الأربعاء ٨ أيار (مايو) ٢٠١٩
بقلم سعيد مقدم أبو شروق

في الخامس الابتدائي

لم أكن أعرف اللغة الفارسية، ولم أتكلم بها من قبل، فوالديّ لم يعلماني إياها، ذلك لأنهما لا يعرفان التكلم بها أصلا. ولما دخلت المدرسة كنت أحفظ الدروس كحفظ الببغاء.
وكنت شاطرا في الحفظ والحمد لله.

وفي الخامس الابتدائي كنت الأشطر في الصف، وكان مدرسنا السيد (نيكبخت) فارسي لا يعرف جملة من العربية،

بل يسخر من العرب والعربية دائما.

وكان يمتحننا كل يوم، يسأل كلا منا أربعة أسئلة طبق برنامجنا الدراسي، إن أجبنا على ثلاثة، نجحنا؛ وإلا يطرد الطالب من الصف، فيرجع بعد حين وعيناه مغرورقتان بالدموع.

وذات يوم جاءنا ضيف من القرية يريد شراء صهريج لنقل المياه إلى غنمه من نهر الجراحي؛ فطلب من أبي أن أرافقه لشراء الصهريج لعلي أقرأ له بعض الأرقام التي تختص بحجم الاستيعاب أو نوعية الحديد لأنه لا يجيد الفارسية.

قلت: وأنا لا أجيدها أيضا!

لكن أبي أمرني بالذهاب معه.

ذهبت معه على مضض، وجدنا البائع عربيا ولا حاجة للرطين، وقد استغرق البحث وشراء الصهريج نصف يوم كامل.

وعندما رجعت إلى البيت كان الليل قد جن؛ وكنت تعبا، فنمت، ولم أحفظ الدرس.

عندما استيقظت صباحا كنت مترددا هل أذهب إلى المدرسة أم لا؟

ولكني أقنعت نفسي أن المدرس سيسامحني إن شرحت له ما شغلني أمس.

ولما جاء دوري وأخفقت في الأجوبة سألني مستغربا:

ماذا دهاك اليوم؟!

حاولت أن أشرح له الأسباب التي شغلتني عن الحفظ، ولكنني أخفقت في الشرح أيضا، فاكتفيت بجملة واحدة هي:

(آقا اولين بار است).

أي: هذه المرة الأولى.

وانتظرت أن يفسرها بأني كنت مشغولا، وسوف لا أكررها؛ وكنت أظن أن شطارتي وحسن سيرتي ستشفع لي عنده.

لكنه خيب ظني، فأمرني مبتسما:

(مقدم، كتابهايت را جمع كن وبرو بيرون).

أي: اجمع كتبك واخرج من الصف.

وخرجت وليتني لم أخرج!

رآني المدير، فصاح يناديني بنبرة مهينة أن أحضر إلى حجرته، ولم تكن حجرة مدير، بل قل حجرة تعذيب استخباراتية! لم أدخل مكانا أكثر رعبا من هذه الحجرة قبل هذا!

ضربني بخرطوم ودون أية رحمة، حتى تدفق الدم كله في راحتيّ فصبغهما باللون الأحمر.
والعجيب أنه لم يسألني عن سبب إخراجي من الصف!

كان هذا ديدنه، يضرب كل من طـُرد من الصف دون أن يسأل سبب طرده!

كان خرطومه الذي يضرب به خرطوم ماء، أدخل فيه جريدة نخل، فأصبح أكثر ألما من السوط.
رجعت إلى الصف وكأني بلا كفين!

حاولت أن أحرك أصابعي، لكن ضربات الخرطوم المتوالية كانت قد يبستها،

حاولت أن أمسك القلم لأكتب...ولكن بلا جدوى.

ظلت يداي تؤلمانني أكثر من يومين، وكلما نظرت إليهما هرعت نحو كتبي أعكف عليها أحفظ وأحفظ وأحفظ...

لا أنسى (مدرسة العلامة) وما كان فيها من تعذيب ورعب.

والسيد نيكبخت، إن كان حيا فليرزقه الله الصحة والعافية، وإن كان ميتا فليرحمه الله، هذا لأنه كان معلمي.

اليوم 21 شباط وصلتني رسائل كثيرة تبارك لي اليوم العالمي للغة الأم، وفزّ هذا الشريط ليبث في ذاكرتي تلك الأيام الرهيبة.

لو كنت أدرس بلغتي العربية، لما تعرضت يداي الصغيرتان للضرب المبرح،

ولما خفت واضطربت كلما يممت نحو المدرسة لأني لم أكن أجيد الفارسية؛

فقد كانت الابتدائية دورة شاقة روحيا وفكريا وجسديا، وإن شئت فقل مرهبة بمعنى كلمة الإرهاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى