الخميس ٣٠ آذار (مارس) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

أضاعوني وأي فتًى أضاعوا

قال الشاعر العَرْجِي هذه الأبيات وهو في السجن:

أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسِدادِ ثـَغْـر
وصبرٍ عند معترَك المنـايا
وقد شُرِعتْ أسنَّتُها بنَحري
أجرِّر في الجوامع كـل يومٍ
فيا لله مَظْلَمَتي وصـبـري
كأنّي لم أكن فيهم وسيطًا
ولم تكُ نسبتي في آل عمرو

كان سبب حبسه أنه شبّب بأم محمد بن هشام (خال هشام بن عبد الملك)، وذلك عندما كان واليًا على مكة، ولم يكن هذا التشبيب إلا لفضيحة الابن ونكاية به، ثم إنه هجا زوجته، كما هجاه، فبقي في السجن تسع سنين، ومات فيه بعد أن ضُرب بالسياط.

ورد في الشعر والشعراء لابن قتيبة (ص 574) أن الذي حبسه هو إبراهيم بن هشام المخزومي (أخو محمد).

لما أفضت الخلافة إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك قبض على محمد بن هشام، وضُرب بالسياط ضربًا مبرِّحًا، ثم كانت نهايته، وكان ذلك انتقامًا للعَرْجي، إذ كان قريبًا للخليفة، حيث ينتميان بنسب إلى الخليفة عثمان.

حكايات طريفة وردت في الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني حول هذا البيت:

أبو حنيفة وجار له كان يغني بشعره

كان لأبي حنيفة جارٌ بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته، ويسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه. وكان كثيراً ما يغني:

أضاعوني وأي فتًى أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسِداد ثـَغْـر

فلقيه العسس ليلةً فأخذوه وحبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه من غدٍ فأخبِر، فركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إن لي جارًا أخذه عسسك البارحة فحبس، وما علمت منه إلا خيرًا. فقال عيسى: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعًا. فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة، وقال له سرًا: ألست كنت تغني يا فتىً كل ليلة:
أضاعوني واي فتىً أضاعوا ؟

فهل أضعناك؟ قال: لا والله أيها القاضي، ولكن أحسنت وتكرمت، أحسن الله جزاءك!

قال: فعد إلى ما كنت تغنيه، فإني كنت آنس به، ولم أر به باسًا. قال: أفعل.

حكاية كناس بالبصرة كان يتمثل بهذا البيت

قال الأصمعي: مررت بكناسٍ بالبصرة يكنُس كنيفًا ويغني:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثـغـر

فقلت له: أما سداد الكنيف فأنت مليءٌ به. وأما الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه – وكنت حديث السن فأردت العبث به – فأعرض عني مليًا، ثم أقبل علي فأنشد متمثلاً:

وأكرِم نفسي إنني إنْ أهنتُهـا
وحقِّك لم تكرُمْ على أحدٍ بعدي

قال فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيءٌ أكثر مما بذلتها له، فبأي شيءٍ أكرمتها؟ فقال: بلى! والله إن من الهوان لشرًا مما أنا فيه.

فقلت: وما هو؟

فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس.

فانصرفت عنه أخزى الناس.

قال إسحاق المَوْصِلي في خبره: غنيت الرشيد يوماً في عُرض الغناء:

أضاعوني وأي فتىً أضاعوا
ليوم كريهةٍ وسداد ثـغـر

فقال لي: ما كان سبب هذا الشعر حتى قاله العرجي؟

فأخبرته بخبره من أوله إلى أن مات، فرأيته يتغيظ كلما مر منه شيء. فأتبعته بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر وغيظه يسكن. فلما انقضى الحديث، قال لي: يا إسحق! والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحدًا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي.

(الأصفهاني: الأغاني، ج1، ص 399- 404 -طبعة دار الفكر).

العَرجي هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفَان.

لقب بالعَرجي لأنه كان يسكن عَرْج الطائف (منازل قربها)، وكان من شعراء قريش، وقد جرى على غرار عمر بن أبي ربيعة في كثير من شعره الغزلي، ومنه:

أماطتْ كساءَ الخَزِّ عن حرِّ وجهها
وأدنتْ على الخدّين بُردًا مهلهَلا
من اللاءِ لم يحجُجْن يبغينَ حسبةً
ولكن ليقتلن البريء المغفّلا

اشتهر بيت العرجي- "أضاعوني" حتى ضمّنه الشعراء في قصائدهم، ومنهم الحريري في قوله:

على أَنِّي سَأُنْشِدُ عِنْدَ بَيْعي ... أضَاعُونِي وَأَيَّ فَتىً أضَاعُوا

ابن اللبّانة الداني:

وأترك جيرة جاروا وأشدو
أضاعوني وأيَّ فتى أضاعوا

عبد اللطيف الصيرفي:

أيا أسفاه من أرجو بَقاهمْ
أضاعوني وأي فتى أضاعوا

بل هناك قصائد ضمّنت البيت كاملاً منها ما ورد في عينية لكل من ابن نُباتة المصري ويوسف بن هارون الرمادي وغيرهما.


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى