الثلاثاء ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم محمد البوزيدي

ساعات في السجن

لماذا ما زال الجو باردا ؟ من يعطيه الدفء الذي يفتقده ؟أم هو إحساس داخلي شخصي لا علاقة له بالمناخ ...

هكذا تساءل رشيد في قرارة نفسه , و هو الغارق في زخم الزمن الرديء ،معتقل سابق ما زال لم يسترح من مأساة ساعات عديدة كانت ظلما و سرابا رغم مرور أشهر على ذكراها الحزينة.
ما زال يتذكر صخب الصباح الذي ليس ككل صباح، و لو وافق توقيت اللحظة الثامنة صباحا حين أخذ من منزله غفلة في اندهاش لزوجته و أبنائه , أما تلامذته فقد اعتقدوا أنه غاب عن حصة الدرس للمشاركة في لقاء ثقافي جديد اعتاد أن يحمل لهم منه آخر الأفكار الفلسفية التي يزودهم بها قبل أن يقرؤوها مفصلة في الجرائد .
لذلك حين خرجوا ذلك الصباح من القسم في انتظار الساعة الموالية كانوا يهيئون أنفسهم ماديا لتصوير وثيقة /وثائق ترقبوا تسلمها من أستاذهم, بل حين همس عمر في أذن صديقه أنه شاهد أستاذهم تقتاده الشرطة بعنف لم يصدقه و لو أقسم له مرات عديدة.

في المقر المعروف الذي كثيرا ما قرأ عنه في أدبيات اللعبي كان على رشيد أن يحاول استيعاب ما حصل ويحصل , فها هم الآخرون يتهمونه بجريمة قتل حدثت قبل أسبوع بأحد الغابات .
لقد خرس عن الكلام , فالصدمة كانت بحجم غير المتوقع . إذ كيف له فعل ذلك ؟ و هو يصرح ويصرخ في كل حصة دراسية أن أهم حقوق الإنسان هو حق الحياة.
كيف يصدق التهمة ؟ و هو يركز على إنسانية الإنسان في كل محاضراته وكتاباته ،و لو تعمد جعل مسافة بينه و بين الجمعيات التي تتخذ من الموضوع شعارا لها ترتزق به في كل مناسبة عالمية ،بل وتقتات عليه في علاقاتها *الدولية*.لقد خشي من موقفه هذا الانصراف عن البحث و الاجتهاد العلمي إلى الخطاب الإيديولوجي العاطفي الذي يتقمصه بعض الذين أصبح يلقبهم بالوصوليين و.الانتهازيين و..و...
بعد يوم واحد في السجن كاد أن يجن.فلم يعـد يحتمل البقاء بدون جرائد أو أخبار القنوات الفضائية أو حتى جهاز الراديو الذي مازال يرافقه عند النوم لمتابعة فقرات إذاعة طنجة .

اعتقد في البداية أن في الأمر مزحة أو أنه اختلاط أوراق أو أسماء . لكن حين قال ذلك أمام الكوميسير المكلف بالتحقيق معه لم يشعر إلا و هو يسمع إجابة استثنائية عبارة عن صفعة على خذه الأيسر حتى صرخ بقوة - هل كانت صفعة أم مشروع صفقة - ثم عاود الكرة محتجا و مهددا بنقل ملفه إلى المعنيين في الجمعيات الحقوقية و على الجرائد و صفحات الانترنيت .
سكت أمامه المحققون حيث اعتقد أنه قد أصابهم في مقتل فواصل حديثه : هذا انتهاك لحقوق الإنسان سأكتب...و.... . أجابه أحدهم: إذا خرجت من هنا فاكتب مئات الصفحات, و بسرعة تم تكتيف يديه وإيداعه إحدى الغرف .
جلس يتأمل القيد و تذكر وضعه حين سأله أحدهم عن معناه في القسم فلم يعرف كيف يشرحه إلا برسم توضيحي على السبورة. جال برأسه ما كتبه الأدباء عنه و خمن لو توفرت له ورقة و قلم ليصفه جيدا.

مر اليوم قاسيا عليه, حتى وجبة الطعام الخاصة للسجناء رفض أكلها، لقد فقد ذاته، فكيف به يصبح ضيفا على الذي كتب عنه في الجرائد مرارا مطالبا بحذفه قانونيا و تعويضه بمدارس تربوية ذات منهجيات حديثة.
لم ينم طوال الليل فقد كان البعوض *صديقا *و*رفيقا * ملازما له حتى انحناءة الفجر وكذلك تأوهات السجان المال من المهمة والوظيفة، ناهيك عن آلام بعض المساجين الناتجة عن حرمان ما أو اعتداءات خاصة من طرف زملائهم الآخرين ،وحين ينادونه –السجان - ويطلبوا استغاثة منه ،كان الجواب جاهزا :حتى الصباح ونخبر المدير وننتظر تعليماته .
لم يدر أحدهم كيف استطاع أن يجد جرأة ليجيب ببراءة غائبة في هذا الزمن :هل علي أن أنتظر المدير لأطرح له شكوى من محاولة اغتصاب تتهددني الآن ،ما جدوى الشكوى بعد وقوع الواقعة؟

رد عليه الحارس : ماتصدعني راه عندك الشاف ديالك في الزنزانة
أجابه الضحية بصراخ ضاع آخره بعد إغلاق فمه بقماش :راه هو اللي يترأس الجلسة
وضاعت صراخات السجين المسكين وسط بهيمية الليل العاري من آلام هجوم خاص يتعرض له في الثانية صباحا من زملائه في الزنزانة ،ويشرف عليها قائد الموقع الخاص الذي ليس هو سوى سجين محكوم عليه ب 10 سنوات أمضى نصفها رفيقا للمدير الذي يتوصل بالهدايا من عائلته في الخارج نظير الرفق بالمتابع بتهمة ترويج المخدرات .
تساءل رشيد :هل أما محظوظ هنا إذن حيث نمت وحيدا في هذه الزنزانة وجاورت البعوض، أم تعمدوا عزلي لخشيتهم من تأطير السجناء الذين لا يحتاجوا تأطيرا ما فقد تكلف وأتم الفقر بما صنعه الجهل وكرسته الأمية .
كان الفطور في اليوم الموالي عبارة عن كسرة خبز وشاي غير منعنع منعدم السكر– أين هي قهوة الصباح على إيقاع الأخبار العالمية في القنوات الفضائية يارشيد- ،وبقي محتجزا في زنزانة غريبة لم يخرج منها إلا نصف ساعة في الحادية عشرة صباحا ،استغلها لأخذ الصف لقضاء حاجته المعلقة منذ الثامنة صباحا في مرافق غير صحية مطلقا حيث لا أبواب و لا ماء دافئ في الفصل القارس ...
ترقب بشهية غير معهودة فيه وجبة الغداء فقد كان جائعا، وكان يفكر في إعلان إضراب عن الطعام، لكنه مازال الآن لا يفهم ماذا يجري الآن هل هو اعتقال فعلا أم ماذا ؟ أم اختطاف ؟؟؟؟؟؟

في الواحدة زوالا حضر الغذاء *الجاهز * عدس رديء يتضمن لحوما خاصة ،إنها الديدان التي رقدت كثيرا فيه ،وخبز يظهر أنه طهي منذ البارحة ،سأل احدهم خلسة فصارحه أن المدير يقدم لهم خبز البارحة الذي يشتريه بنصف الثمن ليسرق الفرق بينهما في الأثمنة ويضيفه لرصيده البنكي.
رفض أكل الغذاء، تدخل السجان قائلا : من حقك ذلك فمازلت لم تألف، أتركك حتى تألف ولن تترك فيه أي شيء.
لم يدر كيف فكر في البكاء ،لكن البكاء سلاح * النساء* كما يقولون وصوت العجزة لكن مالعمل ؟ فالصمت انتحار خاص وسط السراب. لذلك قرر أن يصرخ مطالبا بحريتيه وسيرفع شعارات عديدة ولافتات و..و...و...
لكن أين الجماهير ؟
من سينصت إذن ؟

هل الإدارة التي جعلت زنزانته قريبا من مكتبها ؟
وأين الأثواب لكتابة اللافتات ؟
وأين الأبواق ليصل الصوت.المفقود من الصدمة..؟؟؟؟؟
حين كان يفكر في ذلك تناهى إلى آذانه صوت يعرفه جيدا إنه صديقه حميد يسأل عنه الإدارة التي أنكرت وجوده.
في لحظة انضافت له قوة خاصة فصاح بأعلى صوته معتبرا إياها الفرصة المناسبة فالأكيد أن اصدقاءه لا يعلمون شيئا عن مكان احتجازه ولو تأخروا في السؤال عنه .
 أنا هنا أنا هنا اسمي رشيد وشرع يدق الجدران ليسمعوه حتى أثار هلعا أثار انتباه الجميع .
أتى إليه الحارس ليمنعه من الصراخ لكنه واصل رغم كل القوى التي حاولت إيقافه...

بعد دقائق كان الحارس يطالبه بالحضور إلى مكتب مدير السجن. هناك وجد مدير المؤسسة التي يعمل فيها وبعض رفاقه منهم المناضل حميد .
سلم عليهم بحرارة وسط مفاجأة المدير الذي أبدى اندهاشه :آه هذا الذي تبحثون عنه العفو إن الأمر خطأ في الأسماء وسأعاقب المسؤولين....وكان مقررا إطلاق سراحه في مساء هذا اليوم لقد تأكدنا أن الأمر تشابه في الأسماء.
رد عليه رشيد قائلا : لا فالأمر مقصود وسأتابع الدولة بتهمة الاختطاف وعدم الإخبار بالاعتقال ..و...و...و...
 يا أستاذ صدقني أن الأمر مجرد خطأ ......

 لا ، أعرفكم جيدا ،واحدا واحدا وسأكتب عنكم في الصحافة ،وأحكي ما عشته هذه الليلة في السجن وماعاناه الآخرين ..
كانت مفاوضات واستعطافات بالتكتم على الأمر ،وحين كان يجمع بعض الملابس التي نزعها في الزنزانة همس له أحد الحراس :عفوا ياأستاذ فالأمر مقصود ، إن الخطة كانت التفاوض معك حول عدم النشر في المواقع الالكترونية الحقوقية التي تكتب فيها........

في المساء تقاطر الزملاء والتلاميذ على المنزل لتهنئته بالسلامة ،وبينما كانت أغلب المواقع تنشر خبرا عن اختطافه مرفقة بصورة لحظة خروجه من السجن ، كان رشيد يرفع سماعة الهاتف، كان المدير هو من ينادي مقدما نفسه :معك سعادة مدير السجن

لم يجبه رشيد مطلقا ...........وأغلق عليه الخط بدون تردد


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى