الأحد ١١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم ثروت عكاشة

ميكلانجلو (1475 - 1564)

مع توهّج شمس النهضة في سماء إيطاليا وُلد ميكلانجلو بوناروتي عام 1475 من أبوين في سن الشيخوخة، فبعثا به رضيعاً إلى زوجة عامل في محاجر رخام ستيناتو بالقرب من فلورنسا ليعيش في حضانتها. ولا تكاد تنقضي ستة أعوام حتى تموت أمّه التي لم يذق يوماً طعم حنانها فيستقر نهائياً وسط هذه الأسرة العاملة، وإذا بمحاجر الرخام تصبح عالمه الذي يستأثر بولعه، وإذا به يلتقط إزميلاً يشكّل به على الرخام وجوهاً وأجساداً تلفت النظر إلى براعته. وسرعان ما وجد نفسه وهو في الثالثة عشرة من عمره تلميذاً في مرسم الفنان دومينيكو جيرلاندايو الذي أمتع العالم برسومه النابضة بالحياة كما سجّل القصص المقدسة في أسلوب مرح وكأنها أحداث أثرياء فلورنسا. واستطاع ميكلانجلو في فترة وجيزة أن يلمّ بكافة الحيل الفنية للمهنة وأن يتدرّب على صنعة تصوير "الفريسكو" العريقة وإتقان فن الرسم. بيد أن اختلاف آراء ميكلانجلو على آراء أستاذه حمله على نبذ أسلوب جيرلاندايو السهل المطروق، وعلى دراسة أعمال الأساتذة من أمثال جوتو ومازاتشيو ودوناتللو المودعة بكنائس فلورنسا. وما كاد يُكمل عاماً واحداً في هذا المرسم حتى هجره ليلتحق بمدرسة النحت في حدائق آل مديتشي ليعيش وسط التماثيل اليونانية والرومانية التي تضمّها مجموعة لورنزو العظيم حاكم دوقية فلورنسا، فيأخذ في دراستها على يدي برتولدو دي جوفاني تلميذ دوناتللو، محاولاً أن ينفذ إلى أسرار المثّالين القدامى الذين عرفوا كيف يصوّرون الجسم الإنساني أثناء الحركة بنبضه وتوتّر عضله. لكنه إلى جانب ذلك أبى الاكتفاء بتعلّم قوانين التشريح عن منجزات النحت القديم، فقام من ثم بدراساته الخاصة في تشريح جسم الإنسان وأعضائه، وانبرى يرسم عن النماذج الحيّة حتى بدا له الجسم الإنساني بلا سرّ يخفى عليه، فلم يكن ميكلانجلو يرى رأي ليوناردو دافنشي في أن الإنسان لغز من ألغاز الوجود لا يُحلّ، بل يعدّه مشكلة يمكن حلّها وسبر غورها وتملّك قيادها إذا أوتينا عزماً قوياً.
وفي حدائق آل مديتشي ينحت ميكلانجلو باكورة أعماله: رأس تمثال جنّي الغاب "فون" Faun. يراها الأمير لورنزو فتبهره مواهب الصبي ميكلانجلو، ويدعوه للإقامة في قصره وسط الحكماء والأدباء والشعراء الذين صاغوا فلسفة "المذهب الإنساني" من خلال مناقشات طويلة كان ميكلانجلو يتشرّبها وتتسلل إلى أعماق نفسه لتشكّل خلفيته الفكرية التي تظل متوثّبه في وجدانه طوال عمره. ويتعرّف على أنجيلو بوليتزيانو ومارسيليو فيتشينو وبيكودلّلا ميراندولا وغيرهم من دعاة "المذهب الإنساني" الذين اكتشفوا في الحضارة اليونانية القديمة أنماطاً فكرية وفنية أكثر ثراء وأوفر خصوبة, فعكفوا على التوفيق بين الأفكار والأشكال الوثنية وبين الأعراف المسيحية، ورأوا في الأفلاطونية مَثَلهم الأعلى فانبروا يطبّقونها في سلوكهم ومنجزاتهم. وفي القصر نفسه يلتقي ميكلانجلو بكريستوفورو لاندينو الذي ينقل له إعجابه بدانتي وحماسته للكوميديا الإلهية. وقد ارتكز تأثر ميكلانجلو بفكر أفلاطون على عدة نقاط ستكون نبراساً نستهدي به في أعماله الفنية، فكانت محاورة أفلاطون "تيماوس" عن الخَلْق والتكوين، وكذلك محاورة "سمبوزيوم" أو المأدبة عن الحب والجمال أكثر ما شدّ ميكلانجلو إلى أفلاطون، ولم يلبثا أن صارا السّلف الفلسفي لجميع أعماله الفنية. شدّه إلى أفلاطون نظرته الفلسفية إلى المثلث والدائرة والمربع بوصفها الأشكال الخالدة التي تهيئ مفتاحاً لطبيعة الكون الحقّة حين تحدّث عنها في محاورة "فيلبوس" قائلاً: "ليس ما أعنيه بجمال الأشكال ما يراه الناس عادة جميلاً أو يحسبونه كذلك وراء ما يرونه من كائنات أو صور لهذه الكائنات، وإنما الجميل عندي قد يكون حزمة من الخطوط المستقيمة وما تُسفر عنه من مسطّحات وكتل شكّلها الفرجار والمنقلة والمثلث ولكنها فريدة في ذاتها، ينطلق جمالها من نبع روحها ويعيش لاصقاً بها إلى الأبد".

وأغراه التثليث الأفلاطوني الذي قسّم الوجود إلى مستويات ثلاثة: هي عالم الوهم والخيالات، وعالم الصيرورة المادي المتغير، والعالم العقلاني، والتي على أساسها قسّم المجتمع البشري إلى طبقات ثلاث أيضاً: المنتجون من العمال والزرّاع والمحاربون والفلاسفة والحكام، ورمز لهم على التوالي: بالنحاس والفضة والذهب، وحدّد لكل طبقة هدفاً: الكسب للعمّال والطموح للمحاربين والهيام بالحقيقة المطلقة للفلاسفة. كذلك قسّم التعليم إلى مراحل ثلاث: الجهل والرأي والمعرفة، وجعل للنفس الإنسانية ثلاث ملكات: الشهوانية والوجدانية والعقلانية وزّعها على مواضع ثلاثة: المعدة والصدر والرأس. وجعل للملكة العقلية أسمى المهام وهي نشدان الخلود، فالإنسان بحكم ذكائه "كالشجرة لا تضرب بجذورها في الأرض فحسب بل تشرئب بغصونها إلى السماء، ومن ثم كان العنصر العقلاني في النفس هو الذي يرتفع بنا من الأرض إلى أشباهنا القابعة في السماء". وهو ما سوف نرى تطبيقه العملي المذهل في تصاوير ميكلانجلو بسقف مصلّى سيستينا.

كما تصوّر أفلاطون صعود الإنسان من أدنى مراتبه حتى بلوغ أصله الإلهي، وفي طريق العودة إلى العالم الإلهي تدرك النفس جوهر الإله وهي ما زالت في إسار سجنها البدني تصارع من أجل ذلك وتبذل الجهد والمعاناة، فتنتقل من المحدود المتناهي إلى اللامحدود اللانهائي حتى تنفلت من الأَسْر المادي إلى الحرية الروحية والخلود. ولذلك كان أفلاطون يُكنّ للحياة الدنيوية احتقاراً عميقاً، ويعدّها عبئاً ثقيلاً وعقوبة للإنسان على نسيانه لأصله الإلهي وانجذابه إلى عالم الحسّ مخلّفاً وراءه عالم التأمّل العقلي الذي نشأ في الأصل منه، وهو ما جسّده ميكلانجلو في تماثيل الأسرى التي سنعرض لها بعد حين.

وكانت تلحّ على ميكلانجلو نظرة أفلاطون بأن الإنسان قد عَبَّ مرّة من مياه نهر النسيان فأُنسي أصله الإلهي، حتى إذا خطرت أمامه أنثى فاتنة أيقظت ذكرياته الغافية وذكّرته بصلته الطبيعية بالجمال وبأصله الإلهي، ولكن ما يلبث الإغراء الجسدي والجمال الذاوي أن يشدّاه إلى فكرة جمال الحقيقة الأبدي، ثم في النهاية إلى تأمّل حقيقة الحق والخير الخالدة. كذلك رأى ميكلانجلو في "المُثُل" الأفلاطونية روحانية مطلقة، وعَشقَ الجمالَ بوصفه مثالاً مطلقاً أزلياً أبدياً تحتفظ الروح الإنسانية بذكرى مبهمة لمعايشته في ماض بعيد سابق على الحياة فوق الأرض، فلا تنفكّ الروح تعشق ذلك الجمال وتصبو إليه وتبحث عنه خلال العلاقات التي اصطلحنا على تسميتها بالحب. فالحب الدنيوي عند أفلاطون إن هو إلا عشق الجمال الجسدي الذي هو انعكاس لمثال الحب الروحي المطلق الأزلي الأبدي. ومن هنا كان على العاشق أن يسمو من الحب الجسدي إلى الحب الروحي، إلى حب الجمال المثالي الذي هو جزء من القداسة والخير. وهذا هو المجال الذي يشتاقه العباقرة ويطمح إليه الفلاسفة، وذلك ما جعل بوتيتشيللى يجسّد في فينوس صورة هذا الجمال المثالي الذي تعشقه الروح وتصبو إليه عن طريق الحب، وهو الذي جعل جوته يروّج في مسرحية "فاوست " لمبدأ " الأنوثة الأبدي " أو الجمال الخالد، حيث المرأة رمز للمحبّة والخصوبة والوفاء والسلام.

واذا كان بوتيتشيللي قد نفض يديه عن الوثنية بعدما وقع تحت تأثير الراهب سافونارولا واتجه بفنه كله نحو الموضوعات الدينية دون أن يحاول مزج وثنيته بمسيحيته، فإن ميكلانجلو قد فصل بينهما فصلاً تامّاً دون أن تقضي إحداهما على الأخرى. فعلى العكس من رؤية بوتيتشيللي الحالمة عن الجمال كان ميكلانجلو يتخيّل وهو في غمرة التأمّل التي مرّ بها الكون عند خلقه، تلك المراحل التي لا شك كانت مصحوبة بقوى غلّابة قاهرة، وكان في الوقت نفسه لا يغيب عن سمعه صوت الراهب سافونارولا. وعلى هذا النحو كان قدره أن يظل عقله المتوثّب يتصارع مع هاتين الفلسفتين المتضاربتين حتى آخر حياته. وبينما كان يمتلك ذهنآ مؤهلاً لاستيعاب تلك المثل التجريدية الأفلاطونية كان يتملكه حافز انفعالي مشبوب للتعبير عن أفكاره، كما كان موهوباً في استخدام الوسائل التقنية وتطويعها لترجمة خواطره إلى أشكال درامية مرئية، فأبدع لنا روائع خالدة في عوالم النحت والتصوير والعمارة والشعر. وإذا كانت عظمة الإنسان تكمن في استهانته بالعقبات المادية وشحذه لقدراته العقلية والروحية، فلا معدى عن أن نعدّ ظهور ميكلانجلو أحد الأحداث العظمى في تاريخ الإنسانية. ولما كان العمل الفنّي بالنسبة لميكلانجلو هو أن يشارك على الدوام في عالم الأفكار جاءت إنجازاته الفنية فلسفية كما هي جمالية، وثنية كما هي متديّنة، وأفلاطونية كما هي مسيحية.

ومنذ إغريق القرن الرابع ق. م. لم يظهر فنان أحسّ بالسمات الجليلة التي ينطوي عليها جسد الإنسان العاري مثل ميكلانجلو الذي كان على نهجهم مفتوناً في أعماقه بجمال الرجل العاري. غير أن ما اتصف به عقله من نزعة أفلاطونية جادة قد وحّد بين أفكاره وانفعالاته فإذا إعجابه ينأى به عن الحسّية إلى المثالية فجاء تصويره للعري فريداً في نوعه. وعلى حين تميّز عراة ميكلانجلو بالجاذبية المشبوبة والقوى الآسرة في آن، نجد أبوللو معبد أوليمبيا لفيدياس (لوحة 73) يتميّز بالقوة الآسرة وحدها دون الجاذبية، فهو يفرض نفسه علينا دون أن يثير عواطفنا، ولا غرو فهو صورة ذهنية بحتة، بينما يثير أبوللو ميكلانجلو خليطاً من الانفعالات المحمومة التي يكبحها العقل (لوحة 280).

ولا يخفى علينا أن ميكلانجلو قد سعى في شبابه نحو كمال الجمال الكلاسيكي حتى ليشي تمثاله لباكخوس (لوحة 281) بمدى محاكاته للتماثيل الرخامية القديمة، إلا أن رسومه للعراة كانت منذ البداية حبلى بنطفة توسكانية بعيدة كل البعد عن اليونان، كما تجيش بتمفصلArticulated التمفصل: تعبير فني عن الحركة المفصلية حول المحاور التشريحية لأطراف الجسم كالركبة والرسغ والمرفق (م. م. م. ث). عضلي حاد يتباين مع أشكال العالم الكلاسيكي القديم التي لا تصدم الحواس. ويحتفظ متحف اللوفر برسم لميكلانجلو يصوّر فيه شابّاً عارياً يتمتّع جسده الإلهي بجلال فن فيدياس الرصين (لوحة 282)، فما نكاد نمعن النظر فيه حتى يتبين لنا خلوّه من السمات اليونانية إذ تتدفّق الحواف المحوّطة للجذع في حركة جيّاشة مفعمة بالحيوية، كما ينبض التجسيم بالثراء والخصوبة الشائعين في أنحاء الجسد كلّه حتى إنه يخلو من التقسيمات الهندسية التي سبق التعارف عليها في تركيب الجسد الإنساني الكلاسيكي، فلا تقنع العين قطّ بالمرور العابر على أي مسطّح من مسطّحات الجسد حتى لا تفلت منها أقل الحركات دلالة.

ولعلّ أروع تجسيد للفكرة الأبوللونية على يد ميكلانجلو هو تمثاله الشهير لداوود (لوحات 283، 284، 285) الذي يعدّ جذعه وحده ذروة مسعاه الدائب نحو الانسجام والتناغم. حقاً إن ثمة تموّجات بسيطة فوق السطح تغشّي الضلوع والعضلات غير إنا نحسّ أنه يكمن تحت الضلوع والعضلات تيار جارف لَجِب نذير عاصفة مُقبلة من بعيد هو الذي يسمو بجذع داوود على أروع جذوع التماثيل الكلاسيكية. فعلى الرغم من أن مظهر هذا الغلام مبكّر النضج يكشف عن فتوّة متفجّرة فإنه يُضمر إحساساً بالقلق وذلك لأنه إنسان بطل فحسب وليس إلهاً جبّاراً، تكمن قوته في إدراكه جوهر الأمور، فإذا هو بلفتة رأسه يزيح جانباً رؤية العصر الكلاسيكي القديم التي كان ميكلانجلو قد لقنها في مطلع حياته عن التماثيل الكلاسيكية القديمة المتناثرة في حدائق لورنزو العظيم.

وتعدّ صورة "خلق آدم" في سقف مصلّى سيستينا (لوحة 226) أرفع منجزات ميكلانجلو التصويرية قرباً عن الكمال الأبوللوني وجمال الجسد الإنساني. فليس ثمّة عمل آخر من أعماله يتجلّى فيه إذعانه لفكرة الجمال الجسدي مثلما يتجلّى في هذا الجسد المتوازن وهو يتلقّى الطاقة التي سوف يفقد معها توازنه إلى الأبد. ومما يلفت أنظارنا لأول وهلة وضعة آدم التي لا تختلف كثيراً عن وضعة ديونيسوس في الجبين المثلث لمعبد البارثينون (لوحة 287)، فإن توزيع التوازن على أنحاء الجسد، والحسّ بالإسترخاء الموحي بالثقة بالنفس، والبنية العامة للجسد، هذه الأمور الثلاثة تكاد تكون واحدة في صورة آدم وصورة ديونيسوس وإن كان ثمة اختلاف في الأثر العام، إذ بينما يمثّل أحدهما الإنسانية يمثّل الآخر الألوهية. فنرى نظرة آدم تغشاها خيفة ليس معها اطمئنان مما قد يحيق به على يد القوى الإلهية، على حين نرى ديونيسيوس
سارح الطرف لا يبالي شيئاً، إذ لا زمان ينتهي إليه ولا مكان يحدّه.
وإذا كانت لوحة "يوم الحساب" (لوحة 229) هي صورة المسيح الديّان العاصف بقوى الظلام، فهي من ثم ردّة إلى صورة أبوللو بوصفه شمس العدالة التي تضيء وتحرق في آن، وعلى الرغم من النسب غير الإغريقية في صورة المسيح التي لم يشأ معها ميكلانجلو كبح جماح نزوعه نحو تضخيم الجذع وإعطائه هذا الشكل المستطيل الغريب، فقد بقي هذا المسيح ضابط الكون في جوهره أبوللوني الطابع بعد أن تخلّص ميكلانجلو نهائياً من صور شيوخ الشرق الملتحين واستمدّ إلهامه من صورة الإسكندر الأكبر الغازي المنتصر. ورغم غطرسة متجلّية في وجه المسيح فقد غلبت عليه الروحانية في الوقت الذي يعلو فيه جسداً عارياً لبطل من أبطال الرياضة تنطق قوّته الجسدية الخارقة الإلهام القدسي فيها.

وفي عالم النحت حمل تمثاله المبكّر "باكخوس" إله الخمر (لوحة 204) بصمات وثنيّته الدفينة بحيث لا نكاد نفرّق بينه وبين تماثيل العصر الكلاسيكي، وما لبث تمثاله التالي "العذراء الأسيانة" أن كشف عن إيمانه الديني الصادق. وفي عالم التصوير جمعت رسوم مصلّى سيستينا "العرّافات الوثنيات" جنباً إلى جنب مع الأنبياء العبريّين، كما أفسحت المجال للنظرية الأفلاطونية عن العودة إلى العالم الإلهي إلى جانب نظرية "الخلاص" المسيحية. ثم تجيء لوحة "يوم الحساب" في عنفها وضراوتها الشبيهة بسفر الرؤيا في الروعة والترهيب لتتجاور فيها الشخصيات الأسطورية الإغريقية مثل شخصية خارون حارس العالم السفلي جنباً إلى جنب مع شخصيات العهدين القديم والجديد.

وتمثّل سنوات حياة ميكلانجلو الأخيرة مرحلة من التبتل والورع المسيحي لم تنطفئ معها شعلة الأفلاطونية في أعماقه، ففي الوقت الذي كان يمنح جهده كله لخدمة العقيدة المسيحية كان ينظم شعراً يفيض بالوهج الأفلاطوني الذي تجلّى من قبل في تماثيله للعذراء حين عبّر عن اتحاد الجمال الجسدي بالجمال الأبدي، وفي تمثال "موسي" حين ربط بين قوى الإنسان المادية والمعنوية وبين الخير الأبدي، وفي وقوعه تحت سيطرة الأشكال الأفلاطونية الخالدة التي تهيئ مفتاحاً لطبيعة الكون والتي نلمسها في سقف مصلّى سيستينا. وحتى في أشكاله المعمارية المجرّدة نجده يُقيم الأعمدة وكأنها الأسرى تشدّها القيود فلا تستطيع فكاكاً من ثقل الحمل المادي الذي لا مفرّ من حمله، على حين تحوّم القبة الشامخة عالياً في الكمال الهندسي للشكل الدائري الرامز للسموات التي هبط منها الإنسان والتي لا معدى له عن أن يتلمّس طريقه نحوها من جديد. إننا لنقف اليوم في خشوع وذهول ونحن نتأمّل هذه العبقرية الفذّة التي بزغت في مجالات فنون أربعة هي النحت والتصوير والعمارة والشعر.

أخذت روما تشقّ طريقها لتغدو العاصمة الفنية والفكرية للعالم الغربي دون منازع منذ 18 أبريل عام 1506 عندما أُرسي بها حجر الأساس لبازيليكا القديس بطرس الجديدة، وكان البابا يوليوس الثاني قد شرع يحثّ الخطى في سبيل اجتذاب أساطين الفنانين في كافة المجالات، وحفزهم على تحويل المدينة الخالدة من قلعة من قلاع العصور الوسطى إلى هذه التحفة المعمارية التي تنبض وتتوهّج بما نشهده اليوم فيها من روعة وجمال. وبينما عكف المهندس برامانتي على وضع تصميم كنيسة المسيحية الرئيسية، شُغل ميكلانجلو باختيار الرخام لإقامة ضريح البابا التذكاري، وما لبث رافائيل سانزيو أن وَفَد من فلورنسا لزخرفة جدران قصر الفاتيكان. وعلى حين كان أندريا سانسوفينو ينحت مقبرة أحد الكرادلة في كنيسة سانتا ماريا دل بوبولو كان المصور بنتوريكيو يزخرف أقبية قاعة المنشدين بها بمجموعة من التصاوير الجدارية. ولم يغب عن هذه الكوكبة إلا ليوناردو دافنشي الذي آثر الهجرة من روما بعد توافد هذه الكثرة من الفنانيين عليها، كما فعل جوسكان دي بريه أحد المؤلفين الموسيقيين والمغنّين في فرقة الإنشاد البابوية فتركها بعد ثمان سنوات راحلاً إلى فرنسا ليغدو رئيس جوقة إنشاد مليكها. على أن اقتحام الجيش الفرنسي لفلورنسا وطرده لآل مديتشي منها وتسليمه زمام الحكم إلى الراهب سافونارولا الذي طالما استمع ميكلانجلو إلى عظاته مُعجباً خلال الأعوام 94 - 1498 ما لبث أن أدّى إلى هجرة عامة للفنانين فهُرع العديد منهم إلى بلاطات بعض الدوقيات الإيطالية، غير أن إغراء البلاط البابوي قد تمكّن من اجتذاب الكثرة من الفنانين. وهكذا انتقلت العاصمة الحضارية من فلورنسا إلى روما خلال عهد اثنين من بابوات عصر النهضة هما يوليوس الثاني وليو العاشر من آل مديتشي، فظل الطابع الحضاري متصلاً إذ كان كل من ليوناردو دافنشي وأندريا سانسوفينو وميكلانجلو والبابا ليو من أصل فلورنسي، كما كان برامانتي ورافائيل قد استوعبا الطرز والقيم الفلورنسية بإقامتهما الطويلة في رحابها. ولم يلبث هذا الانتقال الذي تصوّره البعض محدد الأثر أن أتاح لهذه الطرز المحلية أن تأخذ طابعاً دولياً لما كان لروما من مكانة عالمية، حتى أنه لم يكن من المتصوّر أن تقوم في غير روما تلك المشروعات العملاقة كتشييد أضخم كنائس العالم، وبناء ضريح البابا يوليوس الثاني، وتصوير لوحات سقف مصلّى سيستينا وجدران قصر الفاتيكان. وفي حقيقة الأمر لم يكن ثمّة مكان آخر ينفسح لمثل هذه المباني الضخمة أو تلك المشروعات الجريئة، فضلاً عن أن روما كانت موطن الكرادلة الذين أقاموا في القصور الفاخرة، وأحاطوا أنفسهم ببلاط كبلاط الأمراء الذي يعكس بصورة مصغّرة عظمة البلاط البابوي آنذاك.

ومع أن المدينة الخالدة كانت الوريث الفني لكل العصور السابقة، إلا أنها كانت تفتقر إلى الطراز الخاص بها المعبّر عن عصر النهضة. ذلك أنه لم يبرع من بين أبنائها فنانون ذوو عبقرية متميزة، بل ظلت روما خلال القرن الخامس عشر تستقدم المهندسين والمثّالين والمصوّرين والموسيقيين من مختلف أنحاء أوروبا، ما يكادون يفرغون من أعمالهم حتى يسارعوا بالرحيل، وإن كانت مشروعات بابوات القرن السادس عشر قد بلغت من الضخامة ما أتاح لهم استقطاب عمالقة الفن في عصرهم واحتشاد روما على الدوام بهم، فقد عقد هؤلاء البابوات العزم على إحياء سلطة العرش البابوي وعظمته وتخليد أنفسهم من خلال رعايتهم للفنون. فعلى حين ظل لورنزو ده مديتشي شخصية فلورنسية محلية فحسب غدا ابنه البابا ليو العاشر نجماً عالمياً عُرف عهده بأنه العهد الذهبي للفنون، ولا غرو فقد كان هو مَنْ أثار اهتمام معاصريه بالآثار الكلاسيكية القديمة، فبدأت حركة تنقيب جادة وضعت روما على الطريق السويّ لاكتشاف ذاتها وماضيها. فعندما كانت معاول المنقّبين تضرب باحثة في جوف الأرض كانت هذه تنشقّ عن كنوز ثمينة مثل تماثيل أبوللو بلفدير، وفينوس الفاتيكان ومجموعة لاؤوكون النحتية، الأمر الذي تمخّض عن دفقة جديدة كان لها أثرها في ظهور منجزات ميكلانجلو وغيره من المثّالين، كما هيّأت الرسوم الجصّية الجدارية [الفريسكات] في قصر نيرون "دوموس أوريوس" وحمامات تيتوس أولى النماذج الهامة للتصوير الكلاسيكي القديم. وإذ كان التصوير بالتميراTempera صبغ مائي تمازجه مادة زلالية أو صمغية أو غروية مثل صفار البيض أو بياضه وصفاره معاً، يستخدم للتصوير (م. م. م. ث). فوق الجصّ النديّ لم يتوقّف قط، فقط أضفت تلك الأجزاء المتبقية من التصاوير القديمة على تصوير الفريسك جاذبية جديدة خلال عصر النهضة. ومن يدري فلعل ميكلانجلو لم يكن ليقتحم عالم التصوير الجداري لو لم يجد في هذه التصاوير القديمة ما يتحدى قدراته ويحفزه على ممارسة هذا اللون من الإبداع.

وكما تلقّى يوليوس الثاني دروسه الأولى في ميدان الدبلوماسية وشؤون الحكم على يد عمّه البابا سيستو الرابع، فقد ورث عنه لحسن الحظ ولعه الشديد بالفنون. وسيستو الرابع هو مشيّد المصلّى الذي أطلق عليه اسمه فيما بعد، وهو منشئ فريق المنشدين البابوي الذي سمّي باسمه أيضاً. وقد اِنبَرى يوليوس الثاني هو الآخر إلى تكوين مجموعة إنشاد لكنيسة القديس بطرس أطلق عليها اسمه أيضاً "كابيلا جوليا" أو جوقة إنشاد يوليوس التي تضاهي شأناً الـ"سكولا كانتورام" القديمة أي مدرسة تعليم الغناء، وكانت تعدّ المرتّلين لجوقة إنشاد مصلّى سيستينا. وقد حظي الفريقان بتشجيع البابا الكامل وما زال كلاهما مؤسسة غنائية لها شأنها حتى اليوم. وإذا كان يوليوس الثاني عاهلاً مثقَّفاً لا يكفّ عن إنجاز المشروعات السَّلمية الكبرى فقد كان يجيد استخدام السيف في الحروب أيضاً، وهو فوق هذا وذاك خير من يُحسن إدارة الدولة، فكان واحداً من أقدر زعماء عصره وأكثرهم إدراكاً لقيمه واتجاهاته، كما كان مشهده وهو ممتط جواده المضطرم في عباب المعركة يبعث الرهبة في نفوس أعدائه. وقد ارتأى بوصفه أحد عُمُد البابوية الحديثة إعداد مقرّ يواكب عظمة الكنيسة ومجدها، ومن ثم انطلق يجنّد الفنانين ويوجّههم بالحسم الذي يوجّه به الجيوش في ميدان القتال، وإذا رافائيل يصوّره في نهاية عهده بعد أن استنفذ قواه البركانية في لوحة تعدّ من أبدع الصور الشخصية التي رسمها.

وعندما اعتلى ليو العاشر كرسي البابوية سَرَى مثلٌ يقول: "إذا كانت فينوس قد ظفرت بعهدها كما ظفر مارس [إله الحرب] بعهده، فقد أشرق اليوم عصر منيرفا [أثينه إلهة الحكمة]". وكانوا يرمزون بفينوس ربة الحب إلى البابا ألكسندر السادس من آل بورجيا وبمارس إله الحرب إلى يوليوس الثاني. وجاء ليو ابن لورنزو العظيم ليطبع البابوية بخاتم فلورنسا الرسمي باعتبارها "أثينا الحديثة"، وكان قد عرف خلال طفولته ميكلانجلو وهو يتدرّب على النحت في قصر أسرته، غير أنه كان أشدّ ميلاً إلى رافائيل الرقيق الطباع منه إلى ميكلانجلو المشبوب الوجدان المتمرّد أبداً. وقد صوّر البابا ليو العاشر كذلك مع اثنين من الكرادلة في صورة شخصية بالغة الروعة (لوحة 259)، كما رسمه ميكلانجلو في صورة تخطيطية بالغة الصدق والتعبير.

وإلى روما وفد أيضاً لودفيكو أريوستو أحد أصدقاء ليو أيام الدراسة، وهو الذي كتب "رسائل هوراس الشعرية" التي تعدّ أفضل وأدق صورة لروما القديمة، كما يعدّ ديوانه "أورلاندو مجنوناً" أحد الملاحم الشعرية العظمى في الأدب الإيطالي. ومن المعروف أن إحدى مسرحيات أريوستو الشعرية كانت تُقدَّم أمام ليو العاشر بصحبة مغنّ منفرد وجوقة إنشاد تتخللها فواصل أوركسترالية تعزفها النايات والفيولات والكورنيت والعود ومزمار القربة وأورغن صغير ذو غطاء مرمري فريد شكّله خصيصاً من أجل ليو صانع أورغن من نابلي. وقد كتب هاينريش إيزاك مدرس الموسيقى لليو الموتيت ذا الأجزاء الستة الذي عُزف في حفل تنصيبه. وأثبت ليو تلميذ إيزاك أنه أكثر رعاة الموسيقى تحرّراً خلال عصر النهضة حتى لقد تعذر على أمراء أوروبا الاحتفاظ بموسيقييهم بسبب ولع البابا بالموسيقى وهيامه بجمع أمهر عازفي الناي والفيول والأورغن وأشهر المغنين حوله. وكانت موسيقى الحجرة تنبعث من القصر البابوي دون توقف، كما كانت وجبات البابا تمضي على أنغام آلات النفخ الموسيقية، وأخذ الأدباء يتهامسون ضائقين بولع ليو بالموسيقى وتشجيعه لها ووضعها على قدم المساواة مع الإبداعات الأدبية. وقد كان هذا طبيعياً من رجل أبدع هو نفسه مؤلفات موسيقية وكان عليماً بأسرار هذا الفن بما لم يسبقه إليه أحد من رعاة الموسيقى. وكانت رعايته للفنون على غرار رعاية أبيه لها نابعة من أنه هو نفسه كان فيلسوفاً وكاتباً وذوّاقة وجامعاً للتحف، كما كان أحد زعماء المذهب الإنساني الفلورنسي فإذا هو يُضفي على روما طابعاً فكرياً وحضارياً أعلى من شأن البابوية وجعل أيامه عهد ازدهار "للنزعة الإنسانية". لقد كان في واقع الأمر تجسيداً "للملك - الفيلسوف" الذي نادى به أفلاطون، وكان مفهومه للبابوية أنها أداة ينبغي تسخيرها لنشر الحضارة فإذا الفنون التشكيلية والأدبية والموسيقية والمسرحية تنعم بالازدهار بفضل رعايته لها، وحققت له في هذا المضمار شهرة لم يظفر بمثلها في أوجه نشاطه البابوي الأخرى، ولم يحدث قط أن ظفرت القيم التي تمثّلها "الربّة أثينه" بمثل هذه الرعاية الفائقة، حتى ليمكن الزعم أن عهده كان مهرجاناً فريداً للثقافة. وما أصدق بوركهارت عندما قال: "إن روما كانت تضم في بلاط ليو العاشر الفريد مجتمعاً ثقافياً لم يقدّم التاريخ العالمي مثيلاً له"، مُنذرة بانشقاق ديني كانت تترصّد هذا الازدهار لتهبّ عليه عبر الألب من الشمال في ذات الوقت الذي كانت الخزانة البابوية قد أشرفت فيه على الإفلاس


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى