السبت ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم تركي بني خالد

ماذا يقول الناس؟

ما قيمة أن تربح الدنيا وتخسر نفسك؟ ما قيمة أن تكون إنسانا رائعا في نظر الآخرين، مثاليا، أبا مثاليا، زوجا مثاليا، ابنا بارا، جارا عظيما، صديقا مخلصا...، إلى غير ذلك من الألقاب، وأنت في الوقت ذاته تتعذب لأنك تخسر ذاتك.. وتعادي نفسك؟!

ما قيمة أن يضحك لك الجميع أو يكرهك الجميع إذا كانت الدنيا الداخلية فيك لا تشاطرك همومك، ولا تشعرك من أنت؟!

تبا للمجاملات، وتبا للصفقات، وتبا للدبلوماسية اللعينة، تبا (....) وتبا للمجتمع الذي نخاف منه، يرهبنا دون أن نراه. ونحتكم لأمره، ونلتزم بما يقول، هذا المجتمع... حتى لو كان سخيفا!! حتى لو كان متخلفا!!

من هو المجتمع؟ من أعطاه هذه السطوه، وهذه الوصاية؟

تبا للثقافة، وما صنعه الأجداد، تبا لنا جميعا إذا كان مطلوبا منا أن ننسى أنفسنا، ونكون نسخة للآباء والأجداد. تبا لهم ولنا إذا قبلنا أن نعيش في جلابيبهم وتحت أجنحتهم. تبا للوصاية من أي نوع!
تبا للقمع، وتبا لفرض الآراء. تبا للحاجة التي تشعر الناس بالذل، تبا للمال الذي يجلب الذل لأصحابه!

كم أحسد الغجر على حياتهم، مساواة محققة، وحياة هادئة، بسيطة، لا التزام بوطن، وجغرافيا، ولا بطاقات من أي نوع! ولا طموحات على حساب أبجديات حياتهم السعيدة.

تبا للأنانية التي تستعبد البشر!

نذهب إلى المدارس والجامعات سنين طويلة، من أجل الحصول على عمل، ثم نحصل على عمل من أجل الحصول على المال، على معيشة أفضل!!

نتحمل الكثير من المشاق على حساب أنفسنا، نرغم على ما لا نريد، نفقد الإرادة، نسير مع التيار، ثم يقال لنا: متى نفرح بكم؟ يقال لنا هكذا، يفرح الآخرون بنا!! بغض النظر عن مدى فرحنا نحن بذواتنا!!

يتم تزويجنا، يضغط علينا بأساليب مباشرة وغير مباشرة، الكل يريد أن يرى أبناءنا، الوالد يريد أن يصبح جدا على حسابك أنت، لأنه يريد أن يفرح بك، وعلى حسابك، حتى مجيئك إلى هذه الحياة لم يكن برغبة منك أنت! إن وجودك هو استجابة ونتيجة لرغبة شخص آخر هو أبوك، وأمك، وآخرون أيضا!! لحظة أو ساعة من الأنانية الخالصة، تأتي بك أنت إلى الحياة رغما عنك!!

ثم يقذفون بك إلى أسوار المدارس، وإلى مقاعد الدرس، يؤدبونك، يضربونك، يقمعونك، يهددونك، ويشتمونك، تحت شعار عقيم اسمه التربية؛ لأنك تولد غير مربى، وتستحق التهذيب، يقذفونك مثل الكرة، إلى أعلى، يلعبون بك، يتسلون عليك، لأنك ابنهم المدلل!! مثل ألعاب الأطفال، لا فرق بين الدمية وبين الأطفال الذين يلعبون بها!! ثم يضربونك ويرشدونك إلى ما فيه "الخير"، وما من أحد يعرف الخير بالطبع غيرهم!! المجتمع، الثقافة، الوالدين، الأقارب، الجيران، وغير ذلك من المنافقين!!!

يرسلونك إلى الجامعة، وتدرس، وتتألم، ويقنعونك أن ذلك لصالحك، يختارون لك موضوع الدراسة، لأنهم ببساطة "أولياء أمرك"!!!
يا له من مصطلح غبي!!

ثم فجأة يطلبون منك أن تخطب فتاة معينة، ابنة عمك، ابنة خالك، أو ابنة الجيران. لماذا؟ أنت نفسك لا تعرف!! فقط لأن أمك- والجنة تحت أقدام الأمهات كما تعرف- تريد أن تختار لك، إنسانة تحبها هي! ويطلب منك أن تحترم رأي أولياء الأمر!! لأنك لا أمر لك! فأمرك بيد غيرك!!!

ثم يراقبونك عن كثب، يقررون لك أين تسكن، وربما أين تعمل، وكيف تعيش!
يبنون لك غرفة، امتدادا لبيت العائلة، أو بيتا على الطابق الأعلى لبيتهم، أو أسفل منهم، لا فرق، المهم أن تبقى محط أعينهم، وأن تبقى زوجتك أيضا تحت مراقبتهم.

ثم يطلب منك أن تكون رجلا، وتنجب، وأن تكون أنثى، وتنجب! حتى لو قرر كل الأطباء أنك غير مؤهل للإنجاب، يبقى القرار العائلي: عليك أن تثبت رجولتك، بالإنجاب.. وإلا.....!!

وحين تنجب، وتكون محظوظا، يكون المولود الأول ولدا، ذكرا، حلوا، جميلا، يشبه جده، أو عمه، أو أخواله، المهم ألا يشبهك أنت!! لأنه لهم..

وإن كنت متعوس الطالع، تولد لك الأنثى، فتسود وجوه، وتعبس، وتقطب الجباه، ويقال لك: كله من الله زين! البنات جيدات كذلك! تعزية لك.. وكأنك اقترفت خطأ مقصودا!! لأنك من المفروض أن تحسب الجينات، وأن تسيطر على كل خلايا جسمك، لتأتي لك الكر وموسومات بولد، يكون عزوة للأسرة، ويفرح بك الجميع!

أما أنت.. فما عليك إلا أن تدفع من أعصابك، وتنسى نفسك من أجل أن تحقق حلم آبائك وأجدادك. أن تكون أبا.. ورجلا!

وحين يكبر ولدك، يقال لك: لماذا فقط ولد؟ أين الثاني والثالث؟ يريد أخا يلعب معه! لا نريد أن يكون لك ولد وحيد!!

وتعاقب زوجتك إن لم تنجب المزيد من الأولاد، أو إذا تأخرت بعض الوقت؛ المفروض أن "توصي" على ولد.. تماما مثل البيتزا!! توصي عليها وتأتيك.. التسليم مجاني عند عتبة الباب! وإذا تمردت الزوجة، يطلب منك أن تطلقها، أو إذا كنت رحيما أن تتزوج بأخرى، لأنه لابد أن تكون أفضل من فلان وعلان، فأنت والأرانب سواسية، في سباق مع الزمن، نحو الإنجاب!!

ا يهم أي شيء آخر، المهم العشيرة، المهم الأسرة، المهم العائلة، المهم الوطن، المهم أي شيء.. إلا أنت!! لا أحد يبالي بك! تعيش في كنف الآخرين، وتموت كذلك تحت رحمتهم، تنتظر يوما، تتذكر يوما عشت فيه لنفسك، لحظة من الحب، لحظة من الخلوة مع الذات، أو مع من تحب، هذا إذا كان هناك من تظن أنه يحبك.. أو تحبه!!

وحتى الحب.. يتم إيهامك أنه يأتي بعد الزواج، لأنك لا يمكن- حسب رأيهم- أن تشعر!! لا يمكن أن يكون لك قلب.. إلا بعد الزواج! هكذا.. يحشر الكل أنفه في جيبك، وعقلك وحياتك!!

ثم تكبر بك السنوات، فتكتشف فجأة أنك "أبو العيال"، وعليك أن تتصرف كذلك، رمزا للاستقامة، ومثالا للإخلاص، وتحمل المسؤولية، إلى آخر ذلك من التسميات المعسولة التي يقنعونك بها، وتشعر أنك تختنق، لأنك لا تجد نفسك!
فأنت مطالب بالتضحية، أن تضحي من أجل إخوتك الصغار، وأخواتك، وأعمامك وخالاتك،.. من أجل الجميع، لأنهم ذوو قربى، الشيء الوحيد الذي لا يمت بالقربى لك هو نفسك!! اذهب إلى الجحيم أنت ونفسك! لا يهم.. المهم هو أن تبقى في نظر المجتمع "مثالا" للوقار.. والاتزان!

يخطر في بالك أن ترقص، أن تلعب رياضة، أن تركب دراجة هوائية مثلا، لكنك تخاف!! هذا لعب عيال.. كيف تفعل ذلك وأنت كبرت؟ لا بد أن تجالس الكبار، ولا بد أن تكون "رزينا" ولا بد أن تكون "عاقلا"

يا لغباء العقل.... عندما تخسر نفسك!

يخطر في بالك أن تكتب شعرا، قصيدة، خاطرة، فيقال لك: يا عابث!! تترك عملك! هذا يؤثر على عملك، إن أولوياتك هي أولادك، هي عملك، ماذا تصنع بالشعر أو النثر؟ لا أحد يشتري شعرا!! لأنه سلعة قديمة وغير مطلوبة في سوق التجار!

ولأنك تحرص على عملك، أو هكذا يوحى إليك.. تحاول أن تبدو عظيما، ناجحا، كالآخرين تماما! تنافق مثلهم، تحارب مثلهم، تحترق مثلهم، لا يهم.. المهم أن تحافظ على معنى وظيفتك، أن تكون على مستوى الحدث، على مستوى نظر الناس إليك.

الناس.. هم الذين سيؤول إليهم الأمر! الكل يقول لك فورا: ماذا يقول الناس؟ لا أحد يسألك: ماذا تقول أنت؟! المهم أن تلبس كما يتوقع الناس، وتأكل بالطريقة التي يرضى عنها الناس.. تمشي كما يحلو للناس، تعيش في مكان عملك. المهم هو الوقار، المهم هو الاتزان، حتى لو كان ثمن كل ذلك أن تخسر نفسك، أن تعادي ذاتك.
والويل كل الويل، إذا قرأت قصيدة لنزار قباني، أو جد أحدهم رواية لنجيب محفوظ في مكتبك.. هل يمكن ذلك؟ المفروض أن تكون قراءاتك كما يريد الناس، اتجاهات الناس.. أن تسمع ما يسمع الناس، حتى لو كان غباء!!! وأن تقرأ ما يقرأ الناس، حتى لو كان عقيما.

الويل لك، إن قهقهت يوما، فذلك عمل كبير، وقد يؤدي بك إلى النار، الويل ك.. خاصة إذا كنت أنثى، أن تبتسم!! هكذا.. تبتسم!! حتى لو كان ذلك الابتسام للعصافير، فإن تلك الابتسامات محسوبة عليك، مرصودة تماما!!
من يجرؤ على توجيه غمزة حتى لو كانت للقمر في السماء؟! من يجرؤ على الضحك في زمن العبوس الدائم؟ الويل لمن ثبت أن له قلب! يا للهول!! الويل إذا ثبت أن شيئا ما يجري في عروقك غير ذلك الدم البارد.. الذي ضخه في جسمك ذلك المجتمع اللعين!

إن من يحاول ولو على سبيل التجربة أن يعيش ولو دقائق لنفسه، يعايش نفسه، ومن يهوى من الأشياء، مصيره المحتوم.. النبذ من المجتمع!

فأنت إذا فكرت في شيء لنفسك، لذاتك، تصبح أمام محكمة المجتمع وجها لوجه.. فإما أنت ابن عفريت- إذا كنت صغيرا- وإما أنك مراهق شقي- إذا كنت يافعا- وإما أنك طائش أو ابن عاق- إذا كنت بالغا- وإما أنك كهل مخرف إذا كنت في أرذل العمر!!
المطلوب منك دوما ألا تكون كما قال يوما شكسبير: أن تكون أو لا تكون.. ذلك هو السؤال!
وإذا أردت أن تكون، فلا يمكن أن يتسنى لك ذلك، إلا على مزاج غيرك من أفراد المجتمع.

لو كان المجتمع رجلا لقتلته.. لو كان المجتمع امرأة واحدة، لألقيت بها في البحر!! لكن ماذا أفعل عندما يكون المجتمع أكثر من ذلك؟! المجتمع بدعة، وقد يكون ضلالة!! المجتمع اختراع غبي.. لأن الأصل هو أنا، وأنت، ولأن البداية ليست هي المجتمع، البداية هي أنت، هي أنا.. هي آدم.. هي حواء!!

لكن المشكلة عندما يأتي إبليس- رمز المجتمع- ممثل المجتمع، ليقول لك شيئا، ثم يقذف بك من أعلى مكان، إلى أسفل سافلين، إلى الأرض.. لأنك سمعت كلام الآخرين. كان من المفروض ألا يسمع آدم عليه السلام غير نفسه، وألا يتكلم مع أحد غير رفيقة عمره- حواء- . لكن هنالك من يلقي اللوم عليها هي.. وهذه حكاية أخرى لا أعرفها! ومن الأفضل لي أن أغلق فمي إذا وصلت الأمور إلى هنا!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى