الثلاثاء ١٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
مرثية عوني
بقلم صبري هاشم

حين تكون الريح صبا

خُذي من هذا المساءِ غصنَ آسٍ
وحمرةً مِن زهرِ الرمّان
خُذي قليلاً من رذاذِ جدولٍ نسيتهُ الجهاتُ
خُذي قمراً
وانبتي فوقَ رابيةٍ ، زهرةً غريبةً
خُذي حجراً وبه اطرقي على جسدِ المنفى
لعل المنافي طافها صدى
خُذي نهرين وفي كأسِ اللوعةِ صُبِّي عذوبةً
ثم اشربي .. واشربي
واسكري وترنحي
فنحن لا نعرف الماء حتى بالخمرةِ نبتلّ
خُذي من سكونِ الليلِ تنهيدةَ عاشقٍ
ودعيْنا
نمهرْ بألسنةِ الدعاءِ أديمِ السماءِ
دعيْنا
نتابعْ قمراً حزيناً
ظلَّ في وحدتِهِ لائذاً
راح ينأى
يغمضُ ذاكرةً
أو ربما أطفأتهُ الدهشةُ
هل فقدنا الرؤيةَ
ونحن نهتدي بنجمٍ لعوبٍ ؟
هل خدعتنا الرؤيةُ ؟
أو نبدو مثلَ بدوٍ عليهم ضاقَ أفقُ
هل أبصرنا شيئاً ؟
ونحن منكشفون .. متضرعون .. مستغرقون في الدعاءِ :
أيتها السماءُ
أيتها الرفعةُ
أحفظي هديلَ الظلالِ
إنما في لحظةٍ مجنونةٍ انطفأتِ الرؤيةُ
والسماءُ لا تردُّ الدعاءَ
والرؤيا بهيامِها ترشقُنا
والعينُ بماءِ النبعِ الحارقِ استغزرت
ونحن نفتحُ على مصراعيها بابَ الذهولِ
ندخلُ زمنَ الأحزانِ
ندخلُ زمنَ البكاءِ
ومعنا شجرٌ يدخلُ
ندخلُ ومعنا حجرٌ يدخلُ
لأجلِنا طيرٌ ينتحبُ
ومن فوقِنا مطرٌ ينهمرُ
ونحن ضيعتنا موسيقى المساءِ
***
ونحن منذُ الأمسِ
صرنا على مقربةٍ من نورٍ ربانيٍّ
فعصفت بنا ريحٌ
اقتلعت ما بنا مِن نشوةِ اللحنِ
أمسِ
احتطبنا على ضفّةِ نهرٍ يجري في أُبهة الكلامِ
فهزّنا صوتٌ
غيّر بنا لغةً
وتوقّف النهرُ
أمسِ
ونحن نحتفي بكريمِ نفسٍ
ونصعدُ السلّمَ الخشبيَّ جمعاً
عنّفتنا العَتمةُ
واختطفت مِنّا سيّدَ الحفلِ
أمسِ
لم نرَ وهجاً في زاويةِ الريحِ
أمسِ .. أمسِ .. أمسِ
لا ندري
يا هذا الأمسِ
هل تيقنتَ من قائمةِ الأسماء ؟
مِن ذاكرةِ اللوحةِ ؟
يا هذا الأمسِ لنا ما تركتَ صاحباً
***
في قدّاسٍ صباحيٍّ
هبّت علينا صَبا حملتْ عِطراً
لا ندري أهو من وردِ الجنةِ
أم من قبرِ حبيب ؟
في قدّاسٍ صباحيٍّ
وكنّا مِن شدّةِ حزنٍ لا نعبأُ بالنسيمِ
انطلقَ يرشُّنا بالعطرِ النسيمُ
في قدّاسٍ صباحيٍّ
كنّا تحت سقفِ بيتٍ من بيوتِ اللّه
رأينا حفلاً لم نرَ مثلَه في أيِّ مكان
تساءلنا
قيل لنا
احتفى بالقادمِ بعد القدّاسِ
أهلُ الجنةِ
***
لم تأتِ القطاراتُ بعد
لم تفتحْ أبوابَها المحطّاتُ
فمسافرُ ليلٍ
لم يصلْ خطَّ النهايةِ
والجمعُ الذي كان
لاذَ مِن مطرٍ بالسقوفِ الكاذبةِ
لم تأتِ الندلُ بأكؤسِ المساء
فالسادةُ أدمنوا رائحةَ الوسائد
واستغرقوا في نومٍ عميقٍ
إذن مَن يقرأُ لسيدةِ الأرقِ فنجانَها الحالمَ ؟
مَن يقدمُ قهوةَ الصباحِ ؟
مَن يُخبرُها عن وصولِ القطاراتِ إلى حافةِ الغيمِ إنْ وصلت ؟
مَنْ يستقبلُ مسافراً في ليل ؟
أو يودعُ مسافراً في ليل ؟
أيها المسافرُ تمهلْ لحظةً ما بعد ليل
***
الآن
ومِن حطبِ الأيامِ لم تخرجْ نائحةٌ
غيبتها دهشةٌ
وبمحجريها دمعٌ تحجّرَ
لم تأتِ زائراتُ المساءِ
قيلَ أغلقت أبوابَها حانةٌٌ
كسّرت الكؤوسَ
وألقت ، في نهرٍ لا يجري بأرضٍ ، مفاتيحَ أسرارِها
إنما الساهرون على أباريقِ اللذةِ
والسقاةُ
ارتدوا زيّاً جنائزياً :
ياقاتٌ بيض
فراشاتٌ سود
وحملوا باقاتٍ من وردِ الشامِ
الآن
لم تأتِ زائراتُ المساءِ
ربما انشغلْنَ بثراءِ حزنِ الليلك
وعويلِ الجوري
ربما نصبَ القرنفلُ مأتماً
على ضفّةٍ من دجلة
الآن
وفي مقبرةِ العظماءِ
حيثُ يتنهدُ الطُحلبُ من بين الأسماءِ
اختطَّ البكاءُ له
بين الرخامِ طريقاً
في المقبرةِ الفرنسيةِ المقابلةِ لأُبهةِ بيتٍ سكنتهُ الغرباءُ
اختارَ مِن بين أشبارِ الأرضِ
شبراً للصلاةِ
ومثلَهُ للوقوفِ بِلا جدوى
في المقبرة التي تحتضنُ العظماءَ
وتحتفظُ بقنينةِ رمادٍ هي كلُّ ما تبقّى من جسدِ برتولد بريشت
توقّفَ الأصدقاءُ تحت مطرٍ أسود
وأمامَ حفرةٍ صغيرةٍ
ساعةً صمتوا
تحت شجرٍ باكٍ انتحبوا
في المقبرةِ التي يرقدُ فيها هاينر مُلر بسلام
كان المُشيعون ، أمامَ الموشحاتِ بالسوادِ ، حزناً يقطرون
***
في الأواخرِ من أيّار
فاضت أحلامُ الجوري
وازدهرت بساتينُ الجنّةِ
ففتحتْ للأحلامِ الابوابَ
في الأواخرِ من أيّار
رجلٌ مِنّا أثقَلَ قلبَهُ حُبُّ المسرحِ
وحُبُّ الناسِ
فقالَ قائلٌ منّا :
رأينا القلبَ وقد أوقفهُ الثقلُ
في الأواخرِ من أيّار
صدمَنا النبأُ
وبالأخبارِ صُعِقْنا
***
أمسِ
رأيتُ نجماً يحطُّ على كَتِفِ شجرةٍ
فتشرقُ بوجودهِ وجنةُ النافذةِ
وزهرةٌ تتغنّى بين يديه
أمسِ
كانت الفراشةُ فرحاً تمتصُّ من ضحكتهِ ورحيقاً
بينما السماءُ بغوايةٍ تستدرجُ زرقةً
أمسِ
في قاعةٍ هي هذه بعينِها
نسيَ ذاكرةً
وغصناً مزهراً
فيما نحن يزدحمُ بنا المكانُ
امتشقَ سيجارةً
وركبَ سحابةَ موتٍ

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى