:

أين تفاحتي وكأس نبيذي
وكفافي من خبز حزني اللذيذ
أين ناري وشمعتي وورودي
وصلاة الوداع والتعويذ
للرحيل الأخير قد هيأت نفسي
ولدى الله ساعة التنفيذ (كولاج2، ص23)

كما لم يكتف القاسم في حواره الأخير مع الشاعر المرحوم محمود درويش برثائه رثاء تقليديا بل ذهب إلى ما هو أبعد بكثير، فقد ضمّن قصيدته الشهيرة "ما من حوار معك بعد الآن.. إنه مجرد انفجار آخر" ( 31.12.2008) الكثير من التأملات الفلسفية لتتماشى وتنسجم مع الحالة العاطفية وهو يودع صديقا وشريكا في الشعر والهم منذ ما ينيف عن نصف قرن، فيرصعها بالكثير من الإحالات الثقافية والتضمينات الأدبية والشيفرات الدرويشية .

إن القاسم شاعر ثوري وشاعر إنساني، وثورية الشباب تختلف عن ثورية البالغين، فهو ثائر أيضا على مظاهر التكنولوجيا وأبعادها الاجتماعية والسياسية التي غيرت مفهوم العائلة والقرية وحقيقة الكون كله. وهو ثائر على الواقع الجديد الذي سلب منه حقله ووروده وبدل صورة جباله وسهوله، فيرى أحلامه تتحطم على أرض الواقع من ناحية، ويرى العمر يدهمه وينقض عليه دون رحمة أو استئذان من ناحية أخرى. وبرأينا أنه قد تَحَول من الخطاب الحماسي الذي يميز الشباب إلى الخطاب الهامس الذي يميز البالغين. وفي كل الأحوال شاعرنا يحسن دغدغة المشاعر والأحاسيس لدى المتلقي الذي يجب أن يتزود بالمعرفة ليتمكن من مجالسة قصائده في معظم دواوينه.

لن نأتي بجديد حين نقول إن الشعر قد تغير وعلى القارئ أيضا أن يتغير ويتبدل، فهل سننتظر قرونا أخرى لإقناع المتلقين أن مفاهيم الشعر قد تغيرت وتبدلت؟ إننا لا نعيش في زمن الوحدة العضوية للبيت، ولا نعيش في عهد السطر الشعري. هناك المفهوم الكلي للقصيدة، وهناك فضاؤها المترامي الأطراف. كان يكفينا أن نقرأ البيت منفردا ونقوم بشرحه وتفسيره منفصلا عن النص الكلي. لسنا في مرحلة "الخيل والليل والبيداء تعرفني..."، ولا في مرحلة "قم للمعلم وفه التبجيلا...". كان كل ذلك جميلا وسيظل جميلا إلى أبد الدهور، لأننا ننظر إليه ضمن زمن التأليف، وزمن القارئ والمتلقي المختلف.

إن حديثنا اليوم عن التشبيهات والاستعارات والصور الشعرية يجب أن يختلف اختلافا كليا، لسنا اليوم في عهد المقاييس التي تنظر إلى مدى المواءمة بين المشبه والمشبه به، ولا في زمن الاستعارات التقليدية، بل إن التعبيرات التي كانت تعتبر مبتكرة مثل "فحيح الأرض" ومثيلاتها باتت مبتذلة وممجوجة. نحن اليوم أحوج إلى الإيحاء وإلى انفتاح النص على فضاءات غير ملموسة وغير محسوسة، فالشاعر لا يختلف أبدا عن المخترع، فهو المبتكر للأفكار من خلال الرؤيا التي ينفرد بها دون سواه ليصل إلى المجهول، وهو بعض من نبي، هذا إذا كان يستحق لقب الشاعر الحق:

"يبتعد. وتقترب المرآه
يقترب. وتبتعد المرآه
تتبعه الآن خطاي
ويراني.. وأراه..
لكن المرئي سواي
وسواه
لا حيلة للرائي. لا حيلة للمرئي. ولا حيلة للمرآه
لا حول ولا قوة إلا بالله!" (كولاج 2، ص16-17)

هذا نص من قصيدة طويلة، نص منفتح للتفسير والتحليل والتأويل، إن شرح الصورة بشكل تقليدي إعلان عن قتل روح الشاعرية. يحلّق الشاعر في الرؤيا وعليك أن تحلق معه، لا في السراب ولا في نقطة واحدة بعينها، ولا في صورة محددة. عليك أن تكسر "كسل النص"، كما قيل، وأن تفتح باب التأويل على مصراعيه. إننا هنا في زمن الرؤيا وفي زمن الإيحاء. تلعب الموسيقى الداخلية والتجنيس الحرفي والموسيقى الخارجية دورا هاما في نفس المتلقي، فضلا عن حالة التناقض في المعاني والألفاظ، التي تطرح بصورة بعيدة كل البعد عن المباشرة والخطابية التي كانت مألوفة لفترة طويلة في شعرنا الفلسطيني خاصة.

هناك حالة من الانسجام والتوافق الكلي والترابط العضوي بين القافية (آه) والمضمون. إنها حالة شعرية تحتاج إلى رؤية نفسية على مستويات مختلفة، قد يراها القارئ المتمرس بصورة معينة وقد يراها المختص النفسي بصورة أخرى، وكلاهما سيعمل الفكر. وستكون نقطة الانطلاق من داخل النص ذاته، لكنها لن تكون سهلة للقارئ العادي. فهل ندعو شاعرنا إلى لجم فكره وخياله!؟
إن الأمر أعلاه يحيلنا إلى ما نادى به ألبرتو إيكو بصدد التفريق بين النص المغلق والنص المفتوح. فقد رأى أن النص المغلق يتجه نحو قارئ معين في سياق اجتماعي معين، كالرواية، مثلا، التي تبتعد عن خلق الشخصيات المعقدة في تركيبها وبنائها، فتثير القارئ من خلال وضوحها، فلا تنفتح على فضاء التحليلات المتناقضة والمتعددة. بينما النص المفتوح فهو الذي يدعو القراء إلى الحوار، وإلى تفعيل النص بطرق مختلفة ومن زوايا نظر متعددة.

الأمر أعلاه يحيلنا إلى النظريات الأدبية الحديثة التي حولت الأنظار من ثنائية المؤلف/النص، إلى ثنائية النص/القارئ وعدم الاكتفاء بالنظرة التاريخية وحدها، مما يفرض على القارئ أن يكون متمرسا وذا معرفة واسعة وشاملة ومغايرة عما كان متبعا حتى الآن. وفي حالة شعرنا العربي فإن القراءة أصبحت أهم بكثير من الإصغاء. نقصد بذلك أن شعرنا كان قد اعتمد لقرون طويلة على الصوت، وكان يكفينا ما يسمى بثقافة الأذن، أما اليوم فنحن بحاجة إلى قارئ وإلى متلق للكتابة يعمل الفكر ويشغل الذهن. لقد انفتح نص المبدع الحديث على مصراعيه أمام القراءات المتعددة، والتفسيرات المتعددة، وبات للقارئ دور في إنشاء النص. ونحن نرى أن القاسم جنح في بعض إبداعاته نحو الرمزية المركبة والمتشظية مما يرهق القارئ العادي، فهل هي دعوة غير مباشرة منه للقارئ كي يتسلح بالذخيرة المعرفية؟ أم أنه يعتمد على "قاض عادل" يفك الرموز والشيفرات؟

نرى من الجدير هنا أن نقتبس النص التالي لوولفجانج ايزر: "يحملق اثنان من الناس في سماء بعض الليالي فيريان نفس النجوم، لكن أحدهما ربما رأى صورة محراث، والآخر ربما استخرج صورة طائر، كذلك "النجوم" في النص الأدبي، هي الشيء الثابت. أما الخطوط التي تصل بينها فهي الشيء المتغير".

وهكذا النص الذي أمامنا مفتوح على "مصاريعه"، ولنتركه للقارئ العادي أو للقارئ المتفوق أو السوبر كما يسميه ريفاتير وليمدوا الخيوط كل بحسب خلفيته الثقافية. أم نلوم المبدع الذي يحلق؟ إنني أضم صوتي إلى الباحث فيصل دراج الذي قال تقدمت الرواية وتأخر قارئها، ونضيف تقدم الشعر وتأخر قارئه. فهل هي دعوة لبتر العلاقة بين المبدع والمتلقي العادي؟

لقد أعلن الكثير من كبار الأدباء في العالم في مقابلاتهم أنهم يرفضون هجرة القارئ وفرض قطيعة مطلقة بينهم، بل شددوا في أقوالهم على ضرورة التواصل. من ناحية أخرى يرفض معظم المبدعين الكبار الاستمرار في مجاراة القارئ الذي لا يجهد نفسه في البحث والتنقيب. ومن المبدعين من يغوص أحيانا ويغرق في بحر من التأملات والرؤى ليعيش، ربما مع نفسه، ومع أفكاره. نعود ونعلن أن رصيد القاسم الشعري غني وفيه ما يشفي غليل القارئ العادي والقارئ المتمرس أو السوبر، وإن لجم فكر الشاعر المبدع هو وأد للحرية الفكرية وقتل لروح الشعر المبتكر. ولقد قلنا في موقع آخر إن الأباطرة قادرون على بتر رؤوس المبدعين لكنهم لم ينجحوا في بتر رأس الكلمة الحرة المحلقة والمبدعة.

يجنح القاسم نحو الذاتية في دواوينه الأخيرة، وقد تطرقنا إلى ذلك سابقا. نعود لنؤكد أن شاعرنا كان قد دخل في دور الرؤى، بعد أن اعتدنا واعتاد الكثير من قرائه ومحبيه على أسلوبه الحماسي المقاتل والمتحدي، ذاك الأسلوب الذي لقي صدى وتجاوبا لدى فئة من القراء لفترة طويلة. إن المتابع لشعر القاسم يرى بوضوح أن شاعرنا قد اعتاد على تضمين الكثير من دواوينه وقصائده بالرؤى الفلسفية منذ فترة طويلة من عطائه الشعري وأنه لم يتوقف عن ذلك في يوم من الأيام. أما نحن القراء فقد انصب معظم اهتمامنا على قصائده "المقاتلة" لحاجتنا النفسية إليها، وربما لأن الأمر أسهل على القارئ العادي.

إننا نرى أن شعر القاسم لم يفلت من عقال المتلقي، ولم يغرق في العبثية وظل محافظا على خيط متين مع القارئ الذي يسهم بدوره في تفعيل النص، مع اختلاف في الرصيد المعرفي بين متلق وآخر مما يُبرز بشكل واضح مدى الاستجابة بين قارئ وآخر. ورصيد القاسم غني فيه من الشعر الخطابي وشعر الحماسة وشعر الحلم والرؤيا، وفيه من الذاتي والعام والخاص، وفيه ضالة كل قارئ مهما تفاوتت ثقافته.

السخرية في شعر القاسم

إن مصطلح السخرية يحتاج إلى تعريف واسع وشامل، شأنه شأن الشعر الحديث الذي بات ثوبه واسعا فضفاضا لا حدود جغرافية له. فقد حاول الكثير من الدارسين في الغرب والشرق دراسته، فأكدوا جميعهم أنه مصطلح متشعب، يتداخل ويتحاور ويتشارك مع مصطلحات أخرى قريبة منه في الهدف وفي المضمون. فعادوا إلى العصور الغابرة للبحث عن جذور السخرية ووجدوا لها جذورا في العصر الروماني واليوناني وأيام الحصاد لديهم، وبحثوا عن دوافعها ومعانيها وأساليبها وأهدافها. وتتبعوا تطورها ومعانيها وأنواعها من عصر لعصر ومن جيل لجيل، في الأدب وفي الحياة. وقف الباحثون عند معاني هذا المصطلح المختلفة والمتعددة، وأهدافه عبر التاريخ، لكنهم لم يتمكنوا من محاصرته في إطار محدد لا لكونه مجهول الهوية، بل لكونه مصطلحا قادرا على التطور والانفتاح على كل زمان ومكان.

تابع الدارسون في أبحاثهم ووجدوا أن هذا الأسلوب قد وظف في الأدب منذ القدم، كضرورة للترويح عن النفس في وقت الضيق، وللتفريغ عن الذات والنيل من الخصم. ووجدوا أن المسرح في القرن الخامس عشر والسادس عشر قد اتبع السخرية وسيلة للترفيه بغية النقد والتغيير الاجتماعي. وانتقلت السخرية للكتاب والأدباء لاحقا، ومنهم شكسبير الذي اتكأ عليها في الكثير من مسرحياته حتى وصلت أدباءَ القرن الثامن عشر الذين وظفوها في كتاباتهم توظيفا ناجحا كما فعل فولتير في مؤلفه الشهير "البخيل".

أما في رصيدنا العربي فهناك كم هائل من شعر الهجاء الذي يوجه للخصم أو العدو بغية النيل منه، من ناحية، والمفاخرة بالذات من ناحية أخرى. وذلك منذ العصر الجاهلي مرورا بالعصور الإسلامية اللاحقة حين تطورت السخرية وانتقلت من الشعر إلى النثر. فعمل الأدباء والدارسون والباحثون على جمع النوادر الساخرة في كتب الأدب الجامعة. ثم رأينا كتبا منفردة تُؤلف وتكتب في ذم الخصم بغية النيل منه متبعة أسلوب السخرية، مثل كتاب البخلاء للجاحظ، ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري، والرسالة الهزلية لابن زيدون.

من الملاحظ أن السخرية العربية، عبر عصورها الطويلة، كانت موجهة في بعض الأحيان للنيل من الفرد، كما فعل الحطيئة في شعره، على سبيل المثال، الذي هجا والديه وزوجته وأمه وعمه وخاله، ثم هجا نفسه:

أبت شفتاي اليوم إلا تكلما بسوء فما أدري لمن أنا قائله

أرى لي وجها شوه الله خلقه
فقبح من وجه وقبح حامله

أو كما فعل ابن الرومي في العصر العباسي الذي استغل "عيوب" الشكل الخارجي، والعيوب الأخلاقية لتجريح الخصم وإضحاك القراء، كما نرى في المثال التالي:

وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرا
تزول عنه ولا تزول

أو للنيل من الجماعة كما فعل شعراء الهجاء في ذم قبيلة أو حزب، وكما فعل كل من الجاحظ وأبي العلاء المعري في مؤلفاتهما النثرية.

لقد انتقل هذا الأسلوب، بطرق وتقنيات أخرى، إلى الأدب العربي الحديث، وبالذات إلى كتاب الساق على الساق لأحمد فارس الشدياق في القرن التاسع عشر، مرورا بالشعر العربي الحديث وبعض رواياتنا الحديثة، ليتعداها إلى المسرح، ويبرز فيه عدد من المؤلفين والكتاب والممثلين من مشرق العالم العربي إلى مغربه.

إن الأحوال السياسية التي مرت بمنطقتنا كان لها تأثيرها وانعكاسها وأبعادها على الأدب العربي عامة، وعلى الفلسطيني خاصة، كما تجمع على ذلك معظم الدراسات. فالصراع مع الآخر مرعب ومقلق ومثير، خاصة إذا وجد الشاعر بحسه المرهف أن هناك قصورا في التعامل مع الخصم، فيلجأ إلى السخرية للتفريغ عن الذات، وللتحريض ضد السلطة، وضد كل من يشكل خطرا وتهديدا على وجوده وكيانه. وقد تنبهت مجموعة من الشعراء لهذه الظاهرة وتصدوا لها مثل الرصافي والجواهري وإبراهيم طوقان وأبو سلمى، فجاءت قصائدهم ساخرة ولاذعة بحق القيادة العربية في شتى الأقطار العربية، دون تبرئة الشعب نفسه. ومنها ما كانت حاقدة وغاضبة فانصبت على المستعمر من ناحية، وعلى كل من يتلاعب أو يتقاعس في إحقاق الحق من ناحية أخرى، كما جاء على لسان إبراهيم طوقان، على سبيل المثال، في مخاطبته القيادة آنذاك:

أنتم المخلصون للوطنية
أنتم الحاملون عبء القضية
أنتم العاملون من غير قول
بارك الله في الزنود القوية

لقد رأى القاسم أن الأحوال التي تمر بمنطقتنا لا تزال تتشابه وسابقاتها في نواح عدة، وأن "الحل" ما زال يراوح مكانه، ورأى الإجحاف اللاحق به وبشعبه حيثما تواجد فنفد صبره، فلجأ إلى السخرية أسلوبا يصب من خلاله جام غضبه. فجاءت سخريته صدى الروح المتألمة الثائرة الغاضبة من الوضع الراهن، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وصرخة جارحة مرة، ومرآة تعكس حقه المغتصب على الصعيد العام والخاص.

قام الشاعر بتوظيف هذا الأسلوب منذ بداية مشواره مع الشعر، في ديوانه الأول "مواكب الشمس" (1958)، إذ تفتح وعيه على النكبة، وكان حينذاك غلاما يرى رتل النازحين من أبناء شعبه وقد تفرقوا شذَرَ مذرَ، وباتوا أقلية صغيرة في وطنهم بعد أن كانوا الأكثرية، مدركا جهل الجيل السابق في التعاطي مع ما يتعرض له. وإذا به جيل يعتمد على كلام رنان لا رصيد له على أرض الواقع، بينما التمزق والخيانة سيدا الموقف، فألف قصيدته "أطفال 1948" التي يقول فيها:
"يا إخوتي!

آباؤنا لم يغرسوا غير الأساطير السقيمة
واليتم.. والرؤيا العقيمة
فلنجن من غرس الجهالة والخيانة والجريمة

فلنجن من خبز التمزق.. نكبة الجوع العضال" (المجلد الأول، دار الهدى، 1991، ص31)
لقد تحدثنا في القسم الأول من دراستنا أن الشعر العربي عبر عصوره الطويلة كان مرآة تعكس أحوال الناس. وقد قيل أيضا إن السخرية مرآة صافية نرى من خلالها أحوال الأمة. لذلك لم يجد الشاعر أنسب من هذا الأسلوب للتعبير عن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني، وتحميل الجيل السابق، مسؤولية هذه المأساة.

إن المتتبع لسخرية القاسم يلاحظ أنه يستعملها بصور وطرق مختلفة منها ما كان مباشرا، كما ينعكس في النص أعلاه، ومنها ما كان غير مباشر. وفي كل الأحوال فإن الهدف من السخرية لديه هو مهاجمة الخصم وتقريعه وإذلاله، ودعوة للضحك المر والمبكي، ودعوة للتوبيخ والهزء والتقريع والعتاب والاستخفاف من المنطق الأعوج، سواء كان هذا الخصم فردا أو جماعة. وبذلك تتحول السخرية عنده، برأينا، إلى وسيلة للدفاع عن النفس والتخفيف من الألم ورفع الروح المعنوية. وقد لاحظنا أنها موجهة لأكثر من جهة، منها ما كان للذات ونقصد الذات الفلسطينية، ومنها ما كان موجها للعربي وحكامه، ومنها ما هو موجه للآخر غير العربي.

دوافع السخرية في شعر القاسم عديدة ومتنوعة، فقد بات الفلسطيني المشرد "إرهابيا" و"مخربا" يدب الذعر في نفوس "الدول الحرة"، وحملا ثقيلا على العالم العربي وحكامه. يطارد ويقتل ويشرد مرة ومرتين وثلاثا، ويظل متهما بالإرهاب والتخريب وقض المضاجع. إنها حالة عبثية تحول فيها الضحية إلى جلاد والمعذَّب إلى متوحش. إذ فقد الطفل أمه وأضحت النساء أرامل تبحث عن لقمة العيش لتسد رمق أطفالهن، فيما يطارد ظل الفلسطيني عبر وسائل الإعلام، وعلى أرض الواقع، ويحرم من أبسط حقوقه الإنسانية في شتى مواقع تواجده، وبخاصة في العالم العربي، فيما تتخذ القرارات الدولية بناء على ميزان القوى الدولي. فيهب للدفاع عن كيانه وحقوقه وهويته ولباسه وتاريخه وتراثه ولقمة عيشه، لكن "القوى العظمى" تلقي القبض عليه:
"ألقى الإنتربول القبض على إرهابي بدوي يحمل باسبورتا لا شك مزور ويجوب الدول الحرة مقتنصا أصحاب صناعات الطيران الحربي وأرباب البورصة والفيزياء النووية، مدعيا أن الله تعالى أوكله بالثأر لأطفال نسفوا في شيء يدعى تل الزعتر..". (انتقام الشنفرى، من ديوان جهات الروح، 1983، المجلد الثاني، ص606)

ولقد جعل القاسم من الحكام العرب في الكثير من قصائده هدفا يلقي إليهم سهامه، وذلك تأثرا بما حل بالعالم العربي من ويلات، وبالشعب الفلسطيني من مآس، فصرخ في وجههم في سربيته الشهيرة "إلهي إلهي لماذا قتلتني" (1974) محملا إياهم وزر ما حل بالأمة، دون أن يعفي الأمم "الحرة" من دورها في تحمل القرارات المجحفة بحقه وحق شعبه. إن درجة السخط من الواقع الأليم هي التي جعلته يوجه خطابه نحو خالقه "إلهي إلهي لماذا قتلتني" موظفا جملة المسيح الشهيرة أثناء صلبه، "إلهي إلهي لماذا تركتني".

وقد وجدنا، أحيانا، أن الهجوم المباشر قادر على النيل من الآخر وتصغيره وتحقيره دون لف أو دوران، فقد رأى الشاعر ببصره وبصيرته ما حل بالعرب من هزائم وانتكاسات متتالية، شأنه في ذلك شأن بعض شعرائنا الفلسطينيين والعرب من قبلُ. فوجه سهام غضبه نحو من تلاعب بقضيته وقضية شعبه. ووجد أن الحكام العرب يلعبون دورا فاعلا في طمس الهوية والقضية، وفي قتل الديمقراطية وحرية التعبير، فخاطبهم ساخرا خطابا مباشرا:

أين أنتم.. يا ذوي القامات المسحوقة كالتبن
تحت مسامير الأحذية العسكرية الثقيلة؟
وأين أنتم يا شيوخ القبيلة وعلية القوم؟
يا من تصطف خواتم الذهب والماس فوق أظافركم القذرة
أيها الملوك والرؤساء
يا مماليك سايكس- بيكو
أبنوا فلسطين في مؤتمرات قمتكم

نحن سيوف العرب البائدة" (إلهي إلهي لماذا قتلتني، المجلد الرابع، ص134-135)
إذا أردنا أن نتحدث عن غنى المعاني وتجددها فلنا هنا مثل بارز على ذلك، إذ نلاحظ كيف وظف الشاعر مصطلح "العرب البائدة" الذي ورد في التاريخ العربي القديم دالا على فئة من العرب قد امّحت وزالت، فوُظفت كلمة "البائدة" صفةً لكلمة سيوف لتصبح ذات دلالة حديثة، رغم تقاطع المصطلح مع المفهوم القديم، وبذلك تمكن الشاعر من تجنيد التناص في خدمة السخرية. وهي، أعلاه، ليست بهدف التخفيف عن الذات مطلقا بل هي ذات رسالة أخرى. إنها الغضب بعينه، غضب يصل حد الحقد. ولذلك فإن هذه السخرية تتضمن صرخة قوية ودعوة للانتفاض وعدم السكوت. وهي سخرية مباشرة تعتمد على الذم والقدح والتشهير والتحقير.

والمفارقة بالذات هي أهم الأساليب، برأينا، التي تصيب الهدف أكثر من غيرها لأنها تنال من الخصم ومن الذات بطريقة لاذعة وتحقق كل الأهداف سواء في التندر أو التفكه والتجريح والتعبير عن الألم والحسرة والمرارة. ونحن نرى أنه الأسلوب الذي اعتمده شاعرنا في الكثير من أشعاره ودواوينه. وهي فن اللامباشرة في رأي النقاد، لأنها تجمع بين الأضداد فتثير القارئ فيما تحمله من مضمون مفاجئ ومثير يجملها روجر فولير ((Roger Fowler في نمطين وهما: مفارقة الموقف والمفارقة اللغوية، أو اللفظية ((Verbal Irony كما يترجمها عبد الواحد لؤلؤة عن د.سي. ميويك (D.C.Muecke). ولها شكلان المفارقة الساخرة والأخرى المأساوية. وتعتمد جميع أنواع المفارقات أسلوبا منهجيا في إبراز البون الشاسع بين اللفظ والواقع.

إني إذ أتحدث عن المفارقة كأسلوب أعي تماما ما قام به بعض الباحثين والدارسين من محاولات، لوضع حدود فاصلة بين مصطلحي السخرية والمفارقة، وأعي تماما مدى الصعوبة التي تعرضوا لها في محاولاتهم ودراساتهم لتحديد الاختلافات بينهما. ومع ذلك سأنظر إلى المفارقة كمنهج يتبعه سميح القاسم في إبراز حالات التناقض بين الأنا والآخر، وبين القوي والضعيف، وبين الضحية والجلاد، وبروز الجانب الساخر في المفارقة، كما ينعكس بوضوح في سربية "أنا متأسف" وفي غيرها من القصائد المتعددة.

وبما أن مفهوم المفارقة متعدد الأشكال كما يقول د.سي. ميويك ولا تعني اليوم ما كانت تعنيه في السابق، ولا تعني في قطر معين ما تعنيه في قطر آخر ولا في الشارع ما تعنيه في المكتب، فإني سأنظر إلى مفارقات سميح القاسم باعتبارها تتلاءم مع وضعيته الخاصة كفرد يمر في ظروف خاصة، وكفرد ينتمي إلى مجتمع له أيضا خصوصياته. كل ذلك ضمن مواصفات الزمان والمكان والظروف الاجتماعية والسياسية التي تمر بالمنطقة.

ما دفعني إلى ذلك هو الإحساس أن ما يضحك ابن أمة معينة لا يضحك ابن أمة أخرى، وما يثير العربي في صفات الشجاعة والكرم قد لا يلقى استحسان أمة أخرى. كذلك الأمر بالنسبة للمفارقة والسخرية، فسخرية ابن الرومي، على سبيل المثال، في التركيز على "العيوب" الخلقية والشكلية لا تروق الكثيرين منا اليوم، بينما سخرية المتنبي من الأحمق ستظل حكمة تتناقلها الأجيال:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

من خلال معاينتا للقصائد الساخرة في شعر سميح القاسم تبين لنا أنه يعمل على توظيف استراتيجيات الصوت واللغة لبث روح السخرية. فمن استراتيجيات الصوت نلمح بوضوح اعتماده على الموسيقى الشعرية الداخلية والخارجية، سواء من خلال القافية، أو التكرار، أو التجنيس الحرفي، ولعل خير مثال على ذلك النص التالي من قصيدة "ما من حوار معك":

"وهاجرتَ حزنا. إلى باطل الحق هاجرتَ
من باطلِ الباطلِ
ومن بابلٍ بابلٍ
إلى بابلٍ بابلِ
ومن تافهٍ قاتلٍ
إلى تافهٍ جاهلِ
ومن مجرمٍ غاصبٍ
إلى متخمٍ قاتلِ
ومن مفترٍ سافلٍ
إلى مدعٍ فاشلِ
ومن زائلٍ زائلٍ
إلى زائلٍ زائلِ" (مكالمة شخصية جدا، ص 71-72)

إن الشاعر في حالة غليان بسبب ما تعرض له رفيق دربه- محمود درويش- وهو يمر في طريق الآلام من بقعة لأخرى، ومن مهجر لآخر، ومن تشتت إلى تشتت، رمزا لما تعرض له أبناء شعبه، فانساب النص انسياب الماء، وجرى كالسيل حين يجرف كل ما يعترض طريقه من بشر ومن حجر. وقد ساهمت في ذلك حالة الجريان الشعري وكثافة الألفاظ والموسيقى والتكرار. تضافرت هذه العوامل كلها في آن معا للنيل من الذين يسخر منهم. وهم كثيرون، تلقاهم حيثما تنقلتَ من قطر لقطر، ومن مهجر لآخر، وكلهم يتشاركون بمجموعة كبيرة من الرذائل.

إن النص أعلاه ساخر ولاذع من خلال الخطاب المباشر، بالرغم من اعتماده على التلميح. هذه المباشرة فيها من القوة والتأثير ما يجعلنا نعلن أنها- المباشرة- هي مصدر قوة هذا النص. هنا بالذات نلاحظ كيف تمت عملية التفاعل ما بين الصوت والحدث، فأكمل أحدهما الآخر، فنضجت صورة المفارقة الساخرة.

وشاعرنا مغرم بموسيقى اللفظ رغم أنه يكتب قصيدة النثر أحيانا، أو، كما ذكرنا، يلجأ إلى النثر مازجا إياه ببقية الأشكال الشعرية، لكنه حين يكتب شعر التفعيلة فإننا نراه يعتمد كثيرا على الموسيقى حتى باتت، برأينا، ميزة من ميزات شعر "الغضب" كما يحلو لنا أن نسميه، نظرا لوفرة القصائد المتحدية الداعية إلى المواجهة دون هوادة منذ بداياته الشعرية. وربما كان المقطع التالي

نموذجا للتجنيس "الغاضب":
"قمر. رقم. قرم. رمق.
صقر. قرص. قصر. رقص.
دهم. هدم. مهد.
لمس. سمل. سلم.
رفع. فرع. عرف.
حلم. لمح. لحم. ملح.
منّ. نمّ.
دهر. هدر.
حسن. نحس.
شعب. شعَب. عشب. بشع.
فكّ. كفّ. ."Fuck off (كولاج2، ص17-18)

الشاعر فعلا في حالة غضب، فالنص في تقطيعه، وفي تجنيسه مرآة لحالته النفسية. وإن القارئ قادر على الإدراك أن هناك حالة تستدعي اللعنة. وقد جاءت الشتيمة، باللغة الانجليزية، كي لا تترك لنا أدنى شك أن الحالة العبثية التي نواجهها تستحق منا اللعنة، لأنها تتسم بالكذب والمراوغة. فهل نأى الشاعر بنفسه عن استعمال الشتيمة بالعربية، وهي "غنية" بها؟ أم أن السخرية عينها هي التي فرضت عليه هذا المصطلح الانجليزي الشائع؟

مهما يكن من أمر فإن الشاعر يرى بحدسه أن الكثيرين يساهمون في تفكيك هذا العالم كتفكك النص أعلاه. مفاوضات "سلمية" تراوح مكانها، هدم، تشرذم وبعثرة كبعثرة هذه الكلمات. إن النص أعلاه ليس يتيما بين نصوص القاسم، وبالتحديد في ديوانه كولاج2، فقد تكرر هذا الأسلوب في نفس الديوان، ولكن المفردات هذه المرة قد وردت في غالبيتها باللغة الانجليزية وختمت ب"دبليو. دبليو. دوت. كوم..". (كولاج2، ص33)

إنني أرى أن توظيف الموسيقى الشعرية، لدى القاسم أشبه بالموسيقى التي توظف لخدمة المقاطع الساخرة في الأفلام وفي المسرح. وما ينقص الشعر هو الحركة المرئية فقط، تلك التي يعتمد عليها الممثل والمخرج. أما القاسم فإنه يوظف الصوت والكلمة، فتتمازج المفارقة اللفظية بالموسيقى الشعرية وتتفاعلان وتتشاركان في خدمة السخرية.

تبرز السخرية في سربية "أنا متأسف" ويبرز الغضب من خلال تكرار التعبير "أنا متأسف"، ومن خلال الموسيقى المنبعثة من الجناس والتجنيس والقافية والتكرار. هذه العوامل الصوتية هي ميزة بارزة من ميزات شعر القاسم الساخر. ونؤكد مرة أخرى على أنه مصر على توظيفها حتى باتت برأينا نوعا من المفارقة التي يتخصص بها سميح القاسم. فإن كان المنظرون والباحثون قد قالوا بأن هناك مفارقة لغوية ومفارقة موقف، فإننا نرى أن عامل الصوت وسيلة مميزة في سخرية القاسم كما برزت في قصيدة الانتفاضة "رسالة إلى غزاة لا يقرأون" التي اصبحت تعرف ب "تقدموا":

"حرامكم محلل
حلالكم محرم
تقدموا
بشهوة القتل التي تقتلكم
وصوبوا بدقة لا ترحم
وسددوا للرحم إن نطفة من دمنا
تضطرم
تقدموا
كيف اشتهيتم واقتلوا
قاتلكم مبرّأ
قتيلنا متهم
...
فاسترسلوا
واستبسلوا
واندفعوا
وارتفعوا
واصطدموا
وارتطموا
........." (المجلد الرابع، ص408-409)

إن هذه القصيدة نموذج للأسلوب الساخر الغاضب، حيث يوظف الشاعر المفارقة بشكل بارز من خلال تكثيف أفعال الأمر والطلب الموجهة للمخاطَب بما فيها من تحد بين الأنا/نحن وبين أنت/أنتم، فيبرز التضاد في أوضح صوره بين المخاطِب والمخاطَب كل من موقع مناقض للآخر.

تحدث الدارسون عن دوافع السخرية لدى الأدباء فوجدوها عديدة، ورأوا أن الغضب من طبائع الإنسان، وقد يلجأ نتيجة ذلك إلى الشتيمة والسباب للتفريغ عن ذاته. أما الأديب فإنه يؤثر، في معظم الأحيان أن يخفي الغضب في داخله، فيلجأ إلى ما يشبه البسمة لينال من الخصم، وبرأينا أن هذه البسمة قد تكون بسمة صارخة. والسخرية كما تتجلى أعلاه في أبرز صورها وحالاتها، ليست مما يمكن أن نسميها المضحك المبكي بل هي هزء وثورة وتحد وغضب ومواجهة مباشرة.
لا يحسبن أحد أننا في تركيزنا على عامل الصوت في شعر القاسم نقلل من أهمية المفارقة اللغوية. إننا نرى بوضوح أن الشاعر في النص أعلاه، كما هو الأمر في سربية" أنا متأسف"، وفي معظم قصائده الساخرة الأخرى إنما يعتمد على المفارقة الساخرة والمأساوية التي تبرز بوضوح، كالرسم الكاريكاتيري، من خلال إبراز حالة التضاد، كما تتجلى من خلال اللغة أحيانا، ومن خلال الحدث أحيانا أخرى.

تحدث ميويك وآخرون عن المفارقة الساخرة وعن المفارقة المأساوية، وبرأينا أن القاسم يسعى نحو المأساوية أكثر مما يسعى نحو المفارقة الساخرة في دواوينه الأخيرة. وإن كان من الصعب جدا أن نجزم أننا قادرون على التمييز بينهما، لأن المفارقة المأساوية هي أيضا مفارقة ساخرة. ففي نصوصه الأخيرة تبرز لهجة المرارة أكثر مما تبرز لهجة "الهجوم" و"الانقضاض". ولا يحسبن أحد أنها تميل نحو الوهن، بل هي سخرية أولا وسخرية ثانيا وعاشرا، وهي لاذعة وهازئة إلى أبعد الحدود. هذه السخرية اللاذعة نابعة من قوة المفارقة التي تقيم مقارنة بين الأنا والأنت في اختلاف التصور والرؤى ووجهات النظر. وما يعطيها هذا الزخم الحقيقي هو تبادل المواقف بين الجاني والمجني عليه. لذلك فإن سر قوتها يكمن في مفارقتها المأساوية.

فلو حاولنا أن نقيم مقارنة بين قصيدة "تقدموا"، وبين أي مقطع من سربية "أنا متأسف" لوجدنا أن الفرق يكمن في اللهجة، وفي الموقف الذي ينطلق منه المتكلم. ففي الأولى كانت الانتفاضة تعبيرا عن غضب جماهيري، يواجه فيها الحجر مدفعا ودبابة، وكان الطفل محاربا بمقلاعه فاختار الشاعر لهجة التحدي والمواجهة الحماسية المباشرة. أما في الثانية فهو محاوِر حكيم يتحدث بهدوء وروية.

لقد خصص سميح القاسم سربيته "أنا متأسف" للسخرية منذ عنوانها، فمن يُقدِم على التأسف من الآخر فهو من وقع في خطأ، سواء كان هذا الخطأ مقصودا أو عفويا. شاعرنا يبحث عن "الأعذار" التي تفرض عليه هذا الموقف، فإذا بها ليست أعذارا بل هي سهام جارحة موجهة للآخر الذي يريده ميتا لا حيا، بينما رئتاه لا تزالان تستنشقان الهواء. وخصمه يريده أصلا أن لا يكون قد ولد ورأى النور، فيعتذر عن حقيقة ولادته "المرة". وخصمه يريده مستسلما لكنه يعلن اعتذاره لأن هذه ليست من شيم الشرفاء.:

"سعيتَ. شقيتَ. تعبتَ كثيرا لتتقن قتلي
وبذرتَ مالا كثيرا
لذبحي. وذبح صغاري. وأهلي
وذبح ترابي وأشجار حقلي
وصوتي ولوني وشكلي
وصورة وجهي وظلي
وموتي يصلي
لأجلي
فقل لي
متى سوف تقبل مني اعتذاري
لأني ولدت
حلفت. وما زلت أحلف
أنا متأسف" (أنا متأسف، ص9-11)

يعترف البريء أمام خصمه ب "ذنوبه" التي لم يرتكبها فينال من خصمه بهدوء وروية. إن قوة المفارقة في ديوان "أنا متأسف" تكمن في جعل "القوي" القادر على كل شيء يقف في قفص الاتهام بطريقة غير مباشرة. فلا يمكن لأي أسلوب أن يعبر عن هذه الحالة المأساوية إلا المفارقة، فالمجني عليه هو الذي يقدم الأعذار والتأسف عن كل ما بدر منه لأنه قد أرهق الخصم وأتعبه، لأسباب عديدة منها: أنه يحب الحياة ويأبى الاستسلام والخنوع والخضوع. ويعتذر، ربما لأن له أما وأبا كغيره من البشر، ويعتذر لأنه يرهق خصمه، ولأن خطأه الأكبر يكمن في أنه قد ولد. ويعتذر لأن له أحلاما يسعى خصمه إلى ذبحها. لكنه لا ينفك أن ينقض على خصمه الذي يشهد بالزور، ويحارب مجرد وجوده، ويملأ بلاده قبورا، ويعد له كفنا من جلد جده ويهدم جسور التعايش.
والتكرار ميزة بارزة من ميزات الشعر الفلسطيني عامة، وقد وظفها شاعرنا بشكل لافت من خلال المزج ما بين التكرار والتساؤل لتصبح السخرية أكثر تأثيرا إذ تتداخل عوامل الصوت واللغة في التضاد والتناقض حيث تتولد حالة من الفورة والغليان.

لقد رأينا أن القاسم يصوب سهام سخريته في اتجاهات ثلاثة رئيسية وهي: الأنا الفلسطينية في ماضيها وحاضرها. ولكنها ليست جلدا للذات، لأنها تميز بين فئتين من الناس، تلك التي لا تتوانى عن الوقوف في وجه الظلم، المستعدة دائما للثورة والانقضاض والتحدي، وتلك التي لا تحرك ساكنا في خدمة قضيتها. أما الجهة الثانية فهي فئة الحكام العرب وكل من يسير في إثرهم الذين يؤثرون الخمول والتنازل عن الدفاع عن الحق في العيش بكرامة. أما الجهة الثالثة فهي غير العربي الذي يتعالى على الفلسطيني مدعيا أنه حضاري وصاحب حق بينما الآخر متخلف جاهل.

وسخرية القاسم موجهة في أغلبها بشكل مباشر نحو الآخر -لا الذات الفلسطينية- موظفة أساليب عديدة مثل النداء والخطاب المباشر والاستفهام، وهي تتسلح بالموسيقى والصوت من خلال التكرار والجناس والتجنيس والقافية، فضلا عن المقاطع القصيرة، حتى بات عامل الصوت استراتيجية متفاعلة مع المفارقة.

وأسس سخرية القاسم تقوم على المفارقة في التضاد والتعارض ما بين القول والفعل، وما بين الحقيقة والواقع. فيعمد شاعرنا إلى خلق صورتين متناقضتين، أو وضعين متضادين، أحدهما الجاني والآخر المجني عليه. وقد يقوم بينهما حوار، إما مباشر أو مضمر. ويبرز الصراع ما بين الظالم والمظلوم، القوي والضعيف، المدجج بالسلاح والأعزل، المغرور بنفسه والمتواضع الواثق بنفسه وبمستقبله.

وسخرية القاسم في معظمها تمتزج بلهجة الغضب، وفيها الكثير من التحدي الصارخ. ثم تميل قصائد السخرية في المرحلة الأخيرة نحو الأناة والصبر والجلد، ففيها نبرة مأساوية مطعمة بالفكر والرؤى والفلسفة. ويتحول الغضب من حالة الهيجان إلى حالة التروي والحكمة.
ويظل دافع السخرية هو ذاته في كل الأزمنة: ظلم وتعال، بطش وإجحاف، تراجع وهروب من المواجهة، انكسارات متتالية. فجاءت لتسد هذا العجز وهذا التقصير ولتزرع بذرة التفاؤل أملا بمستقبل مشرق مزهر رغم ما في الحاضر من مآس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى