الخميس ٩ أيار (مايو) ٢٠٠٢
بقلم نجاة غفران

همس الورود

يقولون عني أنني امرأة لطيفة، طيبة، وحاذقة، ويعترف لي الكثيرون بأنني ربة بيت ممتازة، وزوجة ذكية، وأم متفهمة، يجاملني الناس كثيراً بشكل عام. وأعرف أن لعملي الحساس في مديرية الضرائب دوراً كبيراً في ذلك.

يسليني ذلك أحياناً، ويجعلني أحياناً أخرى أشعر بالتعاسة والضيق وأتحرق للخروج من القوقعة التي سجنتني فيها ظروف لا سلطة لي عليها. ثمة شيء خفي يمنعني من الاستمتاع بالحياة التي أعرف أن الكثيرات يحسدنني عليها ويوارين حسدهن خلف الابتسامات الزائفة والمجاملات المحسوبة بدقة عجيبة. لم أختر مجال عملي، بل لم أكن أحلم بالحصول على عمل أصلاً، أخذت شهادتي الثانوية بصعوبة، ورأيت زميلاتي يتسابقن للالتحاق بالكليات والمعاهد المرموقة، بل والسفر الى الخارج أيضاً لمتابعة الدراسة هناك. ورضيت بالتفرغ لأعمال البيت، وتمكين أخواتي الصغيرات الأكثر نجابة من الانصراف لدراستهن ومستقبلهن الذي كان يعد بالكثير..

مرت مدة ونشر في الصحف خبر عن حاجة مديرية الضرائب الى موظفات للعمل في الأرشيف، وكان المؤهل المطلوب هو الشهادة الثانوية فقط، والراتب المقترح رقم هزيل يتناسب مع الشهادة المذكورة. كانت أمي قد بدأت تشتكي من حظي العاثر في الدارسة والزواج، لم يتقدم لي أحد رغم أنني بدأت أخطو نحن الثانية والعشرين، ولم يكن لدي أصلاً ما يثير انتباه أي رجل، لا مال ولا جمال ولا عمل حتى.. دفعوني في البيت الى تقديم ملفي الى مديرية الضرائب، وكنت أعتقد أن سلسلة إحباطاتي ستتتابع، ولم أتوقع أبداً أن يتم اختياري مع بعض "المحظوظات" لشغر المناصب المقترحة. بدأت العمل دون حماس، كرهت دائماً التعامل بالأرقام.

ووجدت نفسي أعود مكرهة للتعامل بالأرقام، أتذكر أن البداية كانت صعبة جداً، فكرت في العودة الى البيت، لكن الاسرة لم تسمح لي بذلك، لا أدري كيف مر الزمن لكنني تعودت على روتين العمل، وشيئاً فشيئاً بدأت أتمكن منه وأضبطه ، رغم أنني لم أحبه يوماً.
حصلت كغيري على ترقيات متوالية انتهت بي الى ادارتي سكرتارية مكتب مهم في المديرية. أعرف الآن كل رؤساء المصالح، أحضر اجتماعاتهم وأعرف كل تفاصيل وأسرار العمل.

تزوجت من أحد خطاب أخواتي، الواقع أن البنات لم يحققن الكثير، مقارنة بي، منهن من عملت في التعليم، ومنهن من اختارت السياحة، والصغيرتان لا تزالان تتابعان دراساتهما العليا، تزوجن جميعاً بشباب في مثل مستواهن تقريباً. وبقيت بعد أن تأكد لي أن النصيب أشاح بوجهه عني، الى أن طلبني رجل رفضته أخواتي، موظف بسيط في شركة استيراد وتصدير. أعرف أنني لم أملأ عينه يوماً، وأدرك أيضاً أن نجاحي في التوفيق بين أعباء عملي ومشاغل البيت والأولاد جعله يتمسك بي كل هذه السنوات ويحترمني دون أن يحيطني بذلك الحب الجامع الذي حلمت به مراراً خلال مراهقتي. ثم هناك النماذج البشرية المختلفة التي تتدفق علي في البيت والمكتب، الكل ينشد رضاي ويرجو أن أقضي له مسألة أو أسهل عليه مشواراً، أكاد أشعر بتباهي زوجي، مثله مثل كل أفراد عائلتي، وبأهميتي التي تنعكس إيجاباً عليهم، يجاملني الجميع. وأشعر بالغربة نحو نفسي تتنامى. لست موظفة كبيرة الشأن كما يراني الآخرون، لست سيدة بيت ممتازة، لست أماً مثالية، ولست زوجة محبة ومدللة تنعم بحنان زوجها ورقته ورعايته. لا أدري الى متى كان من الممكن أن أظل امرأة ممزقة القلب منفصمة الشخصية بهذا الشكل.. لو لم أحصل على باقة ورد قلبت حياتي رأساً على عقب! باقة ورد بيضاء أنيقة حركت في داخلي أوتاراً أرخاها الزمن، وأثارت في نفسي دهشة وبهجة أعادتاني سنوات الى الوراء. قضيت في الفترة الأخيرة غرضاً مهماً لسيدة كانت تدرس في ما مضى مع إحدى أخواتي، وجاءت المرأة تشكرني وفي يدها ورود بيضاء منسقة بذوق. أخبرتني أن أخاها يعمل في مشتل تابع لشركة أجنبية، وأن الورود التي ينتجها تصدر رأساً الى أرقى المؤسسات والبيوت الأوروبية..

وضعت الورود في أكبر إناء أملكه، ونفذت كل نصائحها لأحتفظ بها نضرة يانعة أطول فترة ممكنة.

اخترت أن أزين بها ردهة المدخل، ووقفت طويلاً أتأملها وأعجب لجمالها المؤثر وعبيرها العبق، بياض لا تخدش صفاءه سوى خضرة الوريقات الصغيرة اللامعة رأيت المرآة تعكس صورتها، وتمنيت أن يعكسها قلبي أيضاً.

حرمت على الأولاد وأبيهم أن يلمسوا ثنايا الورود الحريرية ولا حتى سيقانها الشائكة، ثم بدا لي أن الردهة ضيقة وبإمكان أي كان أن يصدم الإناء أو يجرح الورود فأخذتها الى الصالون، غرفة واسعة ونظيفة، لكنها باردة لم أرد للورود التي هزت مشاعري من الأعماق أن تذبل وسط وحشة الغرفة، أخذتها الى بيت المعيشة ثم الى المطبخ وأخيراً الى غرفة النوم.

نام زوجي وبقيت أحدق في الجمال البادي على طاولة التزيين قرب مصباح خافت، لم أنتبه الى أنني كنت أبكي إلا عندما هب زوجي نحوي، لم يسأل عما بي، أخذ فقط يهدئني، واستسلمت له. من زمان لم أسمح لنفسي بالبكاء، لا يجوز لامرأة في مركزي أن تكون ضعيفة. هكذا كنت أفكر، من زمان، لم أشعر بأن زوجي قريباً مني، ربما لم يحدث ذلك أبداً من قبل، من زمان، لم أحس بأن الصبية التي كنتها وافتقدتها، والمرأة التي أصبحتها وكرهتها، شخص واحد لا اثنان.
تصالحت مع نفسي، وانفكت عقد لساني.

لم أنم تلك الليلة، تبادلت وزوجي حديثاً كان من الواجب أن نتطرق إليه أول ما جاء يطلبني. فوجئت وذهلت وندمت وتفهمت.. ولمست عواطفي كل ألوان الطيف..

وجدنا الفجر لا نزال نتسامر، وشذا الورد يعبق بسخاء في الغرفة. لم يذبل. ولم يقلقني الأمر كثيراً. قال زوجي أنه سيأتي لي بباقة أخرى.. حتى لو اضطر الى السفر الى الخارج وراءها.

وصدقته، وهل كان بإمكاني أن أفعل غير ذلك؟ وأنا أرى حياتي تصبح فجأة أجمل وأرق وأحلى..؟

عن " سيدتي "


مشاركة منتدى

  • انا من اشد المعجبين بهذه الكاتبه الرائعه واتابعها باستمرار عبر مجله سيدتي

  • سيدة نجاة
    تحيتي لك

    قد تستغربين الرد على هذه المقالة بعد هذا الزمن , الواقع أني اكتشفت حديثاً هذا الموقع المهم وكان لي شرف الكتابة فيه ,

    قرأت لك قبل هذه مقالة عن بشكير العفة, الذي لفت اتنباهي وعليه أرسلت تعليقي المنشور.
    لكني اليوم وبعجالة ورغم ضيق وقتي, قررت أن أرد ولو ببضع كلمات على هذه المشاركة .

    سيدتي .. كبيرة أنت ورائعة..ولا تعجبي من حسد الناس .. فما لديك يستحق الحسد..الروح الجميلة.. الموهبة الواضحة بل المتألقة..والثقافة والوعي هما بعض ما عندك..
    أحسدك

    دمت مبدعة

    أكرم حسن( منصورة)

  • سيدة نجاة
    أعتذر للخطأ بالنسبة لمقالة البشكير فهي من كتابة السيدة امتياز

    يبقى أن أقول , أتمنى أن أقرأ لك هنا .. اسلوبك سلس وجميل .. فهيا اقدمي ولا تتردي.

    دمت بخير

  • رائع ان من اشد المعجبين بك

  • مقالة رائعة وتجسد المجاملة التي انتشرت كثيرا بين الناس وبشكل عام مقالات السيدة نجاة تلهمني وتدفعني فورا لكتابة نص جديد رغم أن عمري لم يتازاوج ال11عاما وأن أتابع مقالاتها من خلال مجلة سيدتي أتمنى أن تكتب رواية لأنها ان كتبت ستنجح روايتها جدا وسأكون من أول من يشتريه

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى