الخميس ٦ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم حسام أبو حامد

((السياسوية)) وسرير بروقرسطس

ربما عبّرت اليوتوبيا الأفلاطونية عن حلم المثقف صانع الفِكَر في أن ينتزع اعترافاً ما بدوره الاجتماعي. وكان الحلم/المثال عند أفلاطون مدينة فاضلة تسود فيها سلطة الفلسفة ويتحول المثقف فيها إلى حاكم. كان على المثقف أن ينتظر قروناً عديدة قبل أن تصبح هذه اليوتوبيا واقعاً بمعنى ما وتحديداً في أوروبا القرن الثامن عشر. فيقرر أحد مفكري هذا القرن، وهو تشارلز دوكلاس، بكل ثقة أن (( أهل الفكْر هم الذين يحكمون لأنهم يصنعون الرأي العام)). إنه عصر التنوير الذي تعاظمت فيه سلطة العقل وسلطة المثقف صانع الفِكَر وحامل مشروع الحداثة، ابتداء من رسالة فولتير في التسامح [1]، مرورا بالثورة الفرنسية التي قادها فلاسفة الأنوار، وصولا إلى "بيان المثقفين" [2].

ابتدءاً من القرن الثامن عشر برز المثقف كصانع للرأي العام والقادر على توجيهه متخلصاً من سلطة الدولة والكنيسة، مما سلط الضوء على قضية الالتزام طالما أن دفاع المثقف عن القضايا العامة والتزامه بها هو الذي يكسبه مشروعيته أمام الرأي العام. ولعل أشهر من حمل لواء الالتزام الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، والذي نظّر لها بداية من خلال مجلة "الأزمنة الحديثة" التي صدر العدد الأول منها في أيلول 1944. وسرعان ما انتقلت قضية الالتزام هذه في خمسينيات القرن العشرين إلى المثقفين العرب. فأعلنت مجلة الآداب البيروتية منذ عددها الأول في كانون الثاني 1953 عن أن الأدب (( نشاط فكري يستهدف غاية عظيمة هي غاية الأدب الفعال(...) أدب الالتزام)).

وبدعوى الالتزام بدأ المثقفين العرب بالتمترس أكثر فأكثر حول الشعارات الكبرى لمختلف الأحزاب والتيارات السياسية، ووجد المثقف نفسه أكثر فأكثر متورطا في السياسي فكراً وممارسة، مدفوعا بحسن النوايا وبالرغبة في التأثير في الرأي العام والتغيير الاجتماعي. وربما كان الطابع المميز للفكر العربي المعاصر هو هيمنة السياسي والترابط والتداخل بين المشروع الثقافي والمشروع السياسي، فكان عدد كبير من رموز الثقافة والفكر والفن والأدب أعضاءً عاملين في مختلف الأحزاب والتنظيمات السياسية. بل كان بعضهم أمناء عامين لبعض الأحزاب وأعضاء لجان مركزية وهيئات قيادية مختلفة. وربما كان لانتماء هؤلاء إلى خط سياسي وتنظيمي وحزبي معين دور كبير في رواج عدد من الأسماء الثقافية وتصديرها إلى شريحة واسعة خارج دائرة الثقافة النخبوية.

هكذا اختزلت قضية الالتزام في السياسي المباشر، حيث سيطرت حالة من السياسوية(النزعة السياسية) التي لا ترى في أي نشاط أو إنتاج بشري بما فيه الفكري والثقافي إلا بعدا وحيدا هو السياسي نظريا وعمليا. فارتهن الثقافي بالسياسي. لا يتحرك الأول إلا من خلال الثاني وبتوجيه منه، مما أفضى إلى أزمة مزدوجة معرفية وسياسية. عبرت هذه الأزمة عن نفسها سياسيا، بحالة الرومانسية السياسية التي أدت إلى العجز عن ممارسة السياسة كفن للممكن، وبتلك الدوغمائية التي أوقعت التنظير السياسي في الأيديولوجيا من حيث هي وعي زائف حين عجزت عن التأثير الفعلي في واقع الأشياء. أما معرفيا، فقد عبرت هذه الأزمة عن نفسها من خلال فكر لم يعد قادراً على إدراك العام في الخاص، وعجز عن امتلاك البعد الفلسفي اللازم لتكوين المفاهيم النظرية الضرورية للقبض على الواقع نظرياً.

ولعل في موقف المثقفين العرب والفلسطينيين خصوصاً من اتفاق "أوسلو" دلالة كاشفة على مدى الأزمة التي يعاني منها الوعي السياسوي. فقد أدى اتفاق أوسلو إلى انقسام المثقفين الفلسطينيين إلى معسكرين عنوانهما: مع أو ضد، انطلاقا من مواقف سياسية وأيديولوجية مسبقة تصاعدت بسببها أصوات الاتهام والتخوين المتبادل، وأدت حالة الانقسام السياسي إلى حالة مقلقة من الانقسام الثقافي المفروض من خارج النسق الثقافي لا من خلال منطقه الداخلي الذي يكون فيه التباين والتنوع دليل غنى هذا الثقافي وأحد عوامل تطوره. وكانت قليلة تلك الدراسات التي تناولت أوسلو بالتحليل الموضوعي كلحظة تاريخية وكنقطة تحول جيوبوليتيكية أدت إليها أسباب معينة وأفرزت نتائج معينة، هكذا بقي الوعي السياسوي محكوما بتلك النظرة المعيارية للأشياء بعيداً كل البعد عن النظرة العلمية الوضعية.

إن المثقف السياسي أو السياسي المثقف ينوس بين وظيفة السياسي الذي يتعامل مباشرة مع والواقع والممكن والنسبي لينتقي ما يتفق مع المصلحة الآنية، وبين وظيفة المثقف من حيث أن الثقافة هي مشروع اجتماعي يبحث عن المتحول خلف الثابت وعن الثابت في المتحول ويدافع عن المصلحة العامة ويمارس الثقافة كرسالة مستقبلية تبحث عن الحقيقة من حيث هي مطلق. لذلك عجز المثقف السياسي أو السياسي المثقف عن أن يوفق بين متناقضين، نسبية ومحدودية الواقع من جهة وصيرورة حركة الوعي من جهة أخرى، مما أفرز في كثير من الأحيان أشباه مثقفين وأشباه سياسيين أسهموا في فشل ذريع سياسيا وثقافيا [3].

ومنذ تسعينيات القرن العشرين أخذت تظهر تحولات سياسية، فرضت واقعاً سياسياً جديداً وأدت إلى تصدع في الشعارات السياسية الكبرى، ترافق مع فشل الأحزاب والحركات السياسية لعربية عن تحقيق الحد الأدنى من هذه الشعارات، وبالتالي الإعلان الفعلي عن حالة الإفلاس السياسي والتنظيمي والاجتماعي لكثير من الأحزاب والحركات السياسية العربية، مما أدى إلى بروز الانشقاقات الحزبية وتشتت الكوادر الحزبية والقواعد الجماهيرية لهذه الأحزاب. مما أصاب المثقف السياسي أو السياسي المثقف بمزيد من انعدام التوازن النفسي و الإرباك الفكري.

لكن فترة التسعينيات هذه شهدت أيضا انفتاحا إعلاميا مهما مع تزايد الفضائيات العربية كماً ونوعاً، فوجد المثقف السياسي أو السياسي المثقف فيها سوقا لترويج بضاعته السياثقافية الراكدة، ولإعادة التواصل مع جمهور القراء الذين تحولوا بدورهم إلى جمهور من المشاهدين، بينما قدم مثقفينا أنفسهم تحت مسميات جديدة. هنا محلل سياسي، وهناك خبير في شؤون الإرهاب، وثالث خبير في الشأن الإيراني، ورابع خبير في الشأن الصومالي وهكذا ... وأمام شاشات التلفزة تضيق الحدود بين الثقافة النخبوية والثقافة الشعبية، وربما ذابت كلياً في جمهور المشاهدين، و أمام شاشات التلفزة تسيطر نزعة تبسيطية خطيرة تفرغ المصطلحات والمفاهيم من محتواها بحجة مراعاة المستوى الثقافي لهؤلاء المشاهدين، بل يتورط بعض المثقفين في مصطلحات اللغة الدارجة اليومية. ومع انتشار هذا الأنموذج السياثقافي وتصديره عبر نطاق واسع إعلامياً يسيطر الفكر اللانقدي، الذي و بحجة التخصص يقوم من حيث لا يدري بتشظية الواقع إلى أحداث متناثرة فتصبح موضوعات العالم ذرات من التفاصيل لا ناظم لها، ولا يحفل هذا الفكر بالبحث عن المفاهيم ولا بالتحديد الدقيق لها ضمن نظام معرفي متماسك، إنه فكر يستهلك الفِكَر الرائجة وينتقي منها ليوظفها أيديولوجيا من أجل السيطرة على الوعي اليومي فيشل قدرته على النقد، فيؤسس لفكر يومي سياسوي متلقي وغير منتج يتلون بحسب الشائع من الفِكَر، ويجد العصرنة والحداثة في كل موجة فكرية صاعدة.

إن الوعي السياسوي، بإخضاعه الثقافة والفكر عموما لتلك النزعة الانتقائية، أشبه بصاحبنا (بروقرسطس). وكان بروقرسطس هذا، كما تقول الحكاية، صاحب نزل ذي أسرة من قياس واحد فكان يجذ ساقي الطويل ويمط ساقي القصير حتى يتناسب مقاس النزلاء مع مقاس الأسرّة.

إن قضية الالتزام بحاجة لعملية مراجعة فكرية شاملة، فقضية الالتزام لا يمكن لها أن تختزل في السياسي المباشر. ولاشك أن الأدب أو الفن أو غيره مما يمكن إدراجه تحت مسميات الفكْر والثقافة هو منحاز، طالما أنه نتاج لواقع اجتماعي اقتصادي تتصارع فيه قوى التقدم مع القوى المحافظة والرجعية، وطالما بقي الصراع الطبقي بين القوى المستغِلة والقوى المستغَلة، وهنا سنكون أمام السياسي بلا شك، لكن هناك فرق بين الوعي السياسوي الذي يخضع الثقافي والفكري والمعرفي عموما للسياسي وبين الوعي الذي يقبض على العلاقة الجدلية بينهما وعلى الاستقلالي النسبي لكل منهما تجاه الآخر. إن الفرق بين الحالين هو الفرق بين الفكر اللانقدي والفكر النقدي الجدلي. الأول هو في نهاية المطاف شكل من أشكال الأيديولوجيا بوصفها وعيا زائفا. أما الثاني فهو معرفة. وإذا كانت كل معرفة لا تخلوا من الايدولوجيا فإنه وفي الثاني فقط تظهر وحدة المعرفي بالأيديولوجي.

يحضرنا هنا السؤال التالي: لماذا رفض سارتر الانضمام إلى الحزب الشيوعي الفرنسي بالرغم من أن القضية الأساسية التي التزم بها سارتر هي قضية انتصار البروليتاريا؟ يتساءل سارتر: هل بإمكان الكاتب أن ينضم إلى الحزب الشيوعي وأن يبقى كاتبا؟ الإجابة عند سارتر هي: لا.

نحن لا ندين فكريا بقدر ما نحاول تحليل الواقع، عساها تكون مساهمة منا في تسليط الضوء من جديد على قضية الالتزام عبر إخضاعها للنقد البناء. وعلى أولئك الذين يتشبثون بقضية الالتزام ويختزلونها في السياسي مفعمين بذلك النفس التعبوي البالي أن يعلموا أن الثقافة بوصفها نتاجا بشريا في مجتمع معين هي منحازة وملتزمة على نحو ما، لكن المهم هو أن يتحدد هذا الالتزام لا من خلال السياسي بل من خلال أفق فكري جدلي مفتوح لا يقف عائقا أمام التطور والتطوير. فالمهمة الآن هي البحث عن المعرفي والثقافي في علاقاته الجدلية مع الواقع، لا توظيفه باسم الالتزام سياسيا أو جعله رهنا بالسياسي، ولا بخضوعه للانتقائية والمصالح الآنية. هذه المهمة هي الكفيلة بفتح الآفاق المسدودة أمام العمل وإيجاد الأساليب المناسبة والفاعلة للممارسة الاجتماعية والسياسية بدل البقاء عند حدود اللغة التعبوية والمواقف الشعاراتية الأيديولوجية الجامدة.


[1رسالة في التسامح(1763): أحد مؤلفات فولتير كتبها لمساندة قضية كالاس (Calas) وقد خاض فولتير معركة قضائية قانونية للدفاع عن هذا البروتستانتي الساكن بين أكثرية كاثوليكية في مدينة تولوز الفرنسية، والذي أدين وصدر بحقه حكم جائر بالإعدام. فكتب فولتير إلى كل من له اتصال بهم في أوروبا من ملوك وأمراء ووجهاء وعلماء، كتب إليهم يستصرخ ضمائرهم. وفي التاسع من شهر آذار عام 1765 ، أي بعد ثلاث سنوات من صدور حكم الإعدام ، صدر الحكم من مجلس الملك برد الاعتبار إلى جان كالاس وتبرئته ومن معه.

[2صدر هذا البيان بعد رسالة وجهها زولا إلى الرئيس الفرنسي بدأها بعبارته الشهيرة: ((إني أتهم)) على خلفية قضية دريفوس(Dreyfus) والتي سجن زولا بسببها. فوقع زولا وعدد من الكتاب الفرنسيين أمثال أناتول فرانس ومارسيل بروست وآخرون على هذا البيان. ولعله أول بيان يظهر فيه مصطلح "المثقفين".
ولعل هذا ما يشكل نوعا من السند التاريخي للظاهرة الجديدة في إصدار البيانات التي انتشرت في الوطن العربي في السنوات الأخيرة والتي ينضم إلى توقيعها أعداد غفيرة من المثقفين العرب.

[3ربما تفسر السياسوية المهيمنة على الفكر العربي المعاصر، جنبا إلى جنب مع عوامل أخرى، عدم قدرة عدد كبير من الأعمال الإبداعية على اختلاف أجناسها أن تستمر متجاوزة اطر الزمان والمكان لتثبت حضورها الحي والفاعل في الوعي. فعجزت عن أن تكون مشروعا ثقافيا بل كانت لذلك لحظة سياسية كفت عن الحضور بانتهاء الحدث السياسي. وربما تفسر هذه النزعة أيضا الهجوم الغير مسبوق، باسم النقد، على الشاعر محمود درويش حين أراد التخلص من لقب شاعر القضية الذي التصق به عبر سنوات طويلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى