الأربعاء ٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم يسري عبد السلام صبري

استشهاد ضرورة ملحة

الكشك الخشبى رغم ضآلته والتصاقه كمتسول بالحائط الشرقى للمسجد الفخم هو هنا بؤرة للأحداث ومركزا للاهتمام وقبلة للمريدين الجالسين أمامه مفترشين الأرض ، أو جالسين فوق مصاطب البيوت المجاورة ،أو الواقفين وأنا مهعم فى انتظار الفرج. شمس يونيو بدات تلسع فروة رأسى قليلا ،فاكتشفت أن كل الموجودين فروات رؤوسهم ليست مكشوفة مثلى ، ولكن تغطيها الطرح والطواقى والإيشاربات والشيلان،و العيون تغطى النظارات الكثير منها ، حتى أن النظرات الكثيرة التى صوبت نحوى منذ قدومى عرفت بسهولة أننى مستجد .لم يكن الكشك مهيئا لاستقبال مريديه بعد رغم أن الساعة قاربت العاشرة ، وكان يبدو -رغم ضآلته والتصاقه كمتسول- ذا نفوذ وهيمنة لا قبل لأحد بها.

ألم يقل لى صديقى الصادق لى هذا من البداية ؟ ولكنه فى الوقت نفسه لا يبدو للعاديين أكثر من مجرد ألواح خشبية متراصة ،تشكل فى مجملها مكعبا ،ارتفاعه الذى يقارب المترين هو أطول أضلاعه،وللكشك شباكان موازيان لحائط المسجد،وباب يبص بشراهة ناحية الجنوب،دون أن يعير شجرة الفيكس التى أمامه أدنى اهتمام ، ولا حتى عامود الإنارة الذى يلى الشجرة،أو شجرة الفيكس الثانية المجاورة لكشك الكهرباء الحديدى الملتصق تماما بالمسجد،فيما أصبح الخبط المتوالى على معدنه تسلية للطفل الواقف بالقرب من أمه وسط جزء منتظر من البشر،يثرثرون لقتل الوقت ويتنادون بأسمائهم مجردة.بجوار الكشك المعدنى يجلس رجل لإصلاح البواجير والبراريد، وأمامه عدته،وعلى مقربة من الكشك الخشبى تقبع بركة مياه صغيرة بين الإسفلت والأرض الطينية التف حولها مجموعة من البط للشرب.كنت قد اخترت مكانا ظليلا فى نهاية العمارة المقابلة بوابتها للشلرع الجانبى للمسجد الفخم،بحيث لم يكن باستطاعتى أن أرى إلا جزءا يسيرا من الشارع الجانبى يشمل المدخل الوحيد للمسجد بدرجاته الرخامية و.......
هل قلت اننى من اختار المكان؟ هى لسعة الشمس بالتاكيد من فعلت فعلتها بفروة رأسى طوال الساعة التى أمضيتها منذ مجيئي متجولا، ومتفحصا، ومتناسيا أن ثمة شمس فوقى قبل أن يختارنى المكان، وما هى إلا التصاقة البنطلون بالمصطبة،والقميص بالحائط،حتى هل علينا عامل البلدية الضخم دافعا أمامه عربته الحديدية، وعلى وجهه ابتسامة عريضة تحيط المكان كله بمن فيه،و قال بمجرد أن توقف:-هما لسه ما دبحوش ولا إيه؟ ليرد عليه باسما الرجل الذى عن يسارى :-لسه.ففزعت ،وفى سرى صببت اللعنات على من كان صديقى ذات يوم ،ولم أهدأ حتى عاد لانتظارى أهميته وللكشك الخشبى المغلق لا يزال نفوذه وهيمنته،وفى سرى أيضا تأسفت لصديقى الصادق،واضطررت لمشاركة الجميع بسمات مزاحهم الذى لا أفهم معناه. وسرعان ما انسحب عامل البلدية من تحت سياط الشمس النازلة على رأسه خلال الشارع المجاور لعم سيد الذى عن يسارى،فتململت بائعة الطعمية. كنت قد لاحظتها ولاحظتنى منذ مجيئى ، وأدركت قبل مرور الدقائق العشر الاولى أن البيت الذى تفترش الأرض أمام مصطبته بيتها،وتساءلت كثيرا رغم المدة القصيرة التى أمضيتها هنا: كيف تتحمل سياط الشمس النازلة على رأسها؟ أم أن وجودها مرتبط كالكثيرين هنا باليوم العاشر من كل شهر؟وهكذا عندما انسحب عامل البلدية، وتململت البائعة فهمت الفولة؛هى تجلس بين بابين :باب بيتها والباب الجر للدكان،وإذتتململ تنهض وتفتح الباب الجر عاليا لتخرج من الدكان بطانية وعودى خشب طويلين،للبطانية قطعتا قماش ملضومتان بزاويتين متجاورتين:أحدهما للربط فى الحديدة العالية للباب الجر والأخرى للربط فى أعلى حديد باب البيت،أما الزاويتان الأخرتان للبطانية فملتصقتان بالعودين الخشبيين من طرفيهما ،بينما طرفاهما الآخران يلتصقان بزاوية المصطبة التى تستند البائعة عليها،بعد ذلك تجلس أمام حاجياتها وأمامها تتدلى العصا الملفوفة بعرض البطانية،وبجوارها زيرها الصغير وطاسة الزيت وحلة العجينة وقدرة الفول التى على إحدى يديها تستند الكبشة،وأنبوبة تزيد البائعة تدفق غازها أحيانا،وعندما يطش الزيت تقلل الغاز،ثم تتريث قليلا قبل أن تضع قطع الباذنجان والعجينة بعد أن تتخذ شكل قرص.

لم يكن أي من الجالسين عن يمينى منشغلا مثلى بالبائعة، وإنما كان حوالى سبعة منهم يتحدثون عن شخص ما يدعى عمر ،وتساءل أحدهم:-هو اسمه عمر إيه؟ هنا هجم عم سيد على حديثهم الجماعى، وقال لصاحب السؤال:-أهو اسمه عمر وخلاص، هو انت هاتسقى ف مرقته؟ ثم غنى مناكفا صاحب السؤال: لا والبنى يا عبده.وعندما لم يرد عبده سألت عم سيد وأنا أشير للكشك:-هو بييحى إمتى؟فقال بصوت تعمد ان يكون عاليا:-بييجى وقت ما ييجى بأى. أهو انت قاعد وخلاص. بعدها بدقيقة واحدة وصل المنتظر ببنطلونه الزيتى وشنطته الجلدية بنية اللون وقميصه الكاروهات وكندورته الرصاصية، فسرت فى الجميع همهمة،وعندما فتح باب الكشك قال عم عبده بثقة:
 بس دا مش سيد. وتساءلت عجوز تفترش الأرض أمام مصطبتنا
 هل قلت مصطبتنا؟
_وكان سؤالها موجها تحديدا لعم سيد:
 هو مش سيد ده؟ فأجاب الرجل:-أهو واحد بيطوحه الهوا وخلاص ،بس عبده بيقول مش سيد. لم أكن أعرف فى الحقيقة هل أفرح لمجيئ المنتظر ، أم أحزن لكونه ليس سيدا، لكن كيس الخبز الذى جاء حاملا إياه طمأننى نهائيا أن هذا الكشك الذى تحاوطه بمجرد فتحه الأنفاس الحارة المريدة ليس لطابونة تبعد عنه قليلا،وإنما هو-كما أخبرنى صديقى الصادق-كشك لمعرفة النبوءات وفك الطلاسم وامتزاج الأشياء بالأشياء؛ فتهون فى سبيله كل مشقة وكل انتظار ،وعار على من سمع عنه ولم يزره أن يدعى المعرفة. والحق أننى شعرت عندما فتح الكشك بنسمة هواء خفيفة، لا ينقص الاستمتاع بطراوتها إلا إخراس الصوت الذى يردده طفل جالس مع آخر فوق عربة كارو تمر أمامنا :
 البطاريات القديمة والبلاستك القديم والنحاس القديم للبيع.وعلى العكس تماما لم ينقص هذا النداء استمتاعى لأنه أزعج مجموعة البط الهادئة فى مكانه الظليل،ليس لهذا مطلقا نقص استمتاعى، بل لأنه شيط رأسى مثل بمبة جرب أحدهم فرقعتها فى جمجمتى،وتلقائيا تحسست مكان الفرقعة،وكأنما لأتأكد من سواد شعرى وسط هذا الحشد الذى يربو أغلبيته على الستين من ذوى الشعر الأبيض.وكنت على وشك أن أنتقض عهدا قطعته لصديقى الصادق يجيز لى السؤال فى الهامش دون المتن لولا أننى تذكرت الله . وشغلت نفسى بعد الموجودين ، وما أكثر المرات التى باءت محاولات العد بالفشل، إما بسبب توكتوك أنزل مريدا ، أو لقدوم آخر سيرا على قدميه . وكان الجميع يتزاحمون حول الكشك لإعطاء من بداخله شيئا ما لم أستطع تحديد كينونته، ثم يعودون، إلا عم سيد لم يعد، وظل بجوار الكشك يفرك بإصبعيه حنجرته،وعندما تتعب يده يضعها فى فتحة جلبابه البلدى . وعندما استوعب الكل فرحة مجئ المنتظر بدات الطلبات تنهال تباعا على بائعة الطعمية ،ودبت بعض راحة فى النفوس التى أجهدها صبر الانتظار ،ووصل الأمر بسيده من الجالست فى الطرف الأقصى لمصطبتنا ،حيث يقبع الكشك الخشبى فى مواجهتهن مباشرة أن تشترط على أخرى قطعت أكثر من نصف الطريق للبائعة:-ما تجبيش ساندويتش ،هاتيهم كده عشان انقى اللقمة براحتى.

ومن الأرض ظهرت أكواب بلاستيكية برتقالية اللون بدأ الصغار يملؤنها من الكولدير المجاور لباب المسجد.وخد يا وله .خدى يا بت.والحكاية كلها طفل فى السابعة وطفلة تصغره بضفيرتين، وهكذا عندما اقترب الطفل من عم عبده ناداه:-هات يا حبيبى هات.ربنا يسترها معاك. دانت هاينوبك أجر عظيم.ربنا يكرمك يا ابنى.لكن عم عبده أجل شربته عندما سمع مثلنا زعيقا خارجا من الزحام حول الكشك :-ياعالم حرام عليكو كده .والله عيب.وسعوا الباب للى داخل.ثم تقلصت ملامحه وسمى وشرب، وفى غفلة من الجميع ولدت مملكة بكاملها من الأصوات المتباينة المتداخلة بشر بها من بعيد بائع يروج لبضاعته مناديا:-ع السكينه يا بطيخ ،حمار وحلاوه يا بطيخ.وأكد البشارة صياح المنتظر من داخل كشكه:-عزيزة محمد إبراهيم؟ ليتناقل المتجمهرون صياحه بصوتهم الجماعى كما لو كانوا فى تظاهرة أوركسترالية:-عزيزة محمد إبراهيم؟ وترد عزيزة من جنب بائعة الطعمية:-حاضر. وتقول للبائعة بعد أخذ ساندويتشها استعجالا لأخذ باقى نقودها:- شهلى يا به.

فتدرك البائعة أن الوقت المطلوب لعد الباقى لن تسامحها عليه نظرات المتجمهرين النارية حول الكشك الخشبى، فتقول لعزيزة:-طاب روحى انت بس. فتجرى عزيزة ،ولا تنسى وسط معمعة دبيبها المتعجل أن تاتمن إحدى الجالسات على ساندويتشها قبل أن تنحشر وصولا للمنتظر مثل ملعقة تنغرز فى طاجن مكرونة بالباشاميل. لحظتئذ سأشعر بوجع خفيف فى ظهرى، وسأريحه بوقوفى فوق المصطبة، وعندما تخرج عزيزة من طاجن الباشاميل ضاحكة مستبشرة سيزول الوجع ، فأجلس ثانية دون أن أستوعب ما جرى فى الدقيقتين اللتين أمضاهما شخص ما واقفا لإراحة ظهره فوق مصطبة، ولن أكون مهيئا للرد_إلا بابتسامة نصف بلهاء_على سيدة تجلس أمامى اختارتنى لتقول:-أنا هاركب وآخد الحبتين، وانام على طول. كلت اللقمة وحمدت ربنا. وستقول نفس هذه السيدة لطفلة وهى تناولها الكوب البلاستيكى البرتقالى اللون فارغا:-تنجحى انت واخواتك يا منى يا عسل.بعدها ستلفظ مملكة الأصوات المتباينة المتداخلة آخر أنفاسها على يد العجوز الجالس عن يمينى مباشرة عندما يطلق واحدة من زفراته الطويلة المملوءة بكلمة:-آاااه.ثم سيستند طويلا بجبهته على يديه الساندتين بدورهما على عصاه، بيننما الممالك من حوله تولد وتموت، ولن يخرجه عن صمته الآخذ ضربة شمس إلا صوت امرأة تسأل:-حد عطشان؟عطشان يا عم سعد أجيبلك تشرب؟ ساعتها فقط سيرفع جبهته عن يده، وسيجيبها بأدب مبتسم:- متشكرين يا باشا. وثانية، وببطء شديد سيريح جبهته، وستقل المساحة التى تمتد فيها بطنه للأمام وتعود،حتى تتلاشى، وسيحدث أن ترتعش أكتافه قبل أن ترتخى عضلات يديه؛ فأنقبض ،لكننى سأحاول أن أبدو طبيعيا أمام بائعة الطعمية التى تسدد نظراتها القلقة نحوى لا تزال ، وسأحاول كذلك أن أبدو طبيعيا وأنا أسمع الزعيق الجاف الآتى كغراب أسود من زحام الكشك:- وسعوا له بأى شباك يجيب له هوا. انتوا كده كاتمين عليه.فمتوثانيتها كنت مثل سفير اختطفته جماعة تبحث عن متنفس لتفريغ أوجاعها ،وكانت ثمة بطاقة هوية ورخصة قيادة تمر أمام ذاكرتى فتوجعنى،لكننى آثرت معاتبة صديقى الصادق والصبر،ولن يأتى الفرج إلا مع آذان الظهر الذى أقامنى، وأدخلنى المسجد، ووضأنى، ودفعنى للصف الأول، لكننى لن أستطيع منع عينى من اختلاس نظرة لعم سعد من خلال الفتحات الأرابيسكية لشباك المسجد،و سرعان ما سأتيفن من بقاء الوضع على ما هو عليه،وستؤكد لى نظرة القيام الثانى نظرة القيام الأول،والقيام الثالث سيؤكد الأول والثانى،والرابع سيؤكد الأول والثانى والثالث. ولن يبقى أمامى إلا التسليم والتروى والدعاء أن ينشغل مكانى، لكن الأمر سيختلف وأنا أبرم الشنيطة لعقدة حذائى. سأكون حينها جالسا على رخامة درجة من الدرجات الخارجية للمسجد، وسألمح حركة.لم تكن الحركة صادرة عن عم سعد بالمرة،و لكنها ستكون تحديدا على كتفه الأيسر، وعندما سيتأكد عم عبده أن خبطاته أضعف من أن تحدث استجابة سيكررها،وسينادى:- سعد، يا سعد. لحظتها فقط سترتفع رأس عم سعد ببطء أوزة سمينة تحاول التحليق، وستكون وكأنها المرة الأولى فى حياتى التى أشعر فيها بالسعادة.وسأكون قد اقتربت كفاية لأسمع عم عبده بوضوح وهو يقول له:-قوم بينا نقعد فى الضله. فيقوم عم سعد،وسأكون مع كل خطوة من خطواته الثقيلة فى ضرورة ملحة للصياح عاليا:-سعد،سعد،يحيا يعد. لكننى سأذبح هذه الضرورة الملحة بخسة، وسأصنع بخيالى علامتى نصر مجرمتين بكلتا يدى ، فقط كيلا أبدو مغفلا أمام بائعة الطعمية. والغريب أننى سأنسى كتلة النار المتعامدة فوق رأسى تماما ، ولن يذكرنى بها إلا نقطة عرق انحدرت عن حاجبى ولسعت عينى، فأفركها وأنا لا ازال غير مستوعب أن يكون مصلح البواجير ما هو إلا واحد من هؤلاء المريدين الذين يرددون فى أصوات متعبة فقدت أوركستراليتها :-على حسنين؟على حسنين؟ ثم يظهر على، وتفسح له بعض من الأيادى الكثيرة الموضوعة على شجرة الفيكس المقابلة لباب الكشك، وبعض من الأيادى الكثيرة الموضوعة غلى الكشك ذاته،ثم يخرج وهو يضع شيئا ما غى جيب جلبابه العلوى، وسرعان ما سيغادر المكان بعد أن يأخذ باجوره ويعطى للمصلح أجرته،فأقرر الجلوس .

فى البدية لم يظهر لى ما يؤكد كون مصلح البواجير واحدا من المريدين ، ربما لأنه كان منهمكا فى التصليح طوال الوقت تقريبا،مع ملاحظة أنه كان يغادر المكان بدراجته أحيانا، لكنه لم يكن يتغيب طويلا ، وعندما يعود كان يركن الدراجة خلف الكشك الخشبى ويعاود التصليح ، لكن ذلك كان فى زمن ذبح الضرورة الملحة وإخفاء جسمانها ، وأطنه لن يتكرر بعد ذلك إلا إذا كان الرجل يمتلك قدرة خارقة على التصليح فى عمره هذا وتحت هذه الشمس ، وعموما لم يكن المكان الذى اخترته للجلوس فيه مريحا كالسابق، لكننى منه استطعت بجلاء رؤية هزهزات الكشك الخشبى الناجمة من تجمهر المريدين حوله ، ومنه استطعت تتبع النظرات الثعلبية لعم سيد بشاله الأبيض الملفوف بإتقان حول طاقيته الصوف ، ومنه سأرى الرجل الذى سيشخط بغضب:-ما تقعدى يا وليه انتى وهيه، إيه الكلام ده؟ وعندما تبدأ المشاحنات والشد والجذب بين زحام المريدين ستنسحب المرأة التى انتقت اللقمة على راحتها،و ستعود للمصطبة قائلة: يا ريتنى ما قمت. العصر هايدن ولا كأننا جينا بدرى ولا اتنيلنا، بدرى زى وخرى؟ ثم ستبخ مرتين من بخاخة أخرجتها من كيس معها، وسرغان ما ستعيدها إليه .فى الحقيقة لم تكن الساعة قد تجاوزت الثانية إلا الثلث بعد، ولكن كل من كان يلاحظ بائعة الطعمية وهى تلم حاجياتها كان يشعر بالانقباض .والوجوه كانت تكسوها طبقة سميكة من الإرهاق المبلل بالعرق، عدا عم سيد ؛فهو الوحيد الذى لا يزال محافظا على هدوئه وابتسامته الساخرة التى يزيدها سخرية فمه الحالى من الأسنان إلا من ناب بلون شنطة المنتظر الجلدية. فجاة بكى أحد الواقفين فى الزحام ، بكى بحرقة.كان عجوزا جدا، ولظهره انحناءة ظلت تهتز وهو يصرخ قائلا:- أنا هنا م الفجر حرام عليكو،حرام عليكو،حرام عليكو. فضحكت، ولم يكن ضحكى-لا سمح الله-لاهتزازة انحناءة ظهره، ولا لأنه كان يمسح عرقه ودموعه بقماش الزاوية الداخلية لكوعه مثلما أفعل بالضبط عندما أبكى بحرقة، ولا لأن صوته الشبيه بصوتى اختنق عندما انفعل مثلما يختنق صوتى بالضبط ، ولم يكن ضحكى كذلك بسبب حساباتى العبيطة التى وصلت فى هذه اللحظة الحرجة التى اختلطت على فيها كل الأشياء، وامتزجت ببعضها البعض إلى حتمية أنه كان يقف فى شبابه بطريقة مشابهة لوقوفى كأنه أنا ، أو كأننى هو، كلا لم يكن ضحكى لهذا أو لذاك ، بل لأن صوت العجوز المختنق ودموعه العجوزة استطاعا أن ينكشا كل هذا الغضب فى قلب المنتظر ، للدرجة التى جعاته يغادر كشكه دافعا بيديه مريديه فى حالة من الهياج ظننت معها أنه حتما سيتعدى على العجوز بالضرب ، لكنه اكتفى أن يشخط فيه بشدة قائلا:
 يعنى اعمل لك إيه؟ هو مش فيه دور؟ لم يكن منظر العجوز يوحى بأنه يمتلك من القوة ما يكفى للرد ، فتجرأت امرأة وأشارت بذيل عصاها إلى المنتظر فى الفراغ الذى صنعه بنفسه، وأجابته تطوعا:- وكان فين الدور لما كنت بتمشى الخواطر؟ فتجاهل الموظف الحكومى سؤالها، وعاد لكشكه بعد أن نظر للجميع بازدراء قائلا: إيه ده؟ ما حدش عنده دم.يلعن أبوكو لأبوا الكلب. وقبل أن يمنح الحثالة الواقفين بالخارج وقتا لابتلاع أهانته أطل الموظف من شباك كشكه الخشبى كقيح دمل، ثم أطلق جعيره لإيقاف شخص ما، وسرعان ما سيغلق الشباكين والباب، ويمضى جريا للحاق بالموتوسيكل الواقف بانتظاره،بعد أن يعطى أقرب الحثالة إليه كوما من البطاقات سيسقط أغلبه على الأرض.وفى عز قلية التخبط هذه، حيث الجميع : إما ذاهل أوموجوع أو مرهق،أو قلق على ضياع هويته الشخصية تساءلت سيدة أذكر أن عم سيد وصفها فى أول النهار بأنها عمته، وهى من القليلات اللائى بقين جالسات على المصطبة مستظلة بشجرة فيكس هى وبنوتة صغيرة تتوسد فخذها، وتراقب الجميع بعيونها الصغيرة البريئة، تساءلت هذه السيدة:
 بينادي على مين يا ولاه؟ وحينما لم يجبها أحد أجابتها البنت بصوتها المسرسع البرئ:
 مس عليكى يا ثتى ، مس عليكى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى