الخميس ٢ آذار (مارس) ٢٠١٧
الانتظام أو الاتساق الجمالي في قصائد
بقلم عصام شرتح

أغنية للباشون الحزين

لا شك في أن الانتظام أو الاتساق الجمالي من المؤشرات الجمالية على شعرية القصيدة، ولا نبالغ إذ قلنا: إن الانتظام والاتساق الجمالي من محركات الشعرية في معظم النصوص الإبداعية المؤثرة؛ لاسيما النصوص الشعرية التي تتطلب مزيداُ من الاستثارة الجمالية، والقلقة النشكيلية المراوغة، ولعل الفنون في أوج استثارتها تتطلب وعياً فنياً وجمالياً في إبراز حياكتها الجمالية وممانعتها للمألوف والمتوقع من الأشكال البديهية والمألوفة، وبهذا المنحى تتخلق الشعرية، وتسمو في مؤشرها الجمالي.

وبتقديرنا: إن أي عمل فني إبداعي مؤثر، أو منتج للقيمة الجمالية هو- دون أدنى شك- فن إبداعي منظم منبني على الاتساق، والتوازن، والانتظام في حركته الداخلية؛ وشكله الجمالي النهائي، وماهيته الجمالية الكلية التي ينطوي عليها، وهذا- يتبع بالضرورة- حركة العقل، ومسألة الوعي في تخطيط المنتج الإبداعي؛ يقول عالم الجمال (بوسريه):" إن الجمال لا ينحصر إلا في النظام، أي في الترتيب والنسب.. وهكذا، فهو، ينتمي إلى العقل، أي إلى القدرة على الفهم والحكم على الجمال"().

واللذة التي يخلقها المنتج الجمالي هي التي تنقلنا من حيز الروتين والمادية المستهلكة إلى حيز روحي، ورعشة روحية، ينقلنا إليها المنتج الإبداعي، وهذا ما أشار إليه ((غوته) في حديثه عن الأثر الجمالي الذي يخلقه الشعر، إذ يقول:" إن الشعر خلاص، لأننا نخف فجأة، ونتخلص بمعجزة من احتياجاتنا، وخيبة آمالنا، ورغباتنا... ونتخطى فجأة متاعبنا، وكل ما يشغل بالنا من تفاهة الوجود؛ وننسى آلامنا وملذاتنا، إذ إن ملذاتنا عديمة القيمة، وتنفجر كما تنفجر فقاعات الصابون إزاء السعادة التي تسيطر علينا الآن"().

والاتساق أو الانتظام هو جوهر العمل الفني الإبداعي المنتج، فمن لا نظام وانتظام له لا إبداع حقيقي في نهجه وشكله الخارجي، ولهذا، فإن اللغة؛ لا تثيرنا وهي في حالة فوضى وعبثية، وإنما من خلال تنظيمها ؛ وهذا ما أشارت إليه خلود ترمانيني بقولها:"إن لغة الشعر تنشأ بين الشاعر وبقية المدركات التي تكون عالمه الشعري، ذلك أن اللغة الموجودة خارج الشعر تكون في حالة فوضى، لا يعثر فيها الإنسان على نفسه، ولكنها حين تدخل في إطار الشعر يضفيها الشاعر، وينظمها مخلصاً إياها من الفوضى، ليحقق وجوده من خلال التغيير الفعال لآلية وجودها في العملية الإبداعية؛ وتبعاً لهذا؛ تنبثق اللغة الشعرية بعد مراحل من احتفاظ الشاعر بها في أعماقه، ومن ثم، تتوالد الألفاظ والتراكيب والصور، فتبرز اللغة حية نابضة بالإيقاع، وعلى هذا الأساس؛ يندغم الإيقاع في الخطاب الشعري ليظهر في إلهام الشاعر؛ وإيقاع التعابير، وجرس الكلمات، ورنين القافية، لتنفذ بعد ذلك إلى قلب المتلقي، وتوحي بما لا يستطيع القول العادي البوح به".()

وهذا دليل أن قيمة الخطاب الشعري تكمن- بالدرجة الأولى- في جمالية لغته، ومصدر إشعاعه الفني، "فالشعر يرتبط باللغة، وهدفه- على حد تعبير كلوديل- تحقيق اللذة الجمالية التي يحصل عليها؛ والتي تعتبر اللغة أداتها"().

ولن تحقق اللغة الشعرية مظهرها الجمالي إلا باتساقها وانتظامها في نسق لغوي منظم ومتماسك؛ يقول جان برتليمي:"إنه حين تكون مادة الموسيقى هي النغمات، تكون مادة الشعر هي الألفاظ، وبتعبير أدق: يعمل الموسيقي بنغمات تقدم إليه في حالة طليقة يستطيع تركيبها فيما بينها دون تحديد، في حين أن الشاعر يعمل بنغمات موضوعة في إطار الألفاظ، ومحدودة بهذه الألفاظ"().

فاللذة الجمالية التي نحصل عليها تعتمد على مرجعية لفظية، تستند على أساس"لفظي- صوتي" بتنظيم نسقي،واتزان لغوي في ترصيف الكلمات، وإحكام نسجها، وتسلسلها الإبداعي؛ يقول جان برتليمي:" إن أبيات الشعر الجميلة تحمل نوعاً من رحيق يكاد يكون مغناطيسياً، وإنها تمارس إزاءنا جاذبية تشبه جاذبية المغناطيس- لدرجة أن "يريمون" أطلق تعبير"التيار الشاعري" على نمط"التيار الكهربائي"؛ بوصفه قوة أو طاقة مغناطيسية تبعث الحياة، والنبض، والغناء في الكلمات"().

والفن الشعري- بوصفه فناً جمالياً- يعتمد سحر الكلمة، وإيقاعها العاطفي الجذاب، لهذا؛ فإن الشاعر بإدراكه الحدسي الشعوري الجمالي يبدو قادراً على التلاعب بالكلمات، وفق إيقاع عاطفي مموسق، يستثير المتعة والجاذبية الفنية لدى القارئ؛ وهذا دليل أن:"الشاعر يستخدم الكلمات، لا ليعبر عن معناها فحسب، بل عما وراء معناها، أي على ما يقابلها ترنيماً ونغماً في العالم الذي تنبع منه، وهي بذلك تمكنه من السيطرة على هذا العالم"(). وبهذا المقترب الرؤيوي يقول جون بيرس:"لا الشيء المكتوب هو الذي يجذبنا، بل الشيء نفسه؛ وقد أخذ لحظة حيوية وفي مجموعة كاملاً"(). وهذا القول دفع الناقد الجمالي (جون) إلى القول عن أهمية" القدرة الروحانية للكلمة في خلق الشيء"(). فالشاعر يتحثث الكلمات، ويبث فيها طاقة إيجابية جديدة، لكي يكتشف فيها شرارته الروحية التي اتقدت في داخله إيقاعاً يخرج من بين الكلمات برنين خارج ينساب من قرارة روحه، لا من رنين الكلمات، وأنغامها فحسب؛ "فبدلاً من أن تكون الكلمات تعبيراً عادياً يشير إلى الأشياء تجده يعدها بمثابة فخ يمسك بالحقيقة الهاربة، وباختصار: تصبح كلها عنده مرآة العالم... إنها المعادل الموضوعي للعالم"().

ووفق هذا التصور، فإن اللغة الشعرية لاتحقق تناغمها وانتظامها إلا بتفاعل الإيقاعات مجتمعة،وبهذا المعنى يقول (كلوديل) مثلاً:"إن موسيقى اللغة شيء دقيق حتماً، وهي معقدة لدرجة كبيرة لا يمكن معها الاكتفاء بالطريقة البدائية البربرية التي تنحصر في عد الكلمات، أو المقاطع، لخلق التناسق الهرموني في نفس القارئ عبر انتظامه"().

فالمبدع الحقيقي هو الذي ينظم حواسنا وإدراكاتنا، ومشاعرنا في قالب كلامي موزون، أو محكم، يقول "بودلير":" إن القلب يحوي الاندفاع العاطفي،والإخلاص، والجريمة. أما الخيال فهو وحده الذي يحوي الشعر. وحساسية القلب ليست على الإطلاق مواتية للعمل الشاعري، بل إن من الجائز أن يكون التطرف في حساسية القلب ضاراً في هذه الحالة. وحساسية الخيال ذات طبيعة أخرى، فهي تعرف كيف تنتقي، وتحكم، وتقارن، وتترك هذا، وتعثر على ذاك الشيء بسرعة وتلقائية. وبهذه الحساسية التي تسمى عادة الذوق تستنبط قوة تجنب الشر، وإيجاد الخير في مجال الشعر"().

ومن هنا، فإن المبدع إن لم ينظم حواسنا، ويستثير مشاعرنا لن يرقى بنصه الإبداعي حيزه الجمالي الإشعاعي المؤثر؛ فالشعراء المبدعون- شأنهم شأن الرسامين- "يبحثون عن الشعور الذي يجعلهم قادرين على امتلاك الفهم الروحي في نقائه الأصلي، فهم يخبروننا عن أشياء لا تستطيع اللغة بذاتها أن تعبر عنها"().

وهنا، يتساءل "برغسون" قائلاً:" لماذا نحن لسنا جميعاً فنانين؟" ويجيب نفسه قائلاً:"كان بإمكاننا أن نكون فنانين، ولو أن الحقائق التقت بمعانينا وبوعينا بشكل مباشر. لكن الواقع غير ذلك، فبين الطبيعة وأنفسنا أو بين أنفسنا ووعينا الذاتي، ينسدل الستار الذي هو كثيف وسميك أمام الناس العاديين، ولكنه رقيق وشفاف أمام الفنان والشاعر"().

فالمبدع أو الفنان هو القادر على استظهار ما هو باطني، أو ما هو خفي وعميق خلف الظاهر الشكلي، أو خلف الشكل الخارجي؛ يقول بول سيزان:"إنني أستنشق بتولة العالم تهاجمني حدة ظلال ألوانها. أشعر كما لو أنني متوهج بكل ظلال المطلق. أصبح أنا وصورتي شيئاً واحداً"().
وبهذا المنظور أو الإحساس الشعوري، فإن المبدع الجمالي هو الذي يخفف بإبداعه من ثقله الوجودي. ويحلق في لحظة إبداعية سامقة فوق حدود الممكن أو المتوقع، ليخلق لذته أو نشوته الجمالية:" فالشاعر يعود بلمح البصر إلى رؤى الأزل، فيشعر بالثقل، فيتوهج به، ويصبح هو زمنه().

ومن هذا المنطلق؛ ينماز المبدع عن غيره؛ بمقدرته على تفعيل المنتج الإبداعي من حيث التكثيف والإيحاء، يقول (بيت موندريان):"كل من العلم والفن يكتشفان ؛ويجعلاننا ندرك حقيقة أن الزمن هو عملية تكثيف لما هو ذاتي في اتجاه ما هو موضوعي، في اتجاه جوهر الأشياء وجوهر أنفسنا"().

وما ينبغي الإشارة إليه أن التنظيم والتوازن في بنية العمل الفني الإبداعي هو ما يمنحه جماله وتوازنه الفني، وهذا دليل أن النشاط الذي يولده الإبداع فينا مستمر ومتدفق دوماً، لأنه ناتج عن روح متوثبة، حساً شعورياً ونشاطاً روحياً لا يمل ولا يكل، يقول كوليير:"يبدو أنه لا راحة هناك للشخصية المبدعة، فالنفس تقودنا باستمرار في نشاط دائم لا يتوقف"().

ومن هذا المنطلق، يبدو أن الاتساق والانتظام يتحقق جمالياً بمقدار حيازته على التناسق الشكلي في الخصائص والمؤثرات التي يمتاز بها الشكل الفني أو المنتوج الجمالي المثير.
وبتصورنا: إن الانتظام الجمالي يحقق للقصيدة تفاعلها ومظهر استثارتها، ولايمكن للقصيدة أن تسمو جمالياً بمعزل عن إيقاعها اللغوي الفني الجذاب وحراكها الشعوري المفتوح؛ فالقصيدة ليست فوضى لغوية أو عبثاً غوغائياً باللغة، إنها حياكة جمالية بليغة،وقوة شعورية دافقة بالحساسية والجمال؛ ومن هنا، ترتقي اللغة بانتظامها وتفاعلها النسقي على مستوى الأنساق اللغوية ومثيراتها الفنية الجذابة.

وهكذا، نصل إلى نتيجة شبه مؤكدة أن الانتظام أو الاتساق الجمالي يحقق للقصيدة نموها وتفاعلها المؤثر؛ ولولا هذا التفاعل ما حققت القصيدة إيقاعها اللغوي الجذاب؛ ومظهر إثارتها في الكثير من القصائد الحداثية،ذات ملمح إبداعي مؤثر وحساسية جمالية.

مؤشرات الاتساق الجمالي في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم.

إن الاتساق الجمالي من أهم القيم والتقنيات الجمالية التي تتأسس عليها قصائد(أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم؛ فهي تبني القصيدة –بشكل تشكيلي منتظم- شكلاً لغوياً وشكلاً بصرياً؛ وهذا يعني أن شعرية الكثير من الأنساق اللغوية - في هذه القصائد- تتأسس على حراك المشاهد وتنوعها، وتكثيف الرؤى المباغتة في شكلها وإيقاعها الصوتي.

ولعل القارئ لهذه القصائد يدر ك شعريتها المراوغة في إيقاعها ونبضها الجمالي،فهي غنية بالمؤثرات التشكيلية التي تحقق أعلى مستويات الإثارة، والتكثيف، والفاعلية الجمالية.
وبتقديرنا: إن الاتساق الجمالي- من مغريات هذه القصائد- في شكلها اللغوي، وتشكيلها الأسلوبي؛ ولهذا،لا غرو أن تمتاز هذه القصائد بالإيحاء، والشاعرية عبر مظاهر الاتساق، والتفاعل، والانسجام الذي تحققه في بناها، ورؤاها الجمالية؛ مما يعني أن الفضاء الجمالي والرؤيوي لهذه القصائد فضاء تأملي مفتوح،ذات زخم في الإيحاء، والتكثيف، والاستثارة الجمالية.

ومن يطلع على هذه التجربة من العمق، يدرك تنوع مشارب الشعرية، واختلاف مظاهر استثارتها الجمالية، فهي تتحرك على أكثر من رؤية، ودلالة، ومحرك جمالي، وهذا يعني أن شعرية هذه القصائد مفتوحة في رؤاها،ومؤثراتها الجمالية،سواء في شكلها اللغوي،والدلالي،ومؤشرها الجمالي المتحرك.

وبتقديرنا: إن خصوبة الشعرية – في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) – تتحقق من خلال فاعلية الانتظام الجمالي الذي تحققه الأنساق التالية:

الانتظام الجمالي النسقي:

ونقصد ب (الانتظام الجمالي النسقي): انتظام الأنساق اللغوية التي تؤسسها في حركتها الجمالية،وهذا يعني أن شعرية الأنساق اللغوية تتحدد من خلال تناغمها وانتظامها وتفاعلها لترقى أعلى المستويات؛ ولن تحقق القصيدة تناغمها وخلقها الفني المؤثر إلا بتضافر القيم الشعرية،وتنوع مؤثراتها الجمالية.

ووفق هذا التصور؛ فإن ارتقاء الشعرية وسموها تتعلق بدرجة تفعيل الأنساق وحراكها الجمالي؛ وهذا يرجع- إلى بلاغة الرؤيا- ومنظورها الرؤيوي المغاير أو المخاتل؛ ولا تتنامى درجة الجمالية في القصائد الحداثية إلا بتفعيلها للأنساق الشعرية وتحميلها من الرؤى مالا تحتمل.

وبتدقيقنا،في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم، نلحظ تنوع الرؤى والدلالات والمؤشرات الجمالية،ونلحظ شعرية الانتظام الجمالي النسقي الذي تثيره حركة قصائدها لترقى أعلى المستويات في التحفيز والاستثارة الجمالية، كما في قولها:

أنحتُ..
حرماني وشماً
على بياضكَ المهيب
آه لو تجيئ!
تحرّرُ الشوقَ المصلوبَ على قضبانِ النافذة
تنزعُ صدأ نظراتي
تمسحُ ماعلقَ على المرآة
من صوتٍ حزينْ"(19).

هنا،تظهر القصيدة تفعيلها للرؤيا الشعرية،وتناميها للموقف الشعوري؛فالشاعرة تعبر عن إحساسها العاطفي وتوقها وحرمانها الروحي بصور تشكيلية منظمة على مستوى الأنساق الشعرية؛ مما يجعلها قمة في الاستثارة والتأثير والتفعيل الجمالي؛كما في الأنساق اللغوية المنتظمة: (أنحت حرماني وشماً على بياضك المهيب../ تنزع صدأ نظرتي)؛ وهذا يعني أن الرؤيا الشعرية تتوسع برؤاها ودلالاتها الخلاقة؛ مما يدل على شعرية الحالة والموقف العاطفي المصطهج الذي تشكله، لترقى أعلى مستويات استثارتها وتأثيرها.

وبتقديرنا: إن خصوبة شعرية قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم، تتمثل في اتساق أنساقها اللغوية جمالياً؛ وكأن النسق الشعري لديها منسوج نسجاً فنياً مؤثراً؛لأن القصيدة لديها عالم من الرؤى والدلالات،والمؤثرات الجمالية المفتوحة التي تصل إلى أعلى مستويات الاستثارة والتأثير الجمالي الخلاق المبدع؛ كما في قولها:

هَبْني مطرَك
ما عدتُ أحتملُ الهجيرْ
لأسبّحَ باسمِ الخلاصِ نارَ القصيدة
أرشّ القبورَ بماءِ حياة
أسحقَ رهاناتِ الجُناة
على موتيَ
ولو قدِرْتُ أُعلي القمرَ أرجوحةً
تعيدُ النجومَ الهاوية
إلى كفيَ
لتمحوَ وجعاً ينزّ حضوراً
في بلادٍ باتت لوحة
رسمتْها أصابعُ الدّمارْ.."(20).

إن قارئ هذه القصيدة يلحظ انتظامها النسقي،وفاعليتها الرؤيوية الخلاقة والمؤثرة؛ إذ إن كل نسق شعري يؤسس انتظامه في نسق الصورة الخلاقة المبدعة؛ وكأن الحياكة الجمالية البليغة هي مصدر تحفيز الرؤيا وانتظامها جمالياً بمحرق رؤيوي محرك للحساسية الجمالية،كما في هذا النسق المتناغم مع دلالات السياق: (ماعدت أحتمل الهجير- أسحق رهانات الجناة- أعلي القمر أرجوحة تعيد النجوم الهاوية إلى كفي)؛ووفق هذا التصور؛تتحرك الرؤى الشعرية؛ لتشتغل على محركات شعورية خلاقة منتجة للإيحاء الجمالي،والرؤيا الجمالية.

وهكذا؛ تتأسس القصيدة على مغريات الرؤيا الخلاقة المبدعة؛ هذه الرؤيا التي تستقي مؤثراتها الجمالية من فيض الحساسية الشعرية والمنتجة النسقية الجمالية المنتجة للشعرية وفاعليتها التصويرية على شاكلة النسق الشعري التالي:

"يا أبوابَ الحيرة!
كلّ المنافي تمرُّ في البالْ
والوقتُ وحشُ الحكاياتِ
الرّوحُ تُشهرُ ارتحالاتها
سجلاً مفتوحاً
من رعافِ الجهاتِ"(21).

إن قارئ المقطع الشعري لا يخفى عليها انتظامها الجمالي النسقي،وفاعليتها التحريضية في الاستثارة والتأثير؛ وكأن شعرية النسق الشعري، تتأسس على فاعلية الأنساق وتناغمها والموقف الشعوري الضاغط الذي يحتويها؛ والإحساس الجمالي المتنامي في التكثيف والإيحاء؛أي إن ثمة انسجاماً في البنى التصويرية، وحركة الأنساق من خلال المشاعر الصاخبة الدالة على عمق الحالة، ووجاعتها، وانكسارها الشعوري،كما في الأنساق اللغوية المنظمة جمالياً في نسقها: (الرّوحُ تُشهرُ ارتحالاتها سجلاً مفتوحاً من رعافِ الجهاتِ).وهذا يعني أن القيمة الجمالية التي تتحرك عبرها الدلالات تبقى في حالة انفتاح وتناغم وإيحاء؛وشاعرية.

وهكذا، يكمن أن نعد الانتظام النسقي الجمالي من مولدات الشعرية،وإثارتها في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم، ففي هذه القصائد تتنوع الدلالات وتتنامى بفاعلية وإثارة جمالية، غاية في التأثير والإيحاء، كما في قوله:

"فأنارَ الحائط َ الموجوع
عشراً من القصائدِ
وخيطاً هزيلاً
سالتْ عليهِ الرّوح
وحيدةً تلاطمني كآبةُ الجدران
أقاتلُ طواحينَ الغبارِ
ووحشةِ الحيّ"(22).

إن القارئ لهذه الأسطر الشعرية لا يخفى عليه إيقاعها الاغترابي المأزوم، وإحساسها المحتدم الذي يدمي الذات،ويحرق الفؤاد؛ وكأن حالة الانكسار والتصدع والمرارة التي تعيشها، انعكست على صدى كلماتها لتصف بدقة وتفاعل وانتظام جمالي حالة الوجاعة والاغتراب التي تعيشها بإيقاع انكساري متوتر؛ وشعور اغترابي مرير.وهذا ما تبدى في الانتظام النسقي للبنى الشعرية الفاعلة التالية: (وحيدةً تلاطمني كآبةُ الجدران /أقاتلُ طواحينَ الغبارِ)؛وهكذا، تتمفصل الرؤى الخلاقة في القصيدة، لتشي بحالة الوجاعة والانكسار والتأزم الداخلي؛ وكأن الاتضاع الوجودي، والانكسار الشعوري،سيطر على الأنساق لتؤكد ثبات الحالة،ووقعها المأزوم.

وبتقديرنا: إن الانتظام النسقي الجمالي يحقق للقصيدة تناميها وسحرها،لاسيما عندما يرتقي بالصور ويرتبط ارتباطاً مباشراً بالدلالة محققاً تناغمها وإيحائها الفني

الانتظام الجمالي بوصفه قيمة جمالية:

لاشك في أن الانتظام الجمالي الفعال يحقق قيمة جمالية،وهذه القيمة الجمالية تزداد درجة شعريتها،بالانتقال من نسق إلى آخر،أو تفاعل كل نسق مع الآخر تفاعلاً جمالياً مؤثراً،وكما هو معروف دائماً: إن النصوص المبدعة هي حصيلة مجموعة من القيم والمؤثرات الجمالية التي تترك أثرها في هذا النص أو ذاك، تبعاً لمتغيرها الجمالي،وركيزتها الإبداعية الخلاقة.

وكما هو معتاد في نصوصنا الحداثية اعتماد الكثير من القصائد على البنى الجمالية المتحركة من إيقاع وصوت ودلالة، وأسطورة، وتناص،ومونتاج،ومشاهد ولقطات متحركة، ولا نبالغ في قولنا: إن النصوص المبدعة تبقى في انفتاح وتناغم وتضافر لغوي يشي بأعلى درجات الإثارة والفاعلية والتأثير.

وقد لانجافي الحقيقة في قولنا:إن أي عمل إبداعي لا يمتلك قيمة جمالية يفقد خصوصيته الإبداعية، بل يفقد – إلى حد كبير- خاصيته الفنية، فالمنتج الفني المثير ينطوي على قيم جمالية عديدة، ما إن تنتهي قيمة حتى تتفتق قيمة أخرى وهكذا دواليك، ويظل المنتج الإبداعي في توالد مستمر وإفراز دائم للقيم الجمالية، ولن تنتهي هذه القيم بانتهاء زمن المنتج الفني، وفور انتهائها،يعني انتهاء العمل الفني كلية، ومن ثم موته الفني التدريجي، أو موته السريري البطيء ؛ فالمنتج الفني هو كينونة مستمرة من الحراك الجمالي، على صعيد القيم والمؤثرات الجمالية، ولن يحقق العمل الفني منتوجه الجمالي الأمثل، ما لم تتوالد القيم الجمالية باستمرار؛ وتزداد الدوافع الجمالية لدى المتلقي أهمية في تلقي هذا المنتج الفني أو ذاك ؛ بإحساس جمالي وحساسية شعورية زائدة، وعندئذٍ يتحول الفن من نزعته الفردية الخاصة بالمبدع إلى نزعته الجماعية الخاصة بالجمهرة المتلقية (الذوات المتلقية) لتتخذه كفن إبداعي جمالي خالص؛ يقول (جان برتليمي):" إن الفن يتضمن بالذات تخلصاً من الفردية، ومن حالة البشرية ليتمتع بصفة الأبدية"(23). وما صفة الأبدية إلا صفة الخلود؛ وبهذا المعنى، فإن ما يُخَلِّد العمل الفني – في المحصلة- تنامي قيمه الجمالية باستمرار؛ وهذا التنامي المستمر هو الذي يُخَلِّد المنتج الإبداعي، ضد سطوة الزمن أو هاجس المحو الزمني، يقول قصي حسين:" الفنان مجرد لاعب يكرر لعبته حتى تفرغ من زمانها، ويصير صدىً لآلية التقليد، وبمقدار ما يشق كفن التقليد نراه يغرس بشارته في كنف التجديد؛ والتجديد – بنظرنا- هو زمن البشارة، أو زمن الوعد الماطر دماً وعشباً"(24).

وتبعاً لهذا، فإن الفن المبدع هو الذي لا تنفد قيم منتوجه الإبداعي الجمالية مهما تقادمت الأزمنة وتوالت التقنيات الجمالية المبتكرة، ولذلك، فالفنان المؤثر لا يصور ما هو قائم أو واقع، وإنما يصور ما يمكن أن يكون أو يتوقع حدوثه وفق متخيلات إبداعية خلاقة، يقول (بودلير):"إني أرى أن مما لا فائدة منه، بل ومن التفاهة أن أُصوِّر ما هو قائم، لأن ما من شيء مما هو قائم يرضيني"(25).
وهذه المقولة تؤكد جموح الفنان إلى ارتياد عوالم فنية غير مسبوقة؛ وبقدر مساهمة المبدع في ابتكار عوالم تخييلية جديدة في منتجه الإبداعي وتصويرها بدقة، بقدر ما تزداد قيمة المنتج الإبداعي أثراً أو حيازة فنية رائعة أو ذات مستوى إبداعي رفيع.

وبتقديرنا: إن الانتظام الجمالي يشكل قيمة جمالية إذا ما ارتبط هذا الانتظام بالدلالة،وأسهم في إنتاجها؛ فالشاعر لايخلق الدلالة إلا بالتفاعل النسقي الذي يشكله في هذا النسق الجمالي أو ذاك محققاً قيمة جمالية عظمى أو كبرى،عبر المشهد المتحرك والرؤيا الخلاقة المبدعة؛ ولذلك فإن غنى التجارب الشعرية لايتحقق لا بمجموعة القيم والمحفزات والرؤى الجمالية المكتسبة والتي يتم التعبير عنها بفاعلية لغوية خلاقة ومنتجة للشعرية.

ومن منظورنا: إن كثافة القيم الجمالية في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم جاءت نتيجة خبرة ومعرفة جمالية في التشكيل الشعري المؤثر؛وهذا ما استطاعته هذه القصائد أن تثيره بالقارئ منذ الوهلة الأولى، محققة أعلى درجات الاستثارة والتأثير،كما في قولها:

"مدّ مطرَك..
اقتلْ هجيري
ما عادَ صبري
يستعذبُ التواطؤ مع الإطار
دروبٌ تشوقني إلى مدنِ الماء
تعالَ لأبتدئ الدّورانَ في المحيطاتِ
اكشفْ سرّ وجهي المشنوق
حرّرْ عصافيرَ حبيسةً
في دهشةِ العيون.."(26).

إن الدهشة الجمالية التي تحققها الأسطر الشعرية السابقة تتبدى في جمالية البنى اللغوية وانتظام الأنساق الشعرية،محققة أعلى درجات الاستثارة والتكثيف عبر الاستعارة المتحركة بدلالاتها وإيحاءاتها المتتابعة، على شاكلة الأنساق التالية:[دروب تشوقني إلى مدن الماء/ حرر عصافير حبيسة في دهشة العيون]؛ إن البراعة في استثارة القيم الجمالية من مغريات هذه القصائد التي تتنوع دلالة وإيحاء وشاعرية؛ وهذا يعني بلاغة الرؤيا الشعرية ودلالاتها المفتوحة؛ مما ينم على فاعلية الأنساق وانسجامها،محققة قيمة عليا من الاستثارة والتأثير.

وهكذا،تؤسس الشاعرة نجاح إبراهيم إيقاع قصائدها على توليد القيم الجمالية الفاعلة التي تحقق أعلى درجات التكثيف والفاعلية والإيحاء، محققة إثارتها الجمالية وإيقاعها الخلاق،كما في قوله:

"أرّخَ كتابَ الوجدِ
بحبرٍ يُشبهُ قطراتِ ضوءٍ
أعليكَ قمراً أخضرَ
لا تغيب..
مالي أراك تتذرعُ بحججِ الانسحابْ
من نافذةِ الغرفةِ اليتيمة
تنسلُّ بهدوءٍ
من رائحةِ جديلةٍ
عمرُها من عمرِ بوحٍ قدسيّ
تنامى قبةً زرقاء
على ورقي"(27).

إن الشاعرة هنا، تبني عالمها الاستثنائي بتوليد القيم الجمالية، التي غايتها تأسيس رؤية متكاملة ومنظور رؤيوي مغاير؛ وهنا،ارتفع إيقاع القصيدة صوفياً، لتشي بحالة من الوله والتمثل الروحي المطلق،وكأن الشاعرة تتنفس عبير الوله الصوفي،والاستغراق العميق بماهية الوجود،إذ اعتمدت الشاعرة الأسلوب القصصي،المعتاد في رسم الحالة الصوفية برشاقة سردية تعمق فاعلية الحالة الوجدية التي تملكتها بإحساس يفيض إثارة وخصوبة وجمال؛ وهذا يدلنا أن حساسية الصورة وعمق الحدث، من مولدات القيم الجمالية المثيرة التي تولدها قصائد نجاح إبراهيم لتأسيس شعريتها شكلاً ومعنىً.

وبتقديرنا: إن شعرية الانتظام الجمالي - بوصفها قيمة جمالية- تعد من مغريات قصائد (أغنية للبلشون الحزين) لنجاح إبراهيم، فهي تحقق متغيرها الجمالي بالارتكاز على هذه التقنية الفاعلة التي تحرك الأنساق الشعرية جمالياً،سواء باعتماد تقنية السرد، أو الصورة المتحركة، أو التضمين، أو الالتفات، أو تنوع الأنساق المنتظمة التي تشي بحالة من القيدية والانغلاق، أو الاحتراق والوله الصوفي الذي يسكن قرارة الذات الشاعرة لأعماق.

3- التوازي النسقي الجمالي:

لاشك في أن التوازي النسقي الجمالي من مغريات القصيدة الحداثية التي تتطلب وعياً جمالياً وخبرة إبداعية في التشكيل النصي؛ هذه الخبرة لا تكتسبها من الدلالة المفردة،وإنما من الحياكة النسقية المتشاكلة في تركيبها وتشكيلها اللغوي.أما مانقصده ب(التوازي النسقي): فهو تواتر الأنساق اللغوية على صيغ جملية متماثلة، أو متساوية، سواء أكانت هذه الأنساق مكررة أم لا، المهم أن يثير التوازي دلالات، ورؤى جديدة؛ تنعكس على مسارها الإبداعي؛ محققة وظيفة فنية ما ترتبط بالرؤية الشعرية التي تبثها القصيدة.

وبتقديرنا:إن التوازي النسقي – عند شعراء الحداثة عموماً- لا يقف حيال اللفظة أو الجملة؛ وإنما يمتد ليشمل القصيدة كلها؛ وذلك عندما يريد الشاعر الضغط على حالة مأزومة أو مؤلمة،فيضغط على صيغة واحدة أشبه ما تكون بمتوالية نسقية متتابعة تستمر حتى نهاية القصيدة.
وبتصورنا: لجأت الشاعرة نجاح إبراهيم إلى هذا الشكل الأسلوبي، لإغناء فضاء القصيدة بفيض من الدلالات والقيم الجمالية الفاعلة التي تحرك الأنساق،وترفع حرارة التجربة الشعرية، لتصل غاية في الاستثارة الإدهاش،والتناغم الصوتي،على شاكلة قولها:

"سيزيف" كنتُ
فوق كتفيّ أحملُ البلادَ
وصوبَ الأعالي أمضي
وكنتُ
مُكتظّةً بنواقيس الوصول
ألِدُ أثقالي
عندَ أقرب نقطةٍ إلى الله
أطلقُ أقماري
وكنتَ إليّ أشهى من تفاحِ الجنّة"(28).

هنا، تضغط الشاعرة على صيغة واحدة، (كنت) مرات متتابعة، لإبراز دفق الأحاسيس والمشاعر الدافقة بالحساسية والجمال؛وكأن الشاعرة تبرز صخب الرؤى، مرتكزة على موحيات الأسطورة وما تحمله من اغتراب وحنين،واحتراق،وكأنها بلمحة تريد أن تسترجع كل شيء، أو تبرز عالمها المأزوم،بكل مشاعر النجوى والحرقة والحنين.

وهكذا، تؤسس الشاعرة نجاح إبراهيم سيرورة الأنساق الشعرية بالارتكاز على النسق اللغوي المركز،لإبراز شعرية الانتظام والتوازي النسقي في التعبير عن الحالة الشعورية والموقف الشعري بحساسية وجمال.

وبتقديرنا: إن الانتظام الجمالي عبر التوازي النسقي يحقق فاعليته القصوى في قصائد(أغنية للبلشون الحزين، وذلك عبر توازي الأنساق وانسجامها، وتفاعل موحياتها ومؤثراتها الجمالية،
وهذا ما تظهره الأنساق الشعرية التالية:

"كنْ يداً تضيءُ في دمي
فرحاً
تطفئ لظى القلبِ
بسحائب الندى
تسقي يباسَ العشبِ
في عينيّ
تحملني ريحاً
تحت جناحيها
غمامٌ!"(29).

لابد من الإشارة بداية إلى أن التوازي النسقي- في قصائد (أغنية للبلشون الحزين)- يتأسس على الانتظام والتناغم عبر توازي الأنساق اللغوية حيال الضغط على صيغة معينة، للتأكيد على موقف ما، أو رؤية معينة تريد الشاعر التأكيد عليها وإبرازها في النسق الشعري الذي تتضمنه، وهذا يعني أن التوازي النسقي يزيد من فاعلية الانتظام الجمالي،ويحقق لبنية القصيدة تماسكها وتلاحمها في التعبير بقوة وثبات عن الموقف المراد تصويره بدقة،بكل ما تتضمنه من رؤى ودلالات بالغة الإيحاء والتأثير.

4- التفاعل الجمالي:

لاشك في أن التفاعل الجمالي من فواعل الانتظام الجمالي في حركة الأنساق الشعرية لاسيما إذا كان التفاعل ركيزة من ركائز الانتظام الجمالي ومرتبط ارتباطاً وثيقا بالرؤية،وفاعلاً من فواعل إنتاج الدلالات وتحفيزها في النسق الشعري.

ويعد التفاعل الجمالي من محرضات الشعرية،لأنه يسهم في تكوينها وإنتاجها، وتحقيق مؤثرها الإبداعي الخلاق، وهذا ما استطاعت قصائد (أغنية للبلشون الحزين) أن تحققه في بنيتها الشعرية وركيزتها الإبداعية على شاكلة المقتطف الشعري التالي:

"شقيٌّ هذا الخَافقُ!
ما غادرَ ارتجافهُ
لحناً سرمدياً
بين صوتٍ وصداهُ
بالرّهبة يقسمُ
كي تأتي سرباً من خزفِ حنجرة
غصّ الكلامُ في تشوّقها
لا من صوت لي!!
فرّت من عرشها لغتي
يسرقني هذا الأزرقُ
من بوحي
باسم شهد الانتظار"(30).

بادئ ذي بدء، نقول: إن شعرية الأنساق اللغوية تتأسس على تقنية التفاعل الجمالي التي تحفز المتلقي،وتستثير حساسيته الجمالية، وهنا،استطاعت الشاعرة أن تؤسس مغرياتها الجمالية على التفاعل والتضافر بين الأنساق اللغوية المحفزة للشعرية،كما في قوله:[ كي تأتي سرباً من خزفِ حنجرة /غصّ الكلامُ في تشوّقها]؛إن التفاعل النسقي، يؤدي إلى بلورة الرؤيا،وهندسة البنى الدلالية الفاعلة، وهذا يمنح القصيدة حسها الجمالي، ونبضها الإيحائي الفاعل.

وبتقديرنا: إن قيمة التفاعل الجمالية في قصائد [ أغنية للبلشون الحزين] لنجاح إبراهيم تزداد بتضافر البنى التصويرية الفاعلة التي تحفز الحركة الجمالية للأنساق الشعرية؛ كما في قوله:

حين مرّ سربُ عصافير
جعلتَ من أصابعك
فزاعاتٍ تخيفُ قلوبَها الصّغيرة
عقدُ الفيروزِ
المستحمّ بطينِ الصّدرِ
يُشْهِدُ الفجرَ نوافذ شروقه
والبجعُ الضاحكُ فوق أزرقهِ
يغني..
كيف ينكسرُ الغناءُ؟
ويُشرَخُ الصّدى
وقد لقمتُه نداي؟!
أما كنتَ صوتي
وكنتُ صداكَ
بل كنتُ أكثرَ
كنتُ وجهَك القمحيّ
وسرّ غواياتِ الوقتِ الورديِّ"(31).

بادئ ذي بدء؛إن شعرية التفاعل الجمالي تتبدى في حراك الدلالات،وتفاعلها ضمن النسق؛وهذا يدلنا أن شعرية الأنساق اللغوية في المقتطف الشعري، تتمثل في الانتظام النسقي على مستوى الصور؛ محققة التناغم والانسجام بين البنى الدلالية الخلاقة؛ مما يدل على خصوبة الرؤيا وتحفيزها:[فزاعاتٍ تخيفُ قلوبَها الصّغيرة/عقدُ الفيروزِ/ المستحمّ بطينِ الصّدر]؛وتأسيساً على هذا، تحقق القصيدة تناميها الجمالي؛ وتناغمها الإيحائي؛ من خلال تفاعل الأنساق؛ وحنكتها الجمالية في تعميق الموقف،وإبراز حدته الجمالية،كما في الأنساق التالية:[كنت وجهك القمحي/ وسرّ غوايات الوقت الوردي]؛ وهذا الأسلوب التقني المتحرك في تحفيز الرؤيا، ناتج عن تفاعل الأنساق في الدلالة، على حالة الأسى الحارق التي تعتصر كيانها في التوق العاطفي والإحساس المأزوم،وكأن الشاعرة تعيش الوجاعة،والقلق،والتأزم النفسي؛ إثر الاحتراق العاطفي وحالة الوله والتعلق الصوفي الذي عاشته في عالمها الوجودي.

وبتقديرنا: إن شعرية الأنساق اللغوية المتفاعلة ترتقي أعلى درجات الاستثارة والتأثير،لاسيما عندما تتفاعل الأنساق في بنية الصورة لتخلق حالة من التلاؤم والانسجام الفني في النسق الشعري؛ وهذا ما يحسب للقصيدة في تناغمها وانسجامها الفني.

أخيراً، نصل بعد هذه التعريجة البحثية إلى النتائج المفصلية التالية:

إن الانتظام الجمالي- في قصائد (أغنية للبلشون الحزين)- يتمظهر في التوازي النسقي الجمالي، ليصل النسق الشعري إلى أعلى مستويات الإثارة والتكثيف،والفاعلية الجمالية،وهذا يعني أن شعرية الأنساق تظهر في تفاعل أنساقها وتناغمها شكلاً ودلالة،مما يجعل هذه القصائد كتلة في التفاعل والإثارة والإبداع؛ وكأن ثمة وعياً جمالياً لدى الشاعرة في خلق التلاحم الفني بين الأنساق؛ لتسمو القصيدة،وترتقي جمالياً.

إن فاعلية التكثيف الجمالي في قصائد(أغنية للبلشون الحزين) تظهر في الطاقة الجمالية الخلاقة التي تظهر في تفاعل الأنساق وتوازيها واكتنازها جمالياً مما يدل على شعرية بليغة، في هذا الشكل الفني أو ذاك.ودليلنا أن كل نسق جمالي في قصائدها يقتضي جمالياً الآخر؛ لتتحرك على أكثر من مستوى من الإثارة والتحفيز والحراك الجمالي.

إن قيمة الانتظام الجمالي-لاتحقق فاعليتها القصوى- إن لم ترتبط بالدلالة،وتسهم في إنتاجها؛ وهذا يعني أن براعة الشاعرة في تخليق الرؤيا الخلاقة؛ في قصائدها- ناتج لهذا الحراك والتفاعل الرؤيوي بين هذا الشكل اللغوي أو ذاك،وهذا ما يضمن عمق التفاعل بيم الشكل اللغوي والمنتج الجمالي الذي تثيره الأنساق في تفاعلها لترقى مستويات من الإثارة والتخليق الجمالي.

لاشك في أن غنى القيم الجمالية في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) تغتني بفاعلية الرؤيا الجمالية وقيمة الأحداث الجمالية في تحريكها؛ مما يدل على فاعلية قصوى من الإثارة والتحفيز الجمالي؛وكأن الحدث الشعري رهين المشهد المتحرك،وانتظام الرؤى في نسق شعري مكتنز جمالياً.

إن قيمة الانتظام الجمالي الخلاق في قصائد (أغنية للبلشون الحزين) ترتقي بفاعلية الأحداث وتناميها الجمالي؛ وكأن الوعي الجمالي الخلاق المنتج للمشاهد والصور والرؤى الصوفية المبدعة التي ترشح بالصور الإيحائية الدافقة بالشعرية والجمال، هو الذي قاد هذه القصائد إلى التفرد والتميز إبداعياً.

وبعد، يمكن القول: إن تقنية الانتظام الجمالي- في قصائد(أغنية للبلشون الحزين)- ليست ترفاً فنياً أو مغامرة نسقية سردية وصفية لاقيمة لها؛ وإنما هي حصيلة قيم ورؤى وأحاسيس شعورية صادقة في نقل مشاعرها للقارئ بكل فيوضات الرؤيا، وعاطفتها الحارة التي تعبر عن الذات،فهذه القصائد –على تنوعها واختلافها في الرؤى والمواضيع- بوحية تشي بفاعلية المنظور، وعمق الحساسية والرؤيا الشعرية، وهذا ما يحقق لهذه القصائد قيمتها إبداعياً في ظل الكثير من القصائد الوصفية التي نجدها عند غير شاعر من شعراء الحداثة المعاصرين.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى