الاثنين ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٨
فى قطار باريس4
بقلم محمد متبولي

بيير

منذ أن جاوزت الستين وهى تستيقظ مبكرا كل يوم، لتمضى يومها من التاسعة صباحا حتى الخامسة مساءا متنقلة بين محطات القطار، محدثة الركاب خاصة من الأجانب وهم الأهم بالنسبة لها، أو ممن تشعر من هيئتهم أنهم يقطنون خارج باريس وهم من لهم أولوية ثانية فى الحديث، لم تكن تعرف أى لغة غير الفرنسية، ومع ذلك كانت تهتم كثيرا بمعرفة أحوال الأجانب الذين يركبون القطار، منهم من كان يتحدث الفرنسية بشكل جيد فكان الحديث معه سهلا، ومنهم من يتحدثها بشكل جزئى فكانت تتحدث معه نصف الحديث بالفرنسية والنصف الآخر بلغة الإشارة والجسد، لكن متعتها الكبرى كانت عندما تتحدث مع أولئك الذين لا يتحدثون الفرنسية على الإطلاق، فحينها كانت تثبت لنفسها نظرية قديمة آمنت بها منذ الصغر، وهى أن البشر يمكنهم فهم بعضهم البعض حتى ولو لم ينطقوا بنفس اللسان، فروابط الإنسانية أكبر من أى لغة على الإطلاق.

كانت تداعب الصغار وتحاكى الكبار، لتعرف من أين أتوا، وما هى أحوال بلادهم، ولماذا أتوا، وهل سيعودون إلى تلك البلاد أم سيبقون، وهل تأقلموا سريعا على الحياة فى مدينة كبرى كباريس أم لا، كان كل ذلك يتم بطلاقة وألفة غريبه، تذهل من يقف يتابع المشهد من بعيد من ركاب القطار، فينظر ليجد سيدة فرنسية عجوز تتحدث بالفرنسية مع سيدة آسيوية ترد بالصينية وكلاهما يفهمان بعضهما البعض ويتبادلان الحديث كأنهما صديقتين حميمتين، فيصبح المتابع حائرا بين أن ينفجر من الضحك من هذا المشهد الساخر، وبين أن يحاول أن يفهم كيف تستطيع كلتاهما فهم الأخرى متخطيتين بسهولة حواجز الثقافة واللغة، ثم تأتى محطة ذاك الراكب فينزل من القطار وتنتهى علاقته بالقصة، أو تأتى محطة تلك السيدة الصينية وتنزل وتنتهى علاقتها بالسيدة الفرنسية العجوز، لتبقى السيدة وتبقى معها علاقتها بالقطار وركابه.

كانت تنهى حديثها دائما مع الركاب بسؤالهم عن أطفالهم إن لم يكن معهم أطفال، أو هل لأطفالهم أخوة آخرون إن كان الأطفال معهم، ثم تخرج من على هاتفها الجوال صورة نجلها بيير لتريها لهم، كانت صورة لشاب وسيم فى العشرينات، ثم تنتقل لأسرة أخرى تحدثها، وإن لم تجد تنزل المحطة التالية لتغير العربة أو القطار حسب ما تلمح فيه من أجانب أو أناس يبدون من خارج باريس، فمنذ أن بدأ يتقدم السن بها وهجرها نجلها الوحيد بيير وهى تبحث عنه فى كل مكان، لم يكن ممكنا بالنسبة لها أن تسافر إلى كل مدينة فرنسية، أو بلد فى العالم، لذا فكانت تمضية يومها فى قطار يرتاده البشر من كل حدب وصوب فى العالم هو الأختيار الأمثل، فلعلها تجد بيير صدفة، أو تجد طفل يشبهه فتعرف أنه قد أنجب وصار لها أحفاد، أو ترى صورته لأحد من الركاب فيتعرف عليه، فتعرف أنه يقطن خارج باريس، أو فى بلاد بعيدة جدا، فتذهب إليه تسترضيه وتطلب منه فقط أن يسأل عليها بين الحين والآخر قبل أن ترحل عن الدنيا، لكنها لم تنجح أبدا فى إيجاد بيير، ولم تنجح أبدا كذلك فى التخلى عن عادة تمضية يومها فى القطار، فالقطار وبيير صارا شيئا واحدا بالنسبة لها.
تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى