الجمعة ٣٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٦
بقلم صبحي غندور

"المهندس الأميركي".. و"المقاولون" العرب!

أصدفةٌ كانت أن يتزامن بدء حكم الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش مع أحداث 11 سبتمبر 2001 التي شكّلت صدمة كبيرة لأميركا وللعالم، وأن يكون حكم الرئيس السابق جورج بوش (الأب) قد تزامن أيضاً مع حدثٍ كبيرٍ هزَّ منطقة الشرق الأوسط والعالم وانغمست فيه أميركا بشكلٍ كامل، ألا وهو غزو الكويت عام 1990؟ ثمَّ أصدفةٌ هي أن يرتبط الحدثان بتفاعلات ما بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط المعسكر الشيوعي؟

وهل أحداث 11 سبتمبر 2001 كانت بدايةً لحقبةٍ زمنيةٍ جديدة في العالم أم أنَّها حلقةٌ في سلسلةٍ من وقائع جديدة تعيشها بلدان العالم بعد انتهاء حقبة الحرب الباردة؟

ولعلَّ السؤال الكبير أيضاً هو، لِمَ منطقة الخليج العربي هي تحديداً محور تلك الصدمات الدولية التي زامنت عصر الرئيس بوش الأب وتتزامن الآن مع عصر الرئيس بوش الابن؟!

في صدمة غزو الكويت، كان السؤال البارز : كيف يحشد النظام العراقي جيشه ويغزو الكويت ولا تحرّك أميركا ساكناً إلا حين وقوع الحدث الكبير!؟ كما أنَّ العالم اليوم (بما فيه الشعب الأميركي) لا يعلم مدى ما كانت تعرفه تماماً الإدارة الأميركية عن استعداد عناصر من "جماعة القاعدة" للهجوم على نيويورك وواشنطن بواسطة طائراتٍ مدنية !!

وهل هي من قبيل الصدفة أيضاً أن يكون "بطل فيلم" الصدمة الأولى أيام الرئيس بوش الأب (النظام العراقي) هو أيضاً "بطل فيلم" الصدمة الثانية، حيث أنَّ أنظار العالم كلّه تحوَّلت إلى موضوع العراق وما فيه من تفاعلاتٍ إقليمية ودولية؟!

إنَّ غزو الكويت عام 1990، كان بدايةً لحملةٍ على الهوّية العربية، وأحداث 11 سبتمبر 2001 كانت بدايةً لحملةٍ على الهوّية الإسلامية، وإذا بحصيلة الصدمتين المعاصرتين ل"آل بوش" في البيت الأبيض، محاولات لإضعاف الهويتين: العروبية والإسلامية معاً، وبسعيٍ لهيمنةٍ عسكريةٍ كاملة على المنطقة العربية وعلى مختلف بلدان العالم الإسلامي.

تُرى، لو لم تكن هناك جهات محليّة تتحرَّك بشعارات عربية أو إسلامية، هل كان من الممكن حدوث مثل هذه الصدمات أو الزلازل التي تهزّ أركان الأرض العربية تحديداً؟

لو لم يغزُ النظام العراقي السابق الكويت (باسم الضمّ القسري الوحدوي العربي)، هل كان للمنطقة العربية أن تشهد وجوداً عسكرياً أجنبياً واسعاً كما حصل بعد عام 1990؟

هل كان للقضية الفلسطينية أن تصل إلى ما آلت إليه حالها من شدّة حصارٍ وتأزّم؟

والشعب العراقي بدوره، هل كان ليعاني ما يعانيه من قنل ودمار حصيلة الاحتلال الآن؟

هل كان لظاهرة "جماعات التطرف والتكفير والعنف" أن تبرز سياسياً في حين أنَّ مؤسّيسها والعديد من عناصرها كانوا أصلاً خدّام السياسة الأميركية طوال سنوات حرب "المجاهدين الأفغان" ضدَّ النظام الشيوعي والقوات السوفييتية في أفغانستان.. ثم تحول مطلبهم إلى إخراج القوات الأميركية من الجزيرة العربية بعد عام 1990؟!

هذه أسئلةٌ مهمّة، لأنَّ "المهندس الأميركي" استخدم ويستخدم "مقاولين" عرب ومسلمين في إعداده لبناء شرقٍ أوسطيٍ جديد، بل لبناء نظامٍ عالميٍّ جديد تحدَّث عنه جورج بوش الأب حينما كان رئيساً إلا أنَّ الانتخابات الأمريكية عام 1992 لم تكتب له فرصة الاستمرار بالحكم لولايةٍ أخرى والعمل على تثبيت بنيانه. ومعلومٌ أنَّ هذا البناء أعدّه آنذاك معاً مجموعة من "خبراء" الحزب الجمهوري والبنتاغون الذين يعرفون الآن بالمحافظين الجدد.

لقد سقط المعسكر الشيوعي وانتهت الحرب الباردة حصيلة ضغوطاتٍ وسياساتٍ اشترك في وضعها عدد كبير من هؤلاء "الخبراء" الذين رافقوا فترة حكم ريغان/بوش لثماني سنواتٍ (1980-1988) ثمَّ فترة بوش الأب (1988-1992). وفي الحقبة الريغانية/البوشية، حصلت الحرب العراقية/الإيرانية (بدعم أميركي/إسرائيلي)، وحصلت ثورة المجاهدين الأفغان (بدعم أميركي كبير)، وحدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان (بموافقة أميركية)، ثمَّ سقط الاتحاد السوفييتي مترنّحاً في فترة الرئيس بوش الأب بفعل نتائج الحقبة الريغانية، وما برز فيها من ضغوطاتٍ اقتصادية وسباق تسلّح وتعزيز كبير لدور المصانع العسكرية الأميركية وشركات النفط الأميركية ومؤسسة البنتاغون العسكرية. وكان من الطبيعي البحث عن عدوٍّ جديد يضمن استمرار تدفّق صناعة الأسلحة ويسمح باستمرار الانتشار العسكري الأميركي في العالم وبالسيطرة على مواقع الثروات الطبيعية فيه، وفي مقدمتها النفط.

أيضاً، كان من الضروري إبقاء الغرب الأوروبي تحت المظلَّة الأميركية بل وإضافة باقي دول أوروبا إلى هذه المظلّة.. وهكذا أصبح حلف الناتو حلفاً أميركياً/أوروبياً ضدَّ عدوٍّ مجهول لحين إعداده أميركياً!!

إنَّ أوروبا، في مطلع التسعينات من القرن الماضي، قد شهدت تحوّلاتٍ كبرى لم تنعكس فوراً على المنطقة العربية، رغم قربها الجغرافي من هذه المنطقة. فهناك دول في أوروبا اختارت شعوبها الوحدة مثل ألمانيا، وهناك دول اختارت شعوبها الانفصال مثل تشيكوسلوفاكيا، وهناك دول أخرى وجدت شعوبها نفسها فيها أمام صراعاتٍ دموية مثل يوغوسلافيا، وتفتَّت جمهوريات الاتحاد السوفييتي إلى موزاييك من الدول والثقافات وأنواع الحكم ..

وجرى في عموم أوروبا الشرقية تغيير اقتصادي وسياسي وأمني بل وثقافي أحياناً، في ظلِّ رعايةٍ أميركية لكلِّ هذه التغييرات. وكانت حرب الخليج الثانية هي حلقة في سلسلة متغيّرات تريد أميركا فرضها على العالم. وكان من المؤمَّل أميركياً أن تنسحب هذه المتغيّرات الأوروبية على المنطقة العربية أيضاً، وعلى جوارها الإقليمي في آسيا وأفريقيا، أي تغييرات أمنية وسياسية واقتصادية وثقافية، وربّما في أنظمة الحكم أيضاً.

كانت إدارة بوش الأب حريصة على إنهاء ملف الصراع العربي/الإسرائيلي وفق صيغة مؤتمر مدريد، وما كان يجب أن يترتَّب عليه، من بناء شرقٍ أوسطي جديد يسوده التطبيع الكامل بين العرب وإسرائيل من خلال توظيف نتائج غزو الكويت وتفاعلاته السلبية العربية .. لكن هذه المخطّطات تعثَّرت، وخرجت "مجموعة الخبراء" من البيت الأبيض بعد حكم 12 سنة، ودخل البيت الأبيض الأميركي طاقم جديد لا يحمل الرؤية نفسها ولا الخبرة نفسها أيضاً. فكانت فترة عهد كلينتون (8 سنوات) حالة تعامل بالاضطرار مع أوضاع عالمية أكثر منها مبادرات تخدم رؤيةً محدّدة. وحتى في إطار معالجة الأزمات الدولية، كانت سمة حكم الرئيس كلينتون هي ردّة الفعل تجاه الأحداث أكثر من صنعها للأحداث نفسها. وهكذا بقي الملف العراقي جامداً، وكذلك ملف الصراع العربي/الإسرائيلي رغم تحرّك الأخير ببطءٍ شديد من خلال اتفاق أوسلو (الذي كان خروجاً عن صيغة مؤتمر مدريد)، ثمَّ حدوث الانتفاضة الفلسطينية مع نهاية عهد كلينتون.

وهكذا أيضاً، ساد الجمود السياسي منطقة الشرق الأوسط فلم تسقط أنظمة، ولم تحدث تغييرات كالتي حدثت في أوروبا الشرقية، وتوقَّفت "المحدلة" الأميركية عن العمل حتى عودة "مجموعة الخبراء" من جديد إلى الحكم مع فوز الرئيس بوش الابن بصعوبةٍ بالغة.

ثم فتحت أحداث 11 سبتمبر الأبواب كلّها أمام "الرؤية الأميركية" التي وضعتها "مجموعة الخبراء" عقب سقوط الاتحاد السوفييتي، وهي الرؤية التي تتضمّن إحداث متغيّراتٍ في الشرق الأوسط وفي جواره الآسيوي والأفريقي بشكلٍ مشابهٍ لمتغيّرات أوروبا الشرقية.

لكن من قام بتنفيذ العمليات الإجرامية الإرهابية في أميركا يوم 11 سبتمبر، هم أشخاص من جماعاتٍ ترفع شعاراتٍ إسلامية (باعتراف المسؤولين عن هذه الجماعات) وهي بالحقيقة تنطق بفتاوى ما أنزل الله بها من سلطان، حين يحلّل أتباعها ما حرَّم الله تعالى في الشرائع السماوية كافّة من قتلٍ وإرهابٍ للمدنيين الأبرياء..

أميركا لا تصنع بالضرورة الحدث مباشرةً .. لكنّها حتماً قادرة على التشجيع لإحداثه ثم توظيفه لما يخدم مصالحها وأهدافها في عموم العالم... هكذا جرت الأحداث منذ غزو الكويت وبدء الحرب على الهويّة العربية إلى 11 سبتمبر وبدء الحرب على الهويّة الإسلامية.

المشكلة أنَّ معظم الحديث يدور دائماً حول النتائج وحول المستفيدين من الحدث ومخطّطاتهم، إلا أنَّ ذلك لن يمنع من تكرار الأحداث الكبرى، طالما أنّ هناك من يضع أسبابها ويشارك بصنعها من منتمين للبلدان الضحية!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى