الأربعاء ١٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١٧
بقلم رياض كامل

«أنا هو الشاهد»وعلاقة العنوان بالنص

تحدث كثير من المنظرين عن أهمية العنوان ودوره، فرأى بعضهم أنه يحمل ملخصا لما جاء في المؤلّف سواء كان رواية، قصة، ديوان شعر، قصيدة أو كتابا. وهو عتبة النص، يرتبطان ارتباطا عضويا لا ينفصلان أبدا، يواجهه المتلقي مباشرة قبل ولوج النص، فيستفزه ويثير لديه مجموعة من التساؤلات، ويحث القارئ على كشف دلالاته وأبعاده. إذن فالعنوان عبارة عن مرسلة نحو مرسل إليه يتلقفها مباشرة، أحد أهدافها الإغراء والتحفيز. وهو يأتي لاحقا بعد أن يكون المبدع قد ارتاح من عناء التأليف وأخذ قسطا من الراحة. فهل يتحقق لنا ذلك بعد الاطلاع على مجمل ما جاء في ديوان "أنا هو الشاهد" (2001) للشاعر حسين مهنا (1945) ولماذا اختار بالتحديد هذا العنوان؟
بعد الاطلاع على مجمل قصائد الديوان يتبين لنا جليا الدافع الحقيقي لاختياره هذا العنوان؛ فالشاعر يرى أن له حقا تاريخيا وحقا وجدانيا وعاطفيا تتعرض كلها للضياع والتزييف فيقف مدافعا عن رؤياه الفكرية، ويقيم حوارا مع طرف آخر حول ملكية الزمان والمكان معلنا بحزم: "أنا هو الشاهد". يبدو لنا أن هذا العنوان غير مبتور عما سبق من دواوين ومن قصائد، كما يتأكد لنا، بعد اطلاعنا على ما صدر لاحقا، أن الفكرة تعود على ذاتها في الدواوين اللاحقة. لكننا اخترنا أن نتركز في ديوان واحد لكي نرى إلى مدى التلاحم بين العنوان وبين نصوص الديوان نفسه.
يؤكد الشاعر في معظم قصائد هذا الديوان أن هناك اعتداء على ذاكرته وذكرياته غير القابلة للنسيان، لأنها تعيش معه ويعيش معها. تتخيله يقف أمامك هائجا ثائرا صارخا، بكل ما يحمل من إيمان: إن هذا المكان لي، وهذا الماضي والحاضر والمستقبل لي. وتتبين لنا الصورة أكثر وضوحا بعد اطلاعنا على عناوين دواوينه الصادرة قبل هذا الديوان وبعده مثل: "وطني ينزف حبا" (1978)، "أموت قابضا حجرا" (1986)، "قابضون على الجمر" (1991)، "ليس في الحقل سوسن للفرح" (1995)، "فرح يابس تحت لساني" (1996)، "على سرير أبيض" (1998)، "تضيع الخيمة يتسع القلب" (2007) و"هذا العالم ليس بريئا" (2014). نستشف من هذه العناوين نبرة العتب والغضب على غبن الآخر وظلمه، فينبري مدافعا عن حقه وعن رؤياه لرفع الضيم والتجني من ناحية، وخلق حوار يساهم في جعل الحياة أكثر حلاوة وتسامحا من ناحية أخرى.
يلاحظ القارئ أن نبرة الحزن والألم تسيطران على العناوين منذ ديوانه الأول "وطني ينزف حبا" وحتى ديوانه الأخير. فضلا عن ذلك، وبالرغم من ثقل الهم والأسى، فالعناوين تحمل كما من الحب وكما من الغضب، في آن معا، يتوزعان على مجمل دواوينه، فتتأكد من أن الشاعر قد اختط له طريقا منذ بداية مشواره الأدبي وحتى اليوم؛ يرى أن "هذا العالم ليس بريئا"، ويجد نفسه ضحية هذا العالم المنحاز ضده، فيعلن أنه لن يتنازل ولن يتراجع قيد أنملة عن حبه وعن حقه في الحياة الحرة. فكيف يتواجه مع الآخر؟ وأي حوار يقيم معه؟ وما هي حجته الأقوى في الدفاع؟
***
قلنا إن من يقرأ عناوين الدواوين يتخيل الشاعر هائجا صارخا، لكننا بعد الدخول في أعماق النصوص نكتشف أن ما يميز نبرة حسين مهنا الشعرية هو الهدوء الهائج، فلا يلجأ إلى الصخب والنبرة الخطابية، بل إلى النبرة المتأنية المتروية، رغم ما يشعر به من ضيم يلاحقه منذ عقود، كما يتجلى لنا واضحا من العناوين، وكما يتأكد لنا بعد متابعة نصوص قصائده. يحافظ الشاعر على نفس الموقف بعناد، منذ ديوانه الأول، دون التراجع عن القيم والمبادئ التي أعلن عنها منذ بداية مشواره.
يرى القارئ المتأني أن حسين مهنا يلتصق بالأرض وما عليها، يفرحان سوية ويحزنان سوية. ورغم انشغاله بعدة قضايا؛ اجتماعية فكرية وسياسية، فإن أكثر ما يؤرقه هو عاملا الزمان والمكان. يرى أن الزمن يبدل شكل المكان وصورته ولونه ورائحته، فينبري للدفاع عنه كي يعيده إلى سابق عهده فيصطدم بواقع مر أليم، فيعلن "أنا هو الشاهد"، لقد رأيت بأم عيني وشهدت ما دار وما يدور؛ رأيت الزمن يتبدل ورأيت المكان يلبس ثوبا آخر غير مألوف علي/علينا. يقيم الشاعر حوارا مع الآخر وروايته فيرفضها ويفندها، ويرفض أي حجة أخرى تتناقض مع ما يراه وما رآه هو عبر مسيرته الطويلة فيعلن بصوت لا لبس فيه "أنا هو الشاهد".
عامل الزمن يتعب جسده ويهد من حيله ويبدل من شكله ومشيته ويحد من مشيئته ومن مقدرته، ينظر حوله فيرى معالم المكان من شجر وحجر وبشر تتبدل وتتغير، فيعتريه ألم حارق. والمكان في عرف البشر وفي عرف الفلاسفة والمفكرين ليس مجرد مكان جغرافي بل هو فعل انتماء وهوية نؤثر فيه ويؤثر فينا في عملية متبادلة نحافظ عليه ليحافظ علينا، وهو مرتبط بوجدان الإنسان يعيش فيه ذكرياته، ويحتمي به عند الشدائد، لذلك ليس سهلا على الإنسان أن يرى ما يحصل من تغيير وتبديل، قد تطال الأسماء أحيانا، مما يجعل المرء يشعر بالغربة في ظل مكانه:
"كانت هناك قرى تعبق بشذا فلسطين.
قرى تفردت بعرائش سطوحها...
بكرومها..
ببساتينها..
بأهلها الطيبين
أحدق الآن في وجه بلادي
أحدق.. أحدق..
فلا أبصر سوى منمنمات..
تناثرت هنا وهناك وهنالك..
على جدران ذاكرة باهتة" (أنا هو الشاهد، ص7)
إن القارئ المتأني قادر على رؤية نبرة الحسرة والأسى أثناء عملية قراءة النص، وذلك من خلال توظيف علامات الترقيم وتكثيف النقاط بين مقاطع النص، فنتخيل الشاعر يخاطبنا بهدوء وروية، لكن بقلب دامع هائج. لقد رأى ما حصل من تغيير في ملامح المكان وصورة الإنسان، وهما وجهان لعملة واحدة لا ينفصلان. تتحدث هذه القصيدة عن شكل البلاد عامة، فيرى الشاعر إلى ما حل بها من تبديل طال البشر والحجر فكانت أشبه بمقدمة تبوح بما سيأتي لاحقا من تفاصيل في قصائد أخرى. يصاب الشاعر بالهلع وتهتز مشاعره وأحاسيسه وينتفض رعبا من الآتي. إننا نرى أن هذا التصوير لا يصدر إلا عن فلاح عاشر الأرض والتراب، وتكحلت يداه بلونه ورائحته، ونكش بمعوله حول شجره فشم رائحة التراب وانتشى بها. والفلاح صبور تعركه الدنيا ويعركها، ينظر إلى حقله وأشجاره بعينين ملؤهما الأمل، لأنها مصدر رزقه، يبيع ثمرها ليدخل الفرح إلى البيت في كل موسم من مواسم القطاف والحصاد.
***
حسين مهنا شاعر حساس إلى أبعد الحدود، سريع التفاعل مع كل مشهد يعرض أمامه، يتوق إلى أيام مرت وانقضت، فيحن إلى الأقرباء والجيران، يتمنى لو يقبض بكلتا يديه على عنق الزمن كي يلويه لعله يعود به إلى تلك الأيام، إلى الوراء، إلى ناسه وأهله وأحبته وأرضه وحقله وفضائه، وإلى نجومه وسمائه وأحلامه. لقد تبدل كل شيء؛ جبال بلاده لم تعد كما كانت، وديانه فقدت أسماءها وماءها، واللغة باتت هجينة. فيلجأ إلى إنعاش الذاكرة وتفعيلها فتبدو في عين القارئ ذاكرة غنية جديرة بأن ترسخ في وجدان الناس. والذاكرة ليست مجرد ذكريات إنما هي جزء من هوية ومن كيان يجب العمل على صيانتها وتجديدها ونشرها لتصبح ذاكرة جمعية لا ذاكرة فردية، وهي ليست أقل أهمية من الدفاع عن المكان، بل إن الذاكرة هي المحفز على التمسك بالمكان والزمان وبكل ما يتعلق بهما.
يتابع الشاعر مع ذكرياته يستعرضها أمامه، ويعرضها علينا كي نتشارك معه في المشاعر وفي الرؤية والرؤيا، يتذكر أمورا كثيرة؛ حكايات، نوادر وقصصا من عالم قرية جليلية، فإذا بها أشبه بشريط سينمائي عميق وواسع، ثري ومؤثر. يعود إلى عصر الشباب ليعرض لنا قصة حب فلسطينية كان هو بطلها:
"أمرّ..
هل القلب يطوي الدروب
لدار الحبيب
أم أن الدروب تلم خطايا..؟!
أمرُّ..
وأذكر يوم وثبتُ لأقطف زهر القرنفل
كيف نقزتِ- وكنتِ وراء الأصيص-
وصحتِ:
تلطف!! فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا؟! (أنا هو الشاهد، ص11)
إن القصيدة عبارة عن قصة حب فلاحية تروي لنا نزق العاشق وتسرعه في دخول حديقة الحبيبة وما تحمله هذه المغامرة من مخاطر. تتكرر زيارة العاشق، تقلق الحبيبة فتطلب منه مزيدا من الحذر والإسراع في الحل قبل "قول الوشاة" فيعدها بأن تقوم والدته بزيارة عاجلة لوالدتها، كخطوة أولى "قبل الغروب لتقطع قول الوشاة"، آملا أن يقر والدها بأنه "زين الشباب" يليق ب"زين الصبايا"، كخطوة ثانية سيقوم بها والده. يتأتى له ذلك بعد لقاء الوالدين فيطير فرحا.
لقد اعتدنا أن نقرأ قصص العشاق وحكاياتهم في كتب الأدب الشعرية والنثرية، وها نحن إزاء حكاية عشق فلاحية فلسطينية لها نكهتها ولها ميزاتها بكل ما تحمله تلك الأيام من عادات وتقاليد، وبكل ما تحمله من بساطة وبراءة. لكنه لا يترك القارئ يفلت من عقاله إلا بعد أن "يقنعه" بأهمية مثل هذا الزواج وهذا الارتباط:
"هذا الجليل يحب الزغاريد
هذا التراب الزكي شغوف
بمن يزرعون
ومن يحصدون
ومن يعشقون
ومن يورثون الحياة انتصارا
لجيل جديد" (أنا هو الشاهد، ص13)
إن هذا العشق يتأتى ويتحقق في ظل مكان له دلالته، إنه حقل الحبيبة أو حديقة بيتها، جزء من القرية بعاداتها وتقاليدها في تلك الأيام. هذا اللقاء ليس مجرد لقاء بين شاب وفتاة مراهقين وقعا في الحب، بل إن هذا اللقاء وهذا القران جدير بأن يتحقق كي نحافظ على امتداد جذور الفلاح أكثر وأكثر، ولن يكون هذا الشاب جديرا ب"زين الصبايا" إلا إذا رعى الأرض وشق تربتها، وأنجب نسلا يعشقها، كما عشق الوالد أمهم وأرضهم. إن الأرض بحاجة إلى نسل جديد يكفل استمرارية الحياة، واستمرارية عطاء الأرض التي لن تعطيك إلا إذا أحببتها وأحببت ما عليها.
***
تحدث المنظرون عن أهمية ارتباط عاملي الزمان والمكان بحيث يكاد مصطلح الزمكانية يغلب على استعمال العنصرين منفصلين عن بعضهما بعضا، ونحن نرى أنه لا يمكننا الحديث عن الأدب الفلسطيني شعرا ونثرا دون ربطه بهذين العاملين. ونعلم أن اللغة هي الوعاء الذي يحمل جميع العناصر وجميع مركبات العمل الأدبي. لقد لفت نظرنا مدى القلق الذي يعتمل في قلوب الأدباء الفلسطينيين وقلقهم وخوفهم من ضياع لغتهم. فكتبوا شعرا باللغة العامية، وكتبوا روايات تحرص على توثيق اللغة "العتيقة". واللغة، ككل كائن حي، متغيرة ومتبدلة، وفق تغير الزمان والمكان، وهي جزء من هوية تحمل مواصفات الناطقين بها.
إن أكثر ما يقلق الأدباء الفلسطينيين في كل أماكن تواجدهم هو فقدان الأرض، لأن فقدها يعني فقد ما عليها من كيان ووجود ومن ماض وذكريات، ومن مستقبل وأمل، فهي القادرة على صيانة الوجود والهوية. قال الفلاسفة إن الإنسان خاسر في مواجهته لعاملي الزمان والمكان، ونحن نرى أن لا سلطة أبدا للإنسان على عامل الزمن إذ لا يستطيع أن يتسابق معه أو أن يوقف تحركه، لكنه قادر على المحاربة من أجل المكان والذود عنه. وهذا ما تقوم به جميع الشعوب التي تسعى للتحرر والانعتاق. لكنني لا أعتقد أن هناك أدبا لأي شعب آخر يسعى جاهدا لتوثيق اللغة كما هو في الأدب الفلسطيني. إننا حين نصر على هذه الرؤية نعتمد على ما قمنا به من بعض الدراسات حول إنتاج بعض أدبائنا، وقد رأيناهم يصرون على توثيقها، ولا نقصد باللغة هنا مفرداتها فحسب، بل دلالاتها وارتباطها بعالم الفلاح والأرض والمسكن.
ولغة حسين مهنا، في كل ما كتب وفي كل ما نشر هي لغة الفلاح الفلسطيني، يسعى جاهدا، من خلالها، إلى ترسيخ التراث والجذور والعادات والتقاليد، كما ينعكس في قصة العشق الفلاحي التي أتينا على ذكرها. ولم يكن صدفة تسرب تلك الكلمة العامية "نقزت" إلى النص، إذ لا توجد أية مفردة بقادرة على تصوير الوضعية أفضل منها.
لو عدنا إلى القصيدة وقمنا بقراءتها قراءة متأنية لرأينا مدى حرص الشاعر على عرض الأحداث - كون القصيدة قصصية – بلغة تتلاءم مع الشخصيات في إطار الزمكانية، وتوظيفه مفردات لصيقة بعالم الفلاح الفلسطيني. فبدا النص قريبا من الواقع قابلا للتصديق والتواصل مع المتلقي. بطلا "قصتنا" فلاحان يعيشان في قرية فلسطينية لها "أصولها" في التعامل مع العاشقين، فيأتي العرض متسلسلا متطابقا مع ما تنص عليه العادات في الالتزام بخطوات يتبعها الأهل في ذلك الزمان.
لقد تحدث المنظرون عن اللغة ودورها في الأدب، وعن مهارة الكاتب في توظيف لغة أدبية مغايرة قادرة على تحديد مواصفات الشخصيات ضمن زمكانية محددة، وتحدثوا عن اللغة الطبقية والفكرية، وعن لغة أصحاب المهن والصناعات، وعن لغة الساعات والمناسبات، وقاموا بتطبيق ذلك على العمل الروائي. ونحن نرى أن الشعر الفلسطيني قد تمكن من خوض تجربة فريدة، نظرا لما مر به الإنسان الفلسطيني عامة، فتكون لدينا رصيد كمي ونوعي يصور حياة الفلاح الفلسطيني بكل مواصفاتها وحيثياتها، وحسين مهنا يؤكد أنه الشاهد على هذا التحول فيعمد عن سبق إصرار إلى صيانة هذا العالم خوفا من نوب الزمان، وتمكن من خلق لغة فلاحية فلسطينية جبلية ترتبط بحقبة زمانية معينة، كما يتجلى في المقطع التالي:
"وانتظرنا
كبرنا..
وأحلامنا لولبت في الفضاء السحيق
جناحين من ضحكة الأرجوان
وغابت
كما غاب عند المساء الخريفي
شدوُ الهزار الحزين
وأفراحُنا..
والحداءُ
ورجعُ الزغاريد في نشوة الحاصدات
وأزجالنا
وتشهد كل الدروب
ودربُ الحياة الطويلُ
ووقعُ خطانا
بأنا شربنا الطفولة مثل الدواء
لنحيا بها
أو بما تُنبت الأرض - بقلا
وخبزا حلالا (أنا هو الشاهد، ص62)
إن اللغة كما قلنا ليست مجرد مفردات يمكن أن نقوم بتعدادها لننسبها إلى عالم القرية في إطار الحيز الزمكاني فحسب، بل إن اللغة في مجملها ذات دلالات ترتبط بعالم معين وبيئة محددة، مؤمنين بما قاله المنظرون، وبالذات ميخائيل باختين وتودوروف وبيير زيما، الذين رأو أن اللغة لصيقة بالمكان والزمان بمدى التصاقها بالشخصيات، فلكل فئة لغتها من حدادين وحلاقين وفنانين ونجارين وبحارة ومثقفين وغير مثقفين، كما هو الأمر بالنسبة للفلاحين. ونضيف بأن اللغة قادرة على خلق عالم أدبي قادر على التفرد عن غيره من العوالم الأخرى. والشاعر حسين مهنا نجح في خلق عالم الفلاح الفلسطيني ضمن حيز زماني محدد، يرفض أن يغيب عن باله أو أن يُغَيّب.
***
يصر الشاعر على أنه الشاهد على خصوصيات المكان بشكله وهيئته وأسلوب معيشته، لذلك نراه يعرض لحياة القرية وأهلها بطريقة تقترب من التوثيق المكاني بكل معانيه ومعالمه ونباته وشجره وزهوره ووروده ولغته وشخوصه. فمن أهم شخصيات القرية هو الفلاح، ولكن للراعي دورا هاما، لذلك لا ينسى أن يحدثنا عن هذا الراعي الذي يسعى مع قطيعه صباحا ليعود بها عند المساء وقد شبعت من الكلأ وارتوت من ماء في القلل:
"... ترى هل يعود قطيع من المعز يسعى؟!
مع الصبح يسعى ليرعى
ويؤنس تلك القلل؟!
فآها لذكرى قطيع طواه الزمان
وآها لأسعد- راعي القطيع –
وأسعد هذا (يشبّب) طول النهار
على السن حينا
وحينا على شفة لا تمل الجذل" (أنا هو الشاهد، ص18)
إنها لوحة حية شبيهة في دقتها بالتصوير السينمائي مدعومة بلغة فلاحية، وصورة لراعي القطيع الذي كان من عادته أن يصطحب شبابته يعزف عليها ألحانا شذية تبعث صداها من سفح، لواد، لتلة يستأنس بها هو وقطيعه ورفاقه من الرعيان، وهو حين يكون عازفا ماهرا فإنه يعزف بالذات "على السن". وكان السامعون يتمايلون ويهيجون صخبا وطربا حين يرون عازف شبابة يعزف "على السن"، فليس كل عازف بقادر على الوصول إلى مثل تلك المهارة. وكان الراعي حين يرى تجاوب الحضور معه ينتشي فرحا ويروح يلون في عزفه تارة "على السن" وأخرى على الشفة وهكذا دواليك. إن الشاعر يوظف اللغة الفلاحية بمفرداتها ودلالاتها فيعطينا صورة طبق الأصل عن أيام مرت وانقضت لكنها ما زالت تعشش في زاوية من زوايا الذاكرة تعيد الشاعر إلى أيام البراءة فيتمنى لو تعود، وكي تكتمل الصورة يأتي الشاعر على ذكر اسم الراعي ليؤكد للمتلقي أن ما يقوله ما هو إلا الحقيقة بعينها، فيلقي الاسم بعينه شهادة على صدق قوله.
تتماوج ذاكرة الشاعر وتغور في الماضي، لكن الزمان يأخذنا إلى الأمام، فتتصارع ذاكرة الماضي مع هذا الزمان وفعله لتفرض نفسها عليه وتوقفه ((pause، تماما، كما يفعل المخرج السينمائي حين يفرض على الزمن أن يتوقف لترصد الكاميرا حدثا يعود إلى زمن قد انقضى. ومن أهم هذه الوقفات التي يشهد عليها الشاعر هي ذكرى جده. وللجد في كل الآداب العالمية وفي كل مشهد إنساني دور عاطفي هام تختلف نكهته من شعب لآخر، وفي الأدب الفلسطيني هو ذاك الذي يحب إلى درجة نسيان الذات متنازلا عن كل ما يحب لأحفاده، ويحمل لهم في فكره حكايات مسلية، وفي جيبه سكاكر يتحلون بها، كما ينعكس في قصيدة "نوستالجيا" (ص34-39) التي يقول فيها:
"وفي الشتاء كان ينزوي
في قرنة دافئة
يستقبل الغمام شاكرا
وشاكرا يستقبل المطر
وصامتا تراه طول يومه
 عن حكمة-
يقلب الجمار ساعة
وساعة يقلب الفكر
وحين كان يجمع المساء شملنا
بشمله
هناك كان يجملُ الحديثُ
يعذب السمرْ
وكان إذ يسألني:
تحبني؟!
أجل أجيبُ
يا حبيبُ
يا طبيبُ
يا أحبّ من عرفت من بشرْ
وكيف لا أحبه؟!
وهو الذي يجيئني
بما يلذ للطفولة العجفاء
من مُلبَّس
وكل ما يُدس في الجيوب
من سكاكرٍ
وكل ما يطيب من ثمر" (أنا هو الشاهد، ص35-36)
لسنا بحاجة للعودة إلى نظريات أدبية حديثة أو قديمة نعتمد عليها كي نقوم بتحليل النص السابق، فنحن إزاء مشهد عاطفي فلاحي فلسطيني قادر على اختراقنا حتى العظم بفضل صدق التصوير وبساطة التعبير. وهذا هو أحد أهم جماليات شعر حسين مهنا، لأنه يستطيع أن يتواصل مع القراء على اختلاف مستويات تلقيهم، وقادر على دغدغة مشاعر أجيال عدة. لو عدنا إلى القصيدة كاملة لرأينا أن الشاعر يعود إلى أيام الطفولة كشاهد خاض التجربة مع جده هو، فحدثنا عنها فانعكست أمامنا صورة الجد الطيب القلق الذي يقلب جمر النار وينشغل بالتفكير بهموم الحياة بعد ما خاض من تجارب جعلته أكثر حكمة، ويدور حوار بين الجد وحفيده في غاية الرقة والبساطة والبراءة يعبر عن العلاقة الأبدية التي تجمع بين الجد والحفيد و"ما أغلى من الولد غير ولد الولد".
***
حسين مهنا شاعر قلق يحمل على كتفيه هموما إنسانية يكررها في الكثير من قصائده ودواوينه داعيا إلى تحقيقها للحفاظ على العيش الحر الكريم في كل بقعة من بقاع الأرض بسلام وطمأنينة، عبر فتح حوار مع الآخر. نراه من أجل ذلك يقيم مقارنة بين ما قام به هو، وبين ما يقوم به الآخر فيبدو البون شاسعا بينهما، كما يتجلى ذلك في قصيدته الأخيرة التي يختم بها ديوانه بعنوان "لي موعدي في انتظار الحياة":
"حملت الحياة على راحتيّ
وسرت على مهل أنثر الحب والشعر
سرت.. سرت.. وسرت..
أنا أستزيد الحياة حياة
وأنتم تشدون خيلا
وتبغون حتفي..
إلى أين هذا الطرّاد الطويل.. الطويل.. الكليل؟!
فما من مكان تركتم
أمد به آمنا قامتي
وما من زمان كريم تركتم
لأخطف بعض الدقائق
ألقي على صمتها هامتي" (أنا هو الشاهد، ص94)
لم يترك الشاعر لنا أي مجال للشك أن ما يقلقه وما يؤرقه هو الاعتداء على المكان والزمان اللذين لن يشعر بالأمن والأمان بدونهما، فأدرك أن الأرض وما عليها قد سحبت من تحت قدميه، وأن الزمان قد تسرب من بين أنامله، فلم يتبق له حتى وقت للتفكير والتأمل. حسين مهنا قلق من حالة التناقض بين ما قدمه هو وما قدمه الآخر، لكنه لم يتنازل ولم يتراجع، بالرغم من كل ما حدث، عن مد خيوط التواصل. يعرض بكلمات موجزة مسيرة تمتد عصورا وزمنا طويلا تبرز هذا البون الشاسع بين ما قام به من نشر الشعر والحب والحياة، فيما "أنتم تشدون خيلا" متهيئين للقتال. هنا، برأينا، تبرز صورة الفلاح العريق في صبره وجلده وقوته، دون الانفلات من عقال الحكمة والتروي. الشاعر هنا يخرج من إطار الذات إلى الإطار العام، فحمل رسالة الكل ينقلها للآخرين يبرر موقفه، بحكمة، وهو الساعي إلى السلام والمحبة والحياة، بينما الآخر يعد للقضاء على الحب والشعر والحياة.
ذكرنا، أعلاه أن الشاعر يقيم حوارا مع الآخر، نعود ونؤكد أن هذا الحوار مفتوح منذ أكثر من قرن حول الرؤيا التاريخية والفكرية والفلسفية، وسيظل هذا النقاش مفتوحا على مصراعيه ما دام الخلاف قائما وما دام الحل بعيدا عن متناول اليد، لكننا نرى أن حسين مهنا قد عرض حلا يحافظ على نشر الحب والفرح والشعر، ووجه اللوم للآخر الذي لا يتجاوب مع عرضه ويلجأ إلى أسلوب آخر مناقض.
يوجه الشاعر أصابع الاتهام لهذا الآخر الذي بدّل معالم المكان ويحمله مسؤولية حالة الاغتراب بينه وبين أرضه وقريته ومحيطه وبيئته، ويشعر بالألم إزاء ذلك فيشهر في وجهه حقائق عاشها وعايشها تؤكد وجهة نظره هو لا وجهة نظر الآخر، خصوصا وأنه يعرض لما كان من قبل وما تمر به بلاده اليوم وقد رأى بأم عينه ما يحصل من تغيير في المظهر والجوهر.
***
أشرت في مقالات عدة سابقة إلى موتيف الحزن الذي يرافق شعراءنا وأدباءنا نظرا لما مر به الشعب الفلسطيني من مآس وضياع وتشرد، ونظرا لما يخيم على أجواء بلادنا من رعب وخوف منذ أكثر من قرن من الزمن. تسيل الدماء وتتغير معالم المكان من حولنا، ينظر الشاعر فيرى أن القرية قد ألبست ثوبا غريبا عنها، ومغايرا لما اعتادت عليه، أما البيوت والجبال والوديان والشوارع والأزقة والشجر فقد باتت غريبة. وبات الناس يتراكضون ليلا ونهارا وراء لقمة العيش، فلا يجد الجار متسعا من الوقت يستأنس به مع جاره يتبادلان الحديث عن هموم الدنيا وتبادل الحكايات التي تسر القلوب في ليالي الصيف والشتاء، فمثل هذه اللقاءات حول كوب من الشاي كانت كفيلة بأن تنقي الفكر وتعيد إليه السكينة. فكيف يمكن لإنسان مر بالتجربة عقودا وهو يسمي كل شبر من أرضه باسم تلقفه من آبائه وأجداده منذ قرون أن يقبل باسم آخر لا يحمل بالنسبة له أي دلالة؟!
هذا هو ألم حسين مهنا ووجعه الحارق، تبدلت معالم الأمكنة وتبدلت أسماؤها. إن الأسماء ليست مجرد اسم نحمله ليميزنا عن غيرنا أو ليميز قطعة أرض عن أخرى، بل إن الأسماء لها معانيها ودلالاتها، فهي تذكرنا بأهلنا وناسنا وذكرياتنا معهم. فهناك من الفلاحين من أطلق على شجرة زيتون دون غيرها اسم قريب أو حبيب فارتبط وجدانها بها. ينظر حسين مهنا إلى الماضي فتعتريه هزة من خوف وهلع فيرتجف كالطير بلله القطر. وشاعرنا ابن قرية البقيعة قرية جليلية وادعة تربض على سفح جبل عاش أهلها فلاحين مسالمين متكاتفين يحرثون الأرض ويزرعونها ويحصدون من الثمار ومن البقول والحبوب ما يوفر لهم العيش الحر المتواضع الكريم.
تبدلت معالم قرية الشاعر، كما تبدلت معالم كل قرانا، وهو الشاهد على ذلك، فقد عاش في ذاك الزمان ويعيش في هذا الزمان حتى بات يرى نفسه غريبا عن محيطه، وكأن أهله تبدلوا ولم يعودوا كما كانوا، فيئن وجعا وألما إزاء ما يحيط به. تبدلت البيئة وتبعثر ماضيه، فالأرض والحقل والتراب ليست مجرد موقع، إنها انتماء وحياة وبقاء واستمرار. إنها عملية بتر للفكر والماضي والذكريات التي تربطنا بأناس تجمعنا بهم قصص ونوادر وحكايات وهموم وأفراح وهي كلها جزء من كيان. لقد اعتاد الفلاح أن يتبارك بأرضه وشجره ونباته، وهي شغله الشاغل الذي يعطيه الأمل والشعور بالانتماء، فيصرخ من أعماقه صرخته المؤلمة:
"وأسأل شوقا:
ترى أين غابت
بساتين خوخ وتين؟!
وجوز ولوز
ورمان عيد الصليب
شهي الرضاب
وأين حواكير ظللها الميس
والأزدرخت
وعرّش فيها جنون الدوالي؟" (أنا هو الشاهد، ص25)
يستحضر الشاعر المكان بما فيه وما عليه من شجر وثمر، ترتبط بمناسبات سعيدة يتذكرها رافضا أن تفر من ذاكرته. فضلا عن ذلك فقد كانت هذه الأشجار ملاذه الآمن يستظل بها من حر الشمس، كان يراها جنته على الأرض فاختفت معلما وبقيت صورة حية توخز خاصرة الذاكرة. يميل الشاعر في لاوعيه إلى توثيق محيطه وماضيه فيأتي على ذكر أشجار بلاده وثمره وارتباط هذا الثمر بمناسباته السعيدة فيحن لأيام خلت كانت تعم فيها البساطة والبراءة وكان للثمر طعم فاكهة الجنة، وكانت "الحواكير" و"البساتين" مرتع طفولة آمنة وسعيدة. فاستذكرها لا مجرد مكان بل كجزء من حياة تميز قريته وناسها وفلاحيها.
***
إن تخوف الشاعر من تبدل المكان وهيئته ومواصفاته تعني بالنسبة له مسا بالهوية، وتغيير القيم التي ربي عليها عشرات السنين. ينظر حوله فيصاب بخوف راعب، يشعر بالغربة وهو المقيم هنا: "أنا هو الشاهد"، ينظر إلى القريب والبعيد، وفي زوايا البيت، وفي حنايا القرية فيحس بالجفاء وهو يراها:
"وحين تدق القصيدة بابي
ويحملني الخافق المستهام
إلى راحتيكِ
أراكِ...
أحدق فيكِ
غريبا أحدق فيكِ
كأنك عني غريبة
أحدق فيك وأعلم أني أراك
كما لا تراك العيون" (أنا هو الشاهد، ص23)
يكاد الشاعر لا يتوقف عن إقامة المقارنات بين ما كان وبين ما صار، فينتفض ألما وحسرة وغضبا معلنا موقفا رافضا قبول الوضع الراهن. إن ثورة الشاعر لم تأت من فراغ ولا هي مجرد رفض للتطورات والتبدلات التي تفرض ذاتها، كما هو عليه الأمر في شتى بقاع الأرض. إن كل إنسان يحن إلى ماضيه لأنه جزء من كيانه وهويته، لكنها في الحالة التي يتصدى لها الشاعر هي حالة التزييف وفرض واقع جديد يبتر الماضي من الحاضر. ينتاب الشاعر حزن غامر وهو يرى وجه قريته الجديد، فيرفض أن يراها كما هي على حالها اليوم، إنها حالة من نكران الواقع الحالي، لذلك نراه يتشبث بالماضي، هناك يجد الراحة والسكينة والانتماء، فيعود بذاكرته إلى تلك الأيام منتشيا شغوفا فيراها عامرة تنبض حبا ورغبة بالحياة الباسمة:
"وآها لتلك السنين الخوالي العذاب
قريبا من القلب
نبض فلسطين كان
وكانت، على فقرها، قريتي
تستجيب نداء الحياة
مواويل...
تحمل جرح الجليل
وتلبس وجه الجليل الشجيا
صباحا نديا" (أنا هو الشاهد، ص26)
يترجم حسين مهنا مشاعر أبناء جيل كامل ما انفك يحن إلى أيام زمان رغم ضيق الحال، فنراهم يفضلونها على ما هم عليه اليوم، لأنهم كانوا، برأينا، ينتمون إلى المكان وإلى الزمان، وكانت لهم سيطرة أكبر على أسلوب الحياة. إن ما يحدث من تغيير لا يقتصر على الصورة الخارجية للقرية والحقل والأزقة بل يتعدى إلى تغيير في المفاهيم التي تبدو غريبة في عيون ذاك الجيل. والأهم أن من يحدث التغيير ويفرضه هو الآخر. إن شعر حسين مهنا من أكثر الأشعار الفلسطينية التي تعيدني إلى ما اعتدنا أن نسميه في قاموسنا الشعبي، "أيام هداة البال". وشاعرنا ليس صغيرا في السن وله من التجربة ما يكفي للقيام بهذه المقارنة بين تلك الأيام وبين هذه الأيام.
تتصارع في نفس الشاعر أحاسيس عدة، من حزن وأسى وحسرة، من ناحية، ونظرة تميل نحو التفاؤل من ناحية أخرى. ومهما قيل بخصوص هذه الأحاسيس والمشاعر فإن حسين مهنا قلق جدا وغير راض عما يحدث من حوله، لكنه لم يستسلم للسوداوية، فدعا إلى الحفاظ على الإيمان بقوة الإنسان وإرداته والتعلم من الماضي وعبره:
"ونبقى هنا- كما لا يحب الغزاة-
وكم من كواسر جاءت إلينا
لتخطف منا مواعيدنا،
والكلام الجميل
وتقطف عن دورنا شعرنا
والهديل
وتحمل عنا
مواويل عشاقنا
ثم تمضي
ونبقى هنا" (أنا هو الشاهد، ص50)
تتضح في هذه الفقرة رؤية الشاعر في تحميل الأغراب وزر ما يحل بهذه البلاد وأهلها، فيصوب سهامه نحو الذين مروا من هنا مغتصبين صورة الأرض وأهلها، ولكنهم ما يلبثون أن يغادروا كما غادر من سبقهم وقد عادت الأمور إلى سابق عهدها.
***
إن قراء الأدب الفلسطيني ودارسيه يرون أن هناك مواضيع تعود على ذاتها في الشعر والقصة والرواية والمسرح، ومن أهمها صراع الفلسطيني للحفاظ على الأرض والهوية، يستطيع القارئ بسهولة أن يلمس نبرة الألم والحزن والحسرة في معظم ما كُتب منذ بداية القرن العشرين وحتى يومنا هذا. لقد عبر الأدباء عن سخطهم إزاء ما حدث ولا يزال يحدث على أرض الواقع، فرأوا كيف يتسرب الزمن من بين أيديهم ورأوا كيف تسحب الأرض من تحت أقدامهم، فتصدوا للواقع الجديد، وعبروا عن حنينهم إلى الماضي. ولما وجدوا أن هناك اعتداء يطال الحجر والبشر والذاكرة انبروا للدفاع عن ذاكرتهم التي ترتبط بالبشر والحجر والشجر.
لقد تصدى الشاعر حسين مهنا في مجمل ما كتب لظاهرة الاعتداء على المكان وتغيير معالمه، فرأى إلى عنصر الزمن كيف يعمل على تغريب الأرض وما عليها فجاء عنوان الديوان واضحا ومباشرا وصارخا؛ "أنا هو الشاهد". ينتاب الشاعر حزن غامر فانبرى مدافعا عن ذاك الماضي وما يحمله من ذكريات ومن صور ترى أن الفلاح هو حارس هذه الأرض وما عليها. فالكل يعلم أن الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني حتى سنوات الستين من القرن العشرين كانوا فلاحين، ثم أخذت نسبتهم تتناقص مع مرور الزمن بفعل عوامل المصادرة للأرض. فاضطروا للبحث عن مصدر رزق آخر يكفل لهم قوت عيالهم، فارتفعت نسبة العمال بشكل تدريجي. وكان لذلك أبعاده على الإنسان الفلسطيني اجتماعيا، فكريا وثقافيا طالت أسلوب الحياة اليومية، وشكل البيوت والحارات والشوارع والأزقة، كما طالت شكل الشجر، فانعكس كل ذلك على أسلوب حياة الإنسان الفلسطيني، بحيث أصبح يعيش أسلوب حياة مغاير في العادات والتقاليد أيضا، وابتعد عن الأرض بكل ما يحمل ذلك من معنى.
أحس حسين مهنا بعد أن تقدم به العمر، بالغربة في وطنه وفي قريته وفوق ترابه، ووجد أن لا سلطة له على ما يحيطه، فانبرى مدافعا عن ماضيه وعن مكانه وزمانه وعن أهل بلاده بعاداتهم وتقاليدهم وهيئتهم، وكأنه يدافع عن هويته وانتمائه، فصور الحقل مكانه الأليف، هناك يعيش بهدوء وسكينة، ورأى أن القرية هي ملاذه الآمن الذي يحافظ فيه على الأهل والجيران.
إن ديوان "أنا هو الشاهد" لحسين مهنا أشبه بقطعة من لوحة فسيفسائية لمجمل ما كتب وما نشر، وقد تمحورت حول استماتته في الدفاع عن ذاكرة وطن، ترى أن شكل القرية قد تغير وبات يحمل من الصفات والمواصفات في الشكل وفي الجوهر ما يجعل الصورة غريبة، وبات هناك جفاء بين الأرض وناسها. لقد أعاد حسين مهنا إلى الذاكرة صورة بلادنا كما عهدناها من قبل، وأعاد بالأساس صورة القرية الجبلية الجليلية بناسها وعاداتها وتقاليدها ولغتها. لقد أعلن مهنا موقفه الرافض لرؤية الآخر وما يحاول أن يبثه وينشره فأعلن "أنا هو الشاهد" الذي يحفظ عن ظهر قلب شكل البلاد وصورتها، ويحفظ ناسها من فلاحين ورعاة ويحفظ قصصهم التي تدل على طبيعتهم الطيبة.
رأينا صورة الفلاح الفلسطيني بسماته وخصاله وأصالته وارتباطه بأرضه وعرضه وذاكرته، رأينا علاقة أهل القرية ببعضهم البعض في ظل ذاك الزمان، حيث الجيرة الطيبة وحيث الجد والجدة هما العين الساهرة على الأبناء والأحفاد، وهما اللذان يبثان المحبة للأرض وأهلها. ورأينا كيف ينتقل العشق الفلاحي من جيل لجيل لكي نحافظ على التواصل مع الأرض وما عليها.
لا يلجأ الشاعر إلى الإغراب في الشعر، ولا يبحث عن غريب القول، فالرموز شفافة كشفافية الفلاح، والصور قابلة للانفتاح والتأويل، فتبدو في عين القارئ أشبه بلوحة غنية قادرة على التواصل مع أكبر عدد من المتلقين على اختلاف أعمارهم واختلاف ثقافاتهم. أما اللغة والصور فقابلة للتأويل الأعمق في عين القارئ المتمرس، أو السوبر، كما يسميه ريفاتير.
يقيني أن حسين مهنا يتحاور مع القريب والغريب، ومع الكبير والصغير، ومع المثقف والأقل ثقافة بلغة فلاحية فلسطينية، أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها لغة تفجأك بصدقها وتبهرك باتساع عالمها وقدرتها على التفاعل والتأثير. فهل نستطيع القول إن حسين مهنا يرسم خريطة بلاده؟
لقد نجح حسين مهنا في ترسيخ صورة القرية والأرض وترابها ونبتها وعلاقات أهلها الطيبة والحميمة ببعضهم البعض، ووثق حكاياتها الفلاحية ودور الفلاح في الحفاظ على تراب بلاده وعلى أهمية التواصل والعودة إلى الجذور كجزء من هوية. ورفض كل محاولات تغيير صورتها وجوهرها معتبرا أن ذلك محض اعتداء على خريطتها الفكرية والاجتماعية قبل شكلها الخارجي. فجاء عنوان الديوان، كما ذكرنا أعلاه، واضحا ومباشرا وصارخا؛ "أنا هو الشاهد" مرتبطا ارتباطا عضويا ووثيقا مع مجمل ما جاء من نصوص الديوان.
د. رياض كامل


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى