الخميس ٨ حزيران (يونيو) ٢٠١٧
بقلم أحمد الخميسي

طلعت حرب.. نحن والماضي

عام 1980 ونحن ندرس في جامعة موسكو كان يتردد علينا في المسكن الطلابي مستعرب روسي شاب يدعى أندريه ليستعير كتابا أو يسأل عن معنى كلمة، وكان لطيفا ضحوكا أغلب الوقت فأحبه الجميع. ذات مساء جاء أندريه ثم قال بنبرة كأنما يواسينا: "والله الشعب المصري ده شعب عظيم. يكفي أنه ما بين 1920 حتى 1930 دخل ثلاثين حربا متصلة ومع ذلك بنى بلده واقتصاده. شعب مكافح صحيح"! تعجب أحدنا من الحروب التي لم نسمع بها فسأله: "ثلاثون حربا؟". وحين رحنا نستوضح الكلام، تبين لنا أن أندريه كان يترجم موضوعا من العربية إلي الروسية عن الاقتصاد المصري، وبداهة كان اسم طلعت حرب يتكرر كثيرا داخل النص. لكن أندريه كان يقرأ اسم "طلعت"على أنه فعل، أي "بدأت حرب"! وكلما ظهر الاسم أمامه ظن أنه "طلعت حرب جديدة" في مصر! وأن شعبها المكافح يخوض حربا تلو الأخرى بمعدل مرة كل صفحتين!

تذكرت حكاية أندريه بمناسبة الاعلانات التي أغرقت جوانب الكباري وشاشات التلفزيون عن أن "طلعت حرب راجع" في شكل قروض سيمنحها بنك مصر للشباب! وهي إعلانات تستثمر جانبا أصيلا في النفوس هو الحنين إلي الماضي. يحلم البعض بعودة طلعت حرب، والبعض يحلم بعودة عصور الاسلام الأولى، أوعودة الاتحاد السوفيتي، أو رجوع جمال عبد الناصر بمعجزة، وأحيانا يجد البعض الجرأة لكي يحلم حتى بعودة الملك والملكية. وكان جان جاك روسو يحلم ذات يوم بعودة الانسان للطبيعة الأولى! ويكمن في ذلك الحنين إلي الماضي تصور غريب أن الأشياء التي وقعت ذات يوم يمكن أن تتكرر! ويعتمد الحالمون هنا على أجزاء مبتسرة من صورة الماضي، كما يفعل الأخوان المسلمون حينما يتخيلون أنهم بالزي وإطالة اللحية يستردون الماضي، وأنهم بعنصر واحد يرجعون الصورة المكتملة لما كان من قبل! والحق أن الماضي لا يعود أبدا، لا في التاريخ ولا في السياسة ولا في الطبيعة ولا في المجتمع، وأن ما حدث إنما يحدث مرة واحدة في ظروف محددة وزمان ومكان محددين، ولا يتكرر. لهذا فإن "طلعت حرب .. مش راجع"، إنما يرجع إلينا شيء آخر تماما يقوم بتسويق نفسه مرتكزا على إثارة الحنين للماضي وأمجاده.

لقد ارتبطت تجربة طلعت حرب بصعود الرأسمالية المصرية الوطنية وانتقالها من الزراعة إلي الصناعة، وسعيها لتخليص السوق الداخلي من قبضة الاستعمار الانجليزي، لهذا أقام طلعت حرب "بنك مصر" لتمويل الصناعات الوطنية، وأنشأ "استديو مصر" لصناعة السينما، وشركة مصر للغزل والنسيج، ومصر للطيران، ومصر للسياحة،ومصر للمناجم وغيرها فلقب عن حق ب"أبو الاقتصاد المصري". وكان طموحه الاقتصادي مرتبطا بنهضة الحركة الوطنية ومطالبتها بالاستقلال والدستور والتحرر والتنمية والدعوة إلي أدب مصري قومي جديد، وإلي ابتعاث الشخصية المصرية بعيدا عن الخلافة التركية والعروبة بمعناها القديم. وبروح ذلك السياق الوطني العام رفض طلعت حرب محاولة الشركة المالكة لقناة السويس مد امتيازها خمسمائة عام أخرى! وأصدر في ذلك كتابه "مصر وقناة السويس" عام 1910، وحشد مجلس النواب لرفض مد الامتياز. طلعت حرب إذن هو مجرد لفحة هواء من مناخ تكاملت فيه رؤية سياسة واقتصادية وثقافية من أجل نهضة قومية، وليس مجرد اقتصادي يقدم القروض الصغيرة. إنه سطر من قصيدة لا يعني شيئا إذا قرأته بمفرده. وحين تردد الاعلانات أن" طلعت حرب راجع" فتأكد أن الذي سيعود ليس طلعت حرب لكن نموذجا آخر يرتدي زي تجربة سابقة مرتبطة بالنهضة. ولهذا فإنه حينما يعلن بنك مصر هذه الأيام أنه سيمول مشروعات صغيرة ومتوسطة بتسهيلات في القروض، فإننا لا نرى "طلعت حرب" بل شيئا آخر.

ووفقا لتصريحات محمد الأتربي رئيس بنك مصر، فإن البنك سيمنح قروضا للشباب ميسرة ، لأن الدولة لا تبنى إلا على عاتق الزراعة والصناعة، وأن الفائدة عن قروض البنك للشباب أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة لن تزيد عن خمسة بالمئة. إلا أن الاقتصادي البارز إلهامي الميرغني يقدم لنا قراءة أكثر دقة لحجم الفائدة الفعلي تضعنا أمام صورة مختلفة تماما، ويؤكد حسب الوثائق الرسمية أن نسبة الخمسة بالمئة فائدة تنطبق فقط على المشاريع المتوسطة والكبرى التي يتراوح رأس مالها ما بين خمسين ألف جنيه إلي ثلاثة ملايين، أما نسبة الفائدة في قروض المشروعات الشبابية فتصل إلي ثلاثين بالمئة! وتبلغ في حالات أخرى مئة بالمئة! وبذلك نفهم أن اللقمة الطرية ستقع في فم الكبار وحدهم، وهذا ليس"طلعت حرب" الذي شغله تحرير الفلاحين من الاستدانة بفوائد عالية من المرابين والأجانب فأنشأ بنك مصر ليحررهم من قبضة الاستغلال. لذلك لم يكن غريبا أن يعتبر دكتور إريك ديفيز أستاذ الاقتصاد بجامعة روتجرز الأمريكية أن تجربة طلعت حرب كانت تحديا للامبريالية حين أصدر كتابه المعروف "تجربة بنك مصر– تحدى الإمبريالية"الذي ترجمه د. إبراهيم فوزي وزير الصناعة الأسبق.

إنك لن تستعيد الماضي حين تستعيد اسمه أو شكله أو أزياءه، ولن ترد الماضي بمجرد قولك إن "طلعت حرب راجع"، فالتجربة، كل تجربة، تقع مرة واحدة، وردها إلإلي الحاضر مستحيل، لكن الشيء الوحيد الممكن هو الاستعانة بمغزاها العام، بأهدافها، بفكرتها، فإذا أسقطت الأهداف والفكرة والروح فإنك لن تستعيد سوى جثة تشبه الماضي من الخارج، لكنها عاجزة عن إفادة الحاضر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى