الثلاثاء ٢١ آذار (مارس) ٢٠١٧

أنمار رحمة الله...و اسألهُم عن القرية(1)...

هــاتف بشبــوش

أنمار رحمة الله الأعرجي، قاصّ و كاتب وعضو في الاتحاد العام للأدباء العراقي. أسّس مع مجموعة من الأدباء الشباب (نادي الشعر للشباب) في اتحاد الأدباء2007. فاز في المركز الثّاني في الشّعر في مسابقة وزارة التربية للأدباء التربويين (المنطقة الجنوبية) سنة2011 بقصيدة (الوطن الحوت)، و في سنة 2012 عن قصيدة (الاعتراف الأخير). عُضو مُؤسس ومُشارك في (بيت السّرد العربي) الذي أقيم مهرجانه في النجف سنة 2011 ونال عدّة دُروع شهادات تقديرية من خلال مشاركاته في عدة مهرجانات من ضمنها (مهرجان الوركاء) و درع المشاركة في مهرجان (بيت السّرد العربي) و درع تقديري من وزارة الثقافة (دائرة العلاقات العامة).

أصدرت له مجموعة قصصيّة (عودة الكومينداتور) و له تحت الطبع مجموعة نُصوص عنوانها (رائحة الخيالات)، رواية تحت عنوان (الصراخ) و مجموعة قصصيّة (بائع القلق).

أنمار رحمة الله استطاع أن يصل إلى مركز مرموق في مجال السّرد المُكثّف بمدلولاته الاجتماعية والسياسية وما يتعلّقُ بالوجود و الحبّ.

أنمار في مجموعته قيد دراستنا هذه (و اسألهم عن القريـــــــــة) يرسمُ الموعظة من خلال مُجتمع مُصغّر وهي القرية التي اتّخذت مُعظم الجزء الأوّل في مجموعته هذه والتي استعان بها كاستعارة واقعية باعتبارها تُمثّل النّقاء في أجوائها الطقسيّة ثمّ المجتمعيّة المُصغّرة والتي نستطيعُ الانطلاق من خلالها إلى ما نبتغي إيصاله للقارئ في التّوسعة الأفقيّة والمكانيّة وحجم المُجتمع. وقد اعتمد أنمار في بوحه على أبطاله الذين اتّخذوا أدوارا مُهمّة في كلّ قصّة، و اتّخذوا اسم القصّة نفسها، مثلا قصّة الرسّام، الحكّاء، العازف، المُعلّم، وغيرها.

حيث أنّ القصص جميعها تمثّلت في بُطولة خالصة فرديّة فأعطاها الطبيعة الرونقيّة المُذهلة، إذ أنّ القارئ يميلُ للتّعاطُف مع البطل وخُصوصا البطل الذي يحملُ عُنصر الخير لا الشرّ. القارئ يميلُ للاستمتاع بقراءة القصص البطوليّة مثلما الاستمتاع الأكثر تشويقا في السينما وكيف نرى البطل يقوم بدور تحقيق العدالة ولو على نطاق ضيّق لكنّها في المعنى العامّ تُفيد من أنّ البطل هذا هو المُخلّص أو هو المُنقذ للشّعوب من الظّلم والحيف الذي يحلّ بها. ومن خلال أولئك الأبطال ينطلقُ أنمار إلى الشريحة الاجتماعية التي عاشوا فيها وما هي ردّة فعل المجتمعات هذه على أولئك الأبطال و ما هي العلاقة المفصليّة بين الأبطال وطبيعة تلك المجتمعات.أضف إلى ذلك يعتمدُ أنمار على إيصال الفكرة النهائية للقارئ بشكل صدمة أو هزّة عنيفة بحيث أنّ القاريْ مُجبر على الشّعور بها بدراية تامّة مثل أنّ أبطال القصص جميعهم كانوا على إدراك عميق بما يفعلونهُ و يستوجبُ المضيّ في فعله وإتمام ما يريدون أن يصبّوا إليه في ذلك المجتمع الذي يعيشون فيه مثلما حصل للفنان الهولندي الرسام فان كوخ وكيفية إرتعاشته الرهيبة أثناء قطع إذنه والصّدمة التي نتلقّاها ونحن نقرؤه أو نراه في الفيلم الجميل الذي مثّله كيرك دوكلاص وصديقه أنتوني كوين. فإنّ ما قام به فان كوخ من فعلٍ مستحيل اتّجاه صديقه وتقديمه أذنه كهدية، ومن ثمّ ردّة فعل المجتمع جعلت من هذا الفنّان مشهورا على مرّ التأريخ لأنّ الذي قام به هو ليس ضمن النّطاق الاعتيادي لأخلاق البشر وتضحيّاتهم وفدائهم بل هو حالة لا يُمكنُ لها أن تتكرّر.

لنقرأ قصة أنمار الأولى من مجموعته هذه (واسألهم عن القرية) حول الرسّام و ما قام به والذي هو الآخر مُعجبٌ بالطبيعة وجمالاتها كما فان كوخ الذي كان مُولّعا بالطبيعة واخضرارها و وُرودها وأشجارها وسحرها و طيوبها.

قصّة الرسّام...

القصّة تتحدّث عن قرية جُلّ أهلها نرجسيّون لا يرون جميلا سواهم كما نيرسس الأمير المُتبختر بنفسه حيث كان يرى صورته في المرآة مُتعجّبا مُنذهلا من جماله ولم يقبل بأيّ إمرأة أقلّ جمالا منه حتى انحنى ظهره من كثرة النّظر لنفسه في الماء فجاء المُصطلح الشّهير منه بما يُعرف بالنّرجسيّة ونبات النّرجس المُنحني على الماء. و لذلك الجمالُ لا يكفي مع النّفس السّوداء.

الكثير في العراق اليوم من الجهلة ينظرون إلى المُعمّمين و يقولون عن وجوههم تشعُّ نورا و جمالا لكنّهم في حقيقة الأمر ممسوسين لا يتورّعون في فعل العمل القبيح فما الفائدة التي تُرتجى من وجوههم المُشعّة نورا طالما لا نعرفُ منهم غير القُبح الذي جعل شعبا غالبيتهُ يميلُ إلى الرّشوة والسّرقة والفعل الدنيء لأنّ من يترأسُ السّلطة هم على شاكلة ما جاء في قصّة القاصّ أنمار هذه، مُتديّنون نرجسيّون يرون أنفسهم و وجوهم على أنّها مُزيّنة من السّماء لكنّ الأفعال مُؤطّرة بكلّ طحالب و إشنات هذا البلد المُتعب. بطلُ القصّة الرسّام القبيح في الخلق لكنّه صانعُ الجمال والمنظر ذو الرّوح الطيّبة، أراد أن يرسُم أحد الوجوه الجميلة في هذه القرية لكنّهم يطردونه بسبب قباحة وجهه و لم يتركوه يرسُم طبيعتهم وصُورهمْ ولا حتّى أطفالهمْ، لأنّ أطفالهُم يموتون عند الولادة ولهم مقبرة خاصّة وهذه أحد علامات غضب آلهة الخصب على هذه القرية القبيحة بأفعالها كما يحصلُ في عراق اليوم من قتل فضيع للطّفولة نتيجة العنف الذي يحمله العراقيّ، حيثُ تختلط البشاعة مع الجمال فلا نعرفُ كيف نُميّز الصّالح من الطّالح كما حصل مع الرسّام بطل القصّة هذه حين خرج يرقُصُ أثناء المطر في القرية (أُحبُّ المشي تحت المطر،لأنّه لا أحــد يرى دُموعي... شارلي شابلن).
ظلّ يرقُصُ ربّما كرقصة هارلم شيك نسبة لحي هارلم في نيويورك و التي أطلقها الشابّ الأمريكي (آل بي) لأولّ مرة سنة 1981. الرسّام يرقصُ فيراه أهلُ القرية ويتجمّعون حوله كي يطردوه وهم تحت المطر فسالت أصباغُ وجوههم وغسلها المطر و تبيّنتْ وجوههم الحقيقيّة القبيحة، وظلّ زعيم القرية يصرخُ: أين القبيح؟ أين القبيح؟ فلم يجدوه لأنّهم أصبحوا مثله فاختلط القبيح مع الجميل كما يحصلُ في عراق اليوم من خلطة اجتماعية عجيبة غريبة، لأنّه وإن أردنا الاعتراف بالجيّد في بعض شرائح الدولة و سارقيها لا نستطيع أن نُشخّص الجميل من القبيح لأنّ الحابل اختلط بالنّابل وأصبحت ظاهرة السّرقة أكبرُ ممّا نتصوّر، فعلينا أن نقول ونصرُخ مثلما كان يقولها الفيلسوف الدنماركي كريكجارد (إذا رأيت كاهناً، صِحْ، حرامي، حرامي، حرامي.).

نرى ممّا قلناه أعلاه من أنّ الجمال هو التصرّف المُمكن خارج نطاق التّقليد الاجتماعي، دون المساس بالأخلاق العامّة، هو احترام الآخرين بقدر إبداعهم، وهناك من جسّد الجمال الرّوحي في أعلى صُوره إنّه ماركس العظيم حين مرضت زوجته (جيني) بالجدري وشُفيت منه لكنّ المرض ترك لها بعض النّدوب في وجهها، فراح يقول لها: إنّك مازلت أجمل من ذي قبل، لكنّها لم تقتنع، و لذلك أصبح ماركس أشهرُ رجل في العالم احترم زوجته وأحبّها حُبّا روحيّا حقيقيّا خالصا.

يتجوّلُ الرسّام في القرية وتحت المطر، فيصادفُ امرأة عجوزا تقولُ في ريبتها:
(ألا تخاف من المطر..؟)،أجابها مبتهجاً: (الأطفال يعشقون المطر). لم تقل له شيئاً، رجعت إلى غرفتها لكن الرسّام أوقفها مُستفسراً هذه المرّة: (سيّدتي أرجوك لديّ سؤال!). صدعت لطلبه وهزّت رأسها مُستفسرة عن سُؤاله حين قال: (لم أر في القرية أطفالاً منذ حُضوري و إلى هذه اللحظة؟). تنهّدت ثم أشارت بسبّابتها صوب مدخل القرية متسائلة: (هل رأيت القبور التي تملأ المكان هناك؟).

الرسّامُ يخرجُ في المطر ويرقصُ وكأنّه طفلا مبهورا بجمال المطر والطبيعة إذ أنّ أكثر الانبهار أمام اللّوحة والطبيعة يأتي من الأطفال، لكنّه يتداركُ فجأة من أنّ القرية لا يتواجدُ بها أطفالٌ فتخبرهُ العجوز من أنّ القرية كلّما أنجبت طفلا يموتُ وهناك مقبرتهم وهذا هو حال القرية منذ زمن، فيتبيّن هنا من أنّ القرية رغم جمالها لكن عُنصر الخصب والضّرع فيها مقطوعٌ نظرا لسوء أفعالهم.فهؤلاء يبدون لي مثل شياطين و أبالسة بُرهان شاوي الذين تحدّثت عنهم رواياته الموسومة بالمتاهات من أنّهم بوجوه جميلة قادرة على الإغواء لا كما يتصوّرُهُم عامّة النّاس من أنّ الشياطين قبيحي المنظر، ولذلك يأتي الشّيطان بهيئته الشّقراء الفارعة في الطّول كي يغوي النّساء أو لفعل جريمة ما.

الذي يصنعُ الجمال في بعض الأحيان لديه عاهةٌ معيّنةٌ و لذلك تمنحُه الطبيعة خصلة أخرى كي يُعوّض ما ينقُصه، أتذكّرُ هناك حلاّقا أردنيا من أمهر الحلاقين في الأردن لكنّه قبيح المنظر ومُعاق وكلّ عروس في الأردن لابُدّ لها أن تتزيّن لدى هذا الحلاّق، لابُدّ لها أن تعرض خُدودها وخصلات شعرها كي يلهو بها هذا الحلاّق القبيح.

هذا الحلاّق القبيح هو صانعُ الجمال، كما وأنّه أصبح في متناول أقلام العديد من الأدباء. إنّني أرى أنمار رحمة الله هنا ينحى منحى الروائي الألماني مُؤلّف رواية العطر وكيف أنّ القبيح الذي وُلد في مزابل المدينة يصنعُ أجمل العطور للنّساء بعد قتلهنّ وسلخ جلودهنّ ثمّ صنع العطور من عصارة هذه الجلد لكنّ هذا القبيح رغم إجرامه يصوّرُهُ لنا القاصّ الألماني من أنّ له قلبا طيّبا حيثُ تتعاطفُ معه النساء في نهاية المطاف أثناء إعدامه، وهو يرشُّ عطور الإثارة الجنسيّة عليهنّ فيغتبطن وينتشين في حالة من الخدر المُثير.

ينتقل بنا أنمار من فنّ اللوحة الصّامتة (الرسّام) إلى فنّ الكلام والحديث والخطابة و ما هو دورها في ثقافة الشّعوب وتقاليدها و ما هي تأثيراتها مُستقبلا انطلاقا من حاضرها، ينتقلُ بنا إلى قصّة الحكّاء لنر أدناه:

قصّة الحكّاء....

قصّةٌ على غرار ليالي شهرزاد التي تختلقُ قصصا وهي على وسائدها المخمليّة وتطعمُ الملك الشّرير حبّات الفاكهة الطازجة. لكنّ الحكّاء هنا في قصّة أنمار رجلٌ شيخ يموتُ ثمّ يعودُ من القبر و يرى من أنّ أهل القرية لم يستقبلوه ولم يعيروهُ أهميّة كما كان من قبل لأنّ هناك حكواتي شابّ صغير حلّ بدلاً عنه. هكذا هي أحوالُ البشر حالما يموتُ المرءُ يُنسى في الحال وكأنّه مات منذ قرون أو كأنّه لم يعش أصلا. الحياةُ و مصالحها وخُصوصا في بلدان الشّرق وكيف نرى النّاس مُنفضّةّ مِن ليس له فضّة أو نرى النّاس قد ذهبوا إلى من له ذهبُ.

نهوضُ الحكّاء الشّيخ من القبر بهذه الطريقة التي يرويها لنا أنمار تعطينا مدلولات عن الطبّ، إذا أنّه من المُمكن أن يكون قد مات بالسّكتة القلبيّة التي يُمكن للمرء أن ينهض منها حيّاً من جديد إن شاءت الأقدار، إذ أنّنا لم نسمع عن شخص نهض من القبر سوى اليعازر الذي أحياه المسيح وأخرجه من قبره وهذا ما نقلته لنا المثيولوجيا الدينية و لا نعرف إن كانت صحيحة أم لا. نهوض الحكّاء من القبر يقتربُ من الفيلم الدّرامي والرّومانسي The Age of Adaline من تمثيل (هاريسون فورد ) والنجمة الجميلة (بلايك لايفلي)التي تموت في بركة من الثلج وتنهض من جديد وتكتسبُ مناعة ضدّ الزّمن فتبقى محافظة على شبابها و لا تكبُر نتيجة تغيير في هرمون الشيخوخة بينما الآخرون يُطعنون في السنّ وفي نهاية المطاف تتعرّفُ على حبيبها الأوّل وهو في عُمر السبعين بينما ما تزال هي في عمر العشرين، وتبدأ في صراع بينها وبين الآخرين وطريقة تفكيرهم وعمرها الطّاعن لكنّها شكلاً صغيرة مُثيرة جنسيّاً وباهرة كتفاحةٍ ناضجة، فيلم فنتازي يُذهل العقول و يعطينا الحق أن نقول انها الحياة المثلى عن تفكير البشر في الأبدية والعيش دون الخوف من الموت.

هــاتف بشبــوش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى