الاثنين ١٩ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
ساجدة الموسوي شاعرة الفرح والحزن القديم
بقلم محمد السموري

قراءة في أدب المقاومة العراقية

عُرفَ الأدب المقاوم عند العرب منذ أن عرف العربُ الأدب, أو لعل المقاومة كانت إحدى بواعث الشعر العربي ومصادره, فقد كان الشاعر العربي القديم لسان قومه في تسجيل مآثرهم والدفاع عنهم, فضلا عن نشر محامدهم, وكان لسان الشاعر من أسلحة القبيلة, أشتهر شعر الحماسة في الجاهلية, وقرضه شعراء الاسلام, ولما كان قدر الأمة العربية أن تبتلي بالطامعين, والغزاة, والزاحفين, قديما فقد أبتليت بعابري البحار والمحيطات, البرابرة الجدد حديثا, وقدرها كان ولم يزل أن تصد عن الحياة شرورهم لأنهم أعداء الحياة والانسانية والحضارة, وإن صحّت نظرية إن الانسان عدو ما يجهل, فإن هؤلاء أعداء ما يجهلون من قيم الشعوب القديمة, ذلك لأنهم في حقيقتهم يعيشون- بحسب نظرية التعايش بالتعاقد- كسكان السجن لكل منهم قضية, ولا مشترك بينهم غير أن كلهم مجرمون, ففي أبو غريب فضحت حضارتهم وديمقراطيتهم, وانكشفت حقائق بنيوية في مشتركاتهم الثقافية التي ربما كانت الى وقت قريب مثار فضول من كان يجهل أو يتجاهل إمبراطورية الوهم يالها من أقل من ذلك بكثير.. ليتها كانت أسطورة وحسب..بما صنعته لها الميديا.. الأمبراطورية تتهاوى في الردى.. في خزي التاريخ, والتاريخ لا يرحم ولا يجامل, ولا يخاف. والشعر قال كلمته وانتهى الأمر, ولم يعد بمقدور أحد أن يجمّـل صورة أميركا, لا لن يكون ذلك, لأن قصائد الشعراء مكتوبة في السحاب ومكتوبة في ضمائر الأجيال, والسحاب يمطر على الأجيال قصائد الشعراء, وهل تقوى أمة على أن تمحي ذاكرة أمة أقدم منها ؟

إذا وبكل وضوح لقد فضحت الحرب على العراق أمرا كان مستورا, وها هي ذي ساجدة الموسوي شاعرة المقاومة العراقية, ولسان حال الشهداء, والثكلى, والمشردين والجياع, تلك النخلة البابلية السمراء, غائرة العينين المكحولتين, سألتها النساء عن الأثمد الذي في عينيها فقالت:

مشطت شعري
بريح بلادي
تعطرت بالطلع
وأغمضت عيني,
فأصبحت مكحولة بالهوى والندى والعناق
كانت الريح مشطي وكحلي العراق....

ساجدة وهي حزينة فشاعرة الفرح القادم, وإن كان الحزن قدر العراق فالفرح أيضا يليق العراق, ابنة بغداد, وخريجة جامعتها, أصدرت أحد عشر ديوانا شعريا, هي على التوالي, طفلة النخل, هوى النخل, الطلع, عند نبع القمر, البابليات, قمر فوق جسر المعلق, شهقات, السرى لسهيل, برقيات عاجلة الى سكان الأرض ( بالإنكليزية ) تباريح سومرية, هديل اليمام. و صدحت في كل مهرجان, فضلا عن عملها في الصحافة كمحررة لمجلة المرأة, ومعاون مستشار صحفي في المركز الثقافي العراقي بلندن, ومديرة لنادي الجمهور, وعضو اتحاد الكتاب العرب, هي تسأل سؤال العارف ( لماذا بلادي تدمر ؟

دعوني من الهم أهذي ومن قسوة الجرح أهذر
لماذا بلادي تدمر وشعبي العريق يذل ويقهر؟
 
لكن ساجدة تلح بسؤالاتها .
 
لماذا يجوع العراق ؟
وفوق ثراه الفراتان
مسك وعنبر
وأهل العراق يموتون قصفا وجوعا.

وتبني تمثالا من الحزن, لحزن العراق القديم الجديد, وكم سألت نفسي لماذا حزن العراق قديم ؟ وما الذي جعل الناي الحزين يرافق العتابا والموليا في الفرات والأوف والحنين , قال ناقد ربما لآن الفرات طويل وقلت بل لأن العراق قديم والشاعر يخاطب الماضي والناي وحادي العيس صوت هؤلاء الذين غيبهم الزمن الطويل كطول الفراتين . لكن شقيقة روحها المناضلة النسائية والباحثة منيرة حيدر تقول لها: ( صبرا رفيقة الدرب, فالمكاره لاتدوم لتجعلي الاصرار هو السلاح...

زغردي أنشودة النصر فالنصر آت لا محاله وترنمي شدو قصيدتك الرائعة يا نخلة العراق..) وتجيب

وكم أرى العراق أن أتحجر

أو اكون كتمثال صخر

بأي الحدائق في طرف الأرض

كي لا أرى...

تقصد كي لا أرى العراق يدمر.. ولا أنزوي من الـ (آه) لمّا تجيىء وكأن ساجدة لا تريد أن تصدق ما حل بالعراق, نحن نقرأ هذه الحالة الشعرية على أنها تعبير صادق عن الحالة التي يمر بها الانسان في بداية الأحداث الكبرى فلا يصدق الصدمة, وهذا الإنكار هو بمثابة الصدمة المضادة التي تحدثها حالة الشحن العاطفي الفطري وهي ظاهرة نفسية إنسانية موجودة لدى كل البشر, وخير مثال عليها حالة الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عندما سمع نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم امتشق سيفه ليقتل من قال أن محمدا قد مات.

أما أدب المقاومة, فلأنه ضمير الشاعر فهو أيضا يمر بمرحلة الاندهاش وعدم التصديق, ذلك ليؤسس لمرحلة قادمة من التعبير عن البطولات واستلهام الانتصارات التي تحققها المقاومة وتخليد الشهداء, كما هو حال أدب المقاومة الفلسطينية لكنني – إن جاز لي – أرى أن أدب المقاومة العراقية يخطو باتجاه بلورة تطلعاته وتأسيس مدرسته الشعرية بأسرع مما كان عليه الأدب الفلسطيني في بداية نكبة /1948 / ذلك لأن الصدمة كانت جدا مفاجئة في القضية العراقية مما عجل بدعوة الشعر الى التعجيل بالمقاومة والكفاح لأن المرارة قد ذاقها العرب في فلسطين من قبل.وقدأجمع عدد من الزملاء كتابا ونقادا, على أن المقاومة العراقية استبقت الزمن وتجاوزت الذهول, على خلاف ما كان في فيتنام حيث امتدت مرحلة المخاض إلى سنتين قبل مباشرة المقاومة الشعبية فيها, أما التجربة اللبنانية فكانت درسا وأنموذجا, حيث بوشر بطرد المارينز والاجتياح الاسرائيلي دون أي مقدمات وتحقق النصر وتلاه نصر آخر تجسد بتحرير الجنوب.

نخلص من هذا للقول أن دعوة ساجدة الشعب العراقي للملمة الجراح لم تأت من فراغ فهي الاكاديمية التي تعني ما تقول: ضع ملحا فوق الجرح / تجلد / قل لن أرجع / فالموت سواء بالسيف, أو الجوع, أو الخنق / والفرق إذا قد ّ قميصي من قبل/ أو من دبر/ وأنا ما اعتدت الإدبار. .. وأقص يدي إن أجبرها الجوع على التوقيع / أقص أصابعها / لكن لن أركع. أما الوصف الأكثر واقعية لسمات الأدب المقاوم في العراق أنه ينطلق من مسلمة أساسية من مهام الأدب العربي بشكل عام ألا وهي مهمة استلهام البطولات, وتمجيد البطولة والرد على محاولات التشويه المتعمدة لوطنية المقاومة دون الانزلاق في مطب المهاترات السياسية تقول ساجدة: في العراق رجال / ونعم الرجال / يوجعون الحديد / يصنعون المحال /فلا مصعب أزرق, ولا مصعب أحمر, حط فينا الرحال / هل نسوا الشيخ ضاري الذي هز لندن / الى أن بكت من لظاه وجرّت ذيول الذلة والاندحار / كأني أراه يعود, على كل مفترق في العراق / ينادي ألا حي هلا بالرجال / أرضكم عرضكم وهاكم عقالي ارفعوه / بوجه الطغاة.... المظهر التالي من مظاهر الأدب المقاوم في العراق يتسم بالمباشرة وعدم التكلف يظهر من خلال سهولة اللفظ مع قوة في الايقاع وهذا الأسلوب الشعري خير ما يعبـّربه عن صدق العواطف, ثم أنه يخاطب الشعب مباشرة ويطرح القضية بعجالة ويسبر الحياة العامة فلا حاجة للرمز والإيماء ولا حاجة للتكلف والتصنع في مثل هذه المواقف ولا أحسبني بحاجة الى مزيد من العناء للرد على من ذهب بعيدا برأيه لتقويم أدب المقاومة الى درجة نفي أهمية المباشرة, لنجعل بيننا وبين القائلين هؤلاء معيارا واحدا, كلمة سواء, وهذه الكلمة هي الانفعالات الوجدانية الصادقة والعفوية التي تنتاب المستمع لقصيد ساجدة وهي تقول... رجال / أقسموا للأميرة بغداد / أن يطلقوا أسرها يزول. الى خلّها / حرة لا تطال../ فالرجولة لا شارب أو عقال إنها موقف خالد لن يزول ../ الرجولة أن ننحني للتراب نقبله / والنشيد على الثغر يا وطني / دمت حرا عزيزا وللحاقدين الزوال. إذا لا وقت للرمز الشعري ولا مجال, لأن الأدب الرمزي – برأيي –كان في ظروف سياسية و اجتماعية وبيئة ثقافية تفرض على الأديب التستر خلفها تقية, فما أظن سببا يجعل أديب المقاومة يتستر خلف الألفاظ, ولا نذهب أكثر من ذلك برأينا في الرمز الشعري كما ذهب الكاتب العراقي عباس فضلي خماس حين قال:
_(أننا يجب أن نرفض كل شعر غامض لأن الغموض والجمال لا يجتمعان ) لكننا نعتقد أن لكل مدرسة ضروراتها ولكل أسلوب ظرفه ومناسبته ولا يمكن نفي الجمال عن الأدب الرمزي إلا عندما يكون في غير مناسبته, أما السمة التالية من سمات شعر ساجدة فهي الألفاظ السهلة غير المبتذلة من نمط السهل الممتنع, وهذا النمط الشعري الساحر يكشف عن ثقافة الشاعرة وتمكنها من نواصي العربية وبلاغتها ففي قصيدة ( مكالمة ) كشفت عن هذا الممتنع فصار سهلا ( قربي صوتك العذب / عبر الأثير / سأرفع صوتي / اسمعي شغفي / وهاكِ احتراقي. إلى أن تتفاءل وهنا بيت القصيد, المثقف يجب أن يزرع التفاؤل بالنصر حتى في أسوأ الظروف والمحن يجب على المثقف أن لا ينهزم ويلحق الهزيمة بالآخرين كما يقول الدكتور علي عقلة عرسان, فإذا انهزم المثقف تنهزم الأمة ومن يزرع اليأس يكون من أعوان العدو بعلم أو بغير علم. فتخلص ساجدة للقول: ( غص صوتي بحزني / ومن خلل الدمع / أبصرت طيرا غريبا / له وجه طفل شهيد / يبشرني / أن فجرا قريبا / سيمحو الظلام.
إن شعر ساجدة الموسوي يذكرنا على الدوام بنازك الملائكة, القائلة: إني أنا عاطرة كالبرعمة / إني أضيء مثلما تشتعل الأقمار / أنير للثوار / درب الليالي المعتمة / أفتح في عيونهم نافذة للنهار. قول فيه يتحد الأنا الجمعي والأنا الفردي ذلك لسيطرة القلق على شخصية نازك بينما نجد الخطاب الأنوي لدى ساجدة جمعي فقول: ( لو كان ابني / لشيعته وانتهيت / ولكنه وطني / دونه الابن والمال والروح ) بكل هذا الوضوح تفصل ساجدة بين الأنا الفرداني والانا الجمعي أما القلق هنا فيبدده التفاؤل والأمل بالنصر والتحرير واستقلال العراق وجلاء الغزاة وجنود الاحتلال والتعويل على الشعب العراقي صاحب ثورة العشرين ومقاومته الصامدة ولا سيما أنها تحقق مزيدا من النجاحات في ساحات الوغى وتلحق بالعدو الخسائر وتليه المزيد منها وقد أوقعت العدو في ما أسمته الصحافة بالمستنقع العراقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى