الخميس ٨ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
ابن خلدون..
بقلم ممدوح طه

عابر القارات وموحد الحضارات

ليس هناك ماهو أهم للأم الحية من الاحتفاظ بذاكرتها التاريخية ، ولاأعظم من الحفاظ على أرصدتها الثقافية والعلمية، ولاأكرم من حفظ قيمة رموزها الإنسانية الروحية والقومية والوطنية ، فى سعيها لاستعادة مكانتها الحضارية بين الأمم .

وليس هناك ماهو أسوأ من أن تفقد الأمة ذاكرتها تجاه تاريخها ورموزها ومصادرقيمتها سوى أن يبقى هذا التاريخ وهذه الرموز وهذه القيمة غائبة عن ثقافة أجيالنا الجديدة و حاضرة فى ذاكرة غيرنا من الأمم..

وليس هناك ماهو أسوأ من تجاهل إحياء تراث الأساتذة الراحلين من العلماء والمفكرين سوى الجهل بقيمة ماقدموه من إسهام علمى وفكرى ليس فقط لنهضة أوطانهم بل أيضا لمجمل الحضارة الإنسانية..

وليس هناك ماهو أسوأمن نسيان تكريم العلماء والمفكرين الأموات بعد رحيلهم سوى تعمد إهانة العلماء والمفكرين الأحياء فى حياتهم ..

وبالرغم من أنه مر ت علينا عقود طويلة عرف عنا خلالها أننا كعرب تعودنا على الاحتفاء الشديد و التكريم العظيم للمبدعين الكبار فقط بعد رحيلهم ،
وليس فى حياتهم .. حتى تردد بين المثقفين القول المأثور ل "أبى الأسود الدؤلى" القائل " إذا أردت أن تعظم أو تكرم فمت"،

فإن المفارقة المؤلمة أن العديد من المبدعين الراحلين اكتشفوا بعد أن ماتوابقرون أن أبو الأسود قد أخطأ فى مقولته ،وذلك بعد أن وصل بنا الحال منذ سنوات إلى حد لم نعد نحفل فيه لابالعلماء والمفكرين الأحياء ولا بالأموات إلا قليلا !.

والسبب يكمن فى تغير نسق القيم التى تطبع العصر المادى بطابعها غير الإنسانى ، الذى تتوارى فيه القيم الروحية و الأخلاقية والثقافية وتعلو فيه القيم المادية
والاقتصادية والبراجماتية..
وفى تضاؤل تأثير المبادىء وتزايد تأثير المصالح ، وتهاوى المعانى وتعالى المبانى ،وشيوع التبعية الثقافية وزيغ البصرنحو الآخر، وفقدان الثقة بالذات العربية وبلادة الحس نحو الذات الإسلامية، حتى صرنا فى مؤخرة قطار الحضارة المعاصرة بعد أن كنا فى المقدمة .

وبمناسبة المقدمة التى لم تعد تشغلنا ولاأصبحت هدفا لحركتنا ، والمؤخرة التى أصبحت هى واقع جمودنا ، فلقد وجدت نفسى مدفوعا من جديد للعودة إلى"المقدمة" التى كتبها العلامة العربى المسلم " عبد الرحمن إبن خلدون" فىقلعة بنى سلامة فى المغرب العربى فى العصور الوسطى وبالتحديد فى القرن الرابع عشر..
إبن الشرق الذى ذاعت شهرته فى الأندلس فى الغرب والتى إعتبر بها المؤسس العالمى لعلم الاجتماع وسبق بها " عالم الاجتماع الفرنسى الشهير" أوجست كانت" وسائرعلماءالغرب.

وفى المقدمه الخلدونية وقفت أتأمل أسرار العمران البشرى ، وعناصر نشوء الدول ومراحل تقدمها وأسباب انهيارها ، وكيف تتطور الأنظمة من الجمود إلى الحركة ومن التراجع إلى التقدم ومن التقدم إلى الى الاسترخاء ومن الحركة إلى السكون ..
ومذهولا وحائرا بين مبتدأه وخبره ومارواه بتحقيق وتدقيق كمؤرخ كبيريستخلص العبر عن أيام العرب والعجم والبربر.

ومبعث ذهولى هو كيف بدى إبن خلدون فى تناوله العلمى للظواهر السياسية والاجتماعية والحضارية معاصرا إلى هذا الحد ! ..
إننى فيما قرات من مقدمته هالنى مافيها من تناول منهجى و تأسيسى لأصول أكثر من علم وليس علم الاجتماع فقط ، مماأثارحيرتى فى الإلمام بموسوعيته ومايتوجب على أمام هذه الشخصية المتعدده الأبعاد والأعماق من كيفية التلقى منها والنظر إليها ..
هل باعتباره فيلسوفا أو إجتماعيا أم سياسيا أم اقتصاديا أم مؤرخا أم إعلاميا إذ يصعب أن تجتمع كل هذه الأبعاد العلمية والفكرية فى كتاب واحد لعالم واحد .!!

وللمفارقة فإن الذى ذكرنى بكتاب "مقدمة ابن خلدون "هو الاحتفال المهيب الذى نظمته إحدى دول الغرب وليس الشرق بمناسبة مرور ستة قرون على وفاته!!

ودعى إليها ملك إسبانيا لحضوره عددا من القادة العرب وأبرزهم رئيس مصرحيث محطة إبن خلدون الأخيرة ، ورئيس الجزائر حيث بدأكتابة مقدمته ، وأمين عام الجامعة العربية حيث ينتمى "أبوزيدعبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمى" ..
فهو ينتمى إلى "اليمن العربى" أصولا، حيث تعود جذوره إلى قبيلة " كندة" فى جنوب الجزيرة العربية ، وإلى" تونس العربية" فىالمغرب العربى حيث إليهاهاجرت عائلته وينتمى إليها مولدا، وإلى "مصر العربية "التى ينتمى إليها حياة ووفاة .

وفى مدينة "أشبيليه" الأندلسية التاريخية التى شهدت لقاءه الشهير مع ملك " قشتاله " الإسبانى المسيحىممثلا لملك "غرناطة" العربى الإسلامى فى حوار من أجل الصلح وإقامة السلام ، وبالتحديد فى القصر الملكى التاريخى حيث أقيم معرض ومتحف إبن خلدون فى ذكرى مرور ستمائة عام على وفاته كواحد من أبرز أساتذة الشرق وأحد المساهمين العظام ليس فقط فى حضارة الشرق والغرب بل فى الحضارة العلمية والفكرية للإنسانية جمعاء.

وكم يبعث هذا على الشعور باحترام الآخر الذى مازال يحتفظ بذاكرته التاريخية ، ويحفظ فيها للعلم والثقافة إسهامهم الحضارى ، ويفسح فى ذاكرته الإنسانية المساحة اللائقة للعلماء والمفكرين من أبناء أمتنا ولو بعد مرور ستة قرون من الرحيل .

وكم تبعث هذه المبادرة الإسبانية الغربية المسيحية إلى الأمة العربية والإسلامية من رسائل حضارية وهى المنطلقة تدعيما لدعوة واعية لحوار الثقافات أطلقها رئيس الوزراء الأسبانى " خوسيه ثباتيرو" فى إطار مبادرته الدولية المعروفة باسم " تحالف الحضارات" ، والتى كانت المبادرة الثانية بعد مبادرته الشجاعة الأولى بسحب القوات الإسبانية من " تحالف تدمير الحضارات" ضد العراق الذى علم العالم الكتابة فى أحد أعرق مهاد الحضارات فى التاريخ الإنسانى .

والسؤال هنا هو .. هل من المعقول أن يعرف العالم عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا .. وهل من المقبول أن يقدرالآخر قيمتنا بأكثر مما نقدر نحن قيمة أنفسنا ؟!

والواقع أننا بقدر مانملك من علم بحقيقة رصيدنا الحضارى، ومن ثقافة غير مريضة تترجم قيمنا وتعبر عن روحنا بقدر مايمكن أن نثق بأنفسنا ونستعيد ذاتنا لتكون دافعناإلى صنع التقدم على أرضنا وإلى الإسهام فىصياغة عالمنا المعاصر كما كان إسهامنا الحضارى فى عالم العصور الماضية ..

حينها نكون قد عرفنا أنفسنا تماما كما يعرفنا العالم ، ولانقول حينها نكون قد عرفنا من رصيد علمائنا ومن نبع ديننا العالم بأكثر ممايعرف عن نفسه ..

والسؤال الآخر هو .. هل يمكن لأمة من الأمم أن تواصل مسيرتها الحضارية إذاهى سمحت لنفسها أن تفقد ذاكرتها التاريخية أو أن تقطع صلاتها الروحية والثقافية والفكرية والعلمية ، أو أن تجهل أو تتجاهل قيمة أبنائها وأعلامها ورموزها الحضارية ؟!

والواقع أنها بهذا تطفىء مصابيحها فتفقد قدرتها على رؤية معالم طريقها إلى التقدم ، ويبعد عنها الوصول إلى الهدف بعد أن ضاع منها الطريق .

وأخيرا فلن يحترمنا العالم إلابقدر مانحترم نحن أنفسنا ،ولن يكون احترامنا لأنفسنا حقيقيا إلابقدر احترامنا الحقيقى لديننا وتاريخنا وتراثنا العلمى والثقافى والحضارى ، وفى القلب من هذا كله احترام رموزنا التاريخية وعلمائنا ومفكرينا ومبدعينا ومنحهم من الحرية والتقديرفى حياتهم مايكون أكثر جدوى من الاحتفاء والتكريم أمام شواهد قبورهم فىذكريات وفاتهم .

لكن المفارقة المؤلمة هنا هى أن أحدا فىمصرلايعرف حتى اليوم أي شاهد قبر لابن خلدون ، لأننا للأسف لانعرف أين دفن هذا العالم الجليل فى مصر !!
وهى التى اختارها لتكون محطته الأخيرة بعد طول ترحال ونضال عبر البلدان والممالك والقارات ..

وهى التىعاش فيها قاضيا وأستاذا للفقه بأزهرها الشريف ، ومنها تحرك مع الحملة العسكرية إلى الشام لصد العدوان المغولى الزاحف باتجاه مصر، وقام بمبادرته الخلدونية الشجاعة فى حوار ثقافى ودبلوماسي نادرمع " تيمور لنك " لفك الحصار عن " دمشق"..

وهى" مصر" التى عاد إليها ليدفن فيها عام 1406بعد سنوات قليلة من حملة جهاد فى "الشام" ، ورحلة حج إلى "الحجاز"..

وهى مصر التى هام بها حبا وكتب عنها قائلا:
" لقد رأيت حديقة العالم و مجمع الأمم و بستان الزمان وقصر الإسلام " .
هذه لمحة عابرة ولقطة خاطفة عن " ابن خلدون "
الذى عاش حياته مهاجر ا ، وسعى إلى مراكز العلوم مسافرا ، وفى القصور الملكية كاتبا ووزيرا ، وفى السجون معارضا وثائرا ، ومن الجزيرة العربية إلى الأندلس الأيبيرية عابرا ، وللعلوم معلما وللحضارة العربية والإسلامية مساهما ومجددا وللحضارة الإنسانية مؤرخا وموحدا .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى