الثلاثاء ٢٣ أيار (مايو) ٢٠١٧
بقلم فاروق مواسي

مع الشهرة موقف مضادّ

المتنبي- نموذجًا

لا يظن ظانّ أن الشهرة ليست لها من يعارضها أو يخاصمها، بل من يعاديها، فكلما اشتهر المرء وجد له من يقلل من شأنه، ويثبّط من عزمه، سنّة الله في خلقه حتى مع الأنبياء والفلاسفة والمصلحين، وكل من كان له خطاب مبين.

أقول هذا وأنا أتصفح هذا السيل العرِم من الهجمات على شاعري الأثير أبي الطيب المتنبي، وهو مالئ الدنيا وشاغل الناس- كما وصفه ابن رشيق.

المتنبي في عصره وحتى اليوم محطّ الأنظار، تجد من ينافح عنه، ويستشهد به، وتجد من يقلل من شأنه، ولا أدل على الموقفين من كتاب علي بن عبد العزيز الجرجاني: (الوساطة بين المتنبي وخصومه)، وفي عصرنا الحديث كتاب (المتنبي بين ناقديه) لمؤلفه: محمد عبد الرحمن شعيب.

مئات من الكتب كُتبت عن المتنبي في مدحه وفي قدحه وفي نقده عامة.

أما المدح فهو لا يحتاج إلى براهين، وذلك بسبب قوة شعره لغة ومعنى، جزالته، وحكمته، فخره بعروبته، طاقته الوصفية الإبداعية، ولغته الجمالية ذات الإيقاع الرنان...إلخ.

ولعل السبب في ذمّه يعود أولاً إلى حسد الشعراء، وبذلك يخاطب المتنبي سيف الدولة:
أزل حسَد الحسّاد عني بكبتهم *** فأنت الذي صيّرتهم ليَ حُسّدا

ثم هناك أسباب تتعلق به، نحو ما وقع فيه المتنبي من إشكال لفظي أو معنوي، أو لأنه جرى على نسق سابق من الشعر- الأمر الذي أنكره عليه النقاد.

بالإضافة إلى ما يرونه فيه من "الغرور" إلى درجة قوله:

إن أكن مُعجبًا فعجب عجيب
لا يرى فوق نفسه من مزيد
أنا ربّ الندى وتِرب القوافي
وسِمام العدا وغيظ الحسود
أو
واقفًا تحت أخمصيْ قدرِ نفسي
واقفًا تحت أخمصيّ الأنام
أو:
وكل ما قد خلق الله وما لم يخلق
محتقر في همّتي
كشعرة في مفرقي

وفي الأدب:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويحتكم

فشخصيته المترفعة لا شك أنها تستدعي موقفًا مناهضًا، ولا ننس هجاءه الفاحش لهذا وذاك، حتى أن هجائيته لضَبّة كانت سببًا في مصرعه في دير العاقول في العراق سنة 965 م.

من الكتب التي هاجمته كتاب الحاتمي "الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره"، وقد أحببت أن أثبت بعضًا منها، لتتعرفوا إلى وصف دقيق من الحياة الأدبية والاجتماعية آنذاك، خاصة وأن بعض الحكام كانوا يؤلّبون عليه، وهي من المحاورات النادرة مع المتنبي أو سواه:

"قال أبو علي الحاتمي: كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداءَ الكِبْر، وأذال ذيول التيه، وصعّر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدًا إلا نافضًا مِذْرَويه، رافلا في التيه في بُرديه، يخيّل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروضٌ لم يرعَ نُوّارَه سواه، فدلّ بذلك مُدَيدة أجرّتْه رسنَ الجهل فيها، فظلّ يمرح في تَثَنّـيه، حتى إذا تخيل أنه القريعُ الذي لا يُقارَع، والنزيعُ الذي لا يجارى ولا يُنازَع، وأنه ربّ الغلَب ومالكُ القصَب، وثقلتْ وطأتُه على أهل الأدب بمدينة السلام، فطأطأ كثير منهم رأسه، وخفض جناحه، وطامنَ على التسليم له جأشَه، وتخيل أبو محمد المهلبي أن أحدًا لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معزّ الدولة أن يرد عن حضرة عدوِّه رجلٌ فلا يكون في مملكته أحدٌ يماثله في صناعته ويساويه في منزلته، نهَدتُ حينئذ متتبّعًا عُوارَه، ومتعقبًا آثارَه، ومطفيًا نارَه، ومهتِّكًا أستاره، ومقلّمًا أظفاره، وناشرًا مطاويَه، وممزقًا جلبابَ مساويه، متحينًا أن نجتمع، وأجري وهو في مضمار يُعرفُ فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحلّه في رَبَض (مسكن ف.م) حميد، فوافق مصيري إليه حضورَ جماعة تقرأ شيئًا من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعًا، ووارى شخصه عني مستخفيًا، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناحية،ـ وهو يراني نازلا عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيتُه، فجلست في موضعه، وإذا تحته قطعة من زيلَوٍ (لحاف- كلمة فارسية ف.م) مُخْلَقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون، فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى إذا خرج إليّ نهضت إليه فوفيته حقّ السلام غير مُشاحّ له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية: كلّ قَباء منها لون، وكان الوقت أحرّ أيام الصيف وأخلقَها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس، وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفَه ولا يسألني ما قصدتُ له، وقد كدت أتميّز غيظًا، وأقبلت أسخّف رأيي في قصده، وأفنّد نفسي في التوجّه نحو مثله، ولوى عذاره عني مقبلا على تلك الزِّعنَفة التي بين يديه: كلّ واحد يومىء إليه ويوحي بطرفه، ويشير إلى مكاني بيده ويوقظه من سِنَة جهله، ويأبى إلا ازورارًا ونِفارًا وجريًا على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثنيَ رأسه إليّ، فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك؟ قلت: أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلّفت قدمي في المصير إلى مثلك. ثم تحدَّرت عليه تحدَّر السيل إلى القرار وقلت له: أبِـنْ لي عافاك الله: ممّ تيهك وخُيَلاؤك وعُجْبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبُّر والتنمّر؟ هل ها هنا نسبٌ في الأبطَح تبحبحت في بَحبوحة الشرف وفرَعت سماء المجد به؟ أم عِلم أصبحت علَمًا يقع الإيماء إليك فيه؟

هل أنت إلا وتِدٌ بِقاع في شرّ البقاع، وجُفاءُ سَيل دفّاع؟ يا لله، استنّت الفِصال حتى القرعى، وإني لأسمع جَعجعة ولا أرى طِحْنًا.

فامتُقِع لونه عند سماع كلامي، وعَصِب ريقه وجحَظت عيناه وسُقِط في يده، وجعل يلين في الاعتذار لينًا كاد يعطف عليه عطفَ صفحي عنه، ثم قلت: يا هذا إن جاءك رجل شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغّرت أدبه، أو متقدّم عند سلطانه لم تعرف موضعه، فهل العزّ تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكِبر سترًا على نقصك، وضربتَه رُواقًا دون جهلك. فعاد إلى الاعتذار، وأخذت الجماعة في تليين جانبي والرغبة إليّ في قبول عذره واعتماد مياسرته، وأنا آبى إلا استشراء واجتراء، وهو يؤكد الأقسام ويواصلها أنه لم يعرفني، فأقول: يا هذا ألم يُستأذَن لي عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه العصابة من يعرّفك بي لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك، ألم ترني ممتطيًا بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل، وبين يديّ عدة من الغلمان؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شممت نشرَ عطري؟ أما راعك شيء من أمري أتميز به في نفسك من غيري؟ وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفّضْ عليك، ارفَقْ، استأنِ، فأصحبَ جانبي بعضُ الأصحاب، ولان شِماسي بعضَ اللَّيان، وأقبل عليّ وأقبلت عليه ساعة ثم قلت:

أشياء تختلج في صدري من شعرك احبّ أن أراجعك فيها. قال: وما هي؟ قلت:

خبرني عن قولك...." (يبدأ بمناقشته في أبيات له مبيّنًا خطأها في رأيه).

وردت هذه المادة في (الرسالة الحاتمية)، وهي واردة كذلك في (الرسالة المُوضحة في ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره) للحاتمي، ص 6- وفيها توسع، واستطرادات و"أخذ وعطاء" مع المتنبي. وبسبب التوسع اكتفيت باقتباس ما اختاره ياقوت الحموي في ترجمته للحاتمي: معجم الأدباء، ج18، 160- 161.)

أما في الشعر فقد كانت هجائيات صُوّبت نحوه، من أبرزها ما تناول حسبه ونسبه:

أيّ فضل لشاعر يطلب الفضـ
ل من الناس بكرةً وعشيّا؟
عاش حينًا يبيع في الكوفة الما
ء، وحينًا يبيع ماء المحيّا.

أما الحسين بن الحَجّاج فقد هجا المتنبّي في قوله:

يَا ديمةَ الصَّفع صُبيٍّ
علَى قَفا المُتنبُّي
وَيَا قَفاهُ تَقدَّمْ
حَتَّى تَصيرَ بْجَنْبِي
وأنت يا ريح بطني
على سباليه هبّي
إنْ كُنت أنتَ نَبيًّا
فَالقِرِدُ لا شكَّ رَبي

ويقول ابن لَنْكَك:

قولا لأهلِ زمانٍ: لا خلاقَ لكم
ضَلّوا عن الرشد من جهل به وعَموا‏
أعطيتمُ المتنبي فوق مُنْيته
فزوِّجوه برغمٍ أمهاتِكُمُ
لكنّ بغدادَ جاد الغيثُ ساكنها
نِعالُهم في قَفا السقّاءِ تزدحمُ

أرأيتم أن للشهرة ثمنًا؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى