الأربعاء ١٥ أيار (مايو) ٢٠١٩
(القسم الرابع)
بقلم حسين سرمك حسن

حول أكاذيب وتلفيقات هيرودوتس "أبو التاريخ" عن بابل

• هذا اللوح الطيني العراقي البابلي العجيب (2/2)

• الاضطرابات النفسية Psychiatric disorders

إن معرفتنا للنصوص البابلية وفهمها وعلاجها للاضطرابات النفسية مشتقة من ألواح ونصوص مختلفة لا علاقة لها بالسلسلة "التشخيصية" و "العلاجية" الطبية، لكن مرة أخرى ربما يرجع تاريخها إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. اثنان من النصوص المسمارية الرئيسية المعروفة باسم Maqlû و Shurpu، على التوالي توفر المصادر الرئيسية ولكن ليس الحصرية للطب النفسي البابلي. وهي تتوافق على نطاق واسع وعلى التوالي مع المفاهيم الحديثة للذهان والعصاب ويمكن أن تمثل أول وعي وتوثيق لما نسميه الأمراض العقلية في تاريخ البشرية.

• الذهان، بما في ذلك الذهان المرتبط بالصرع Psychoses, including psychoses of epilepsy
Maqlû هو عنوان مختصر يعني حرفياً The Burning يهتم إلى حد كبير بالبارانويا والأوهام الناجمة من الشعور بالاضطهاد، والإجراء ضد هذا هو أن الطبيب الكهنوتي، أو الأسيبو، يحرق أو يذيب صورا من الخشب أو الشمع أمام المريض في محاولة لإطلاق سراح المضطهدين من عقله بسحرٍ تعاطفي sympathetic magic، وهو المصطلح الفني الحديث. كان المضطهِدون من أنواع كثيرة وشملوا الأرواح الغامضة أو "الأذرع الشريرة"، لكن الأبرز كان "الساحر"، كاشابتو، وهو شخصية تظهر أيضا في أفكار التأثير والسلبية. وكما يُتصور طبّياً، فإن التعاويذ السحرية التي ألقتها الساحرة على المريض كانت على الأرجح السوابق التاريخية لتلك الموجات الراديوية وما إلى ذلك من التكنولوجيا الحديثة التي تؤثر على مرضى الذهان في وقتنا الحاضر اليوم.

لقد درسنا أيضًا تقريرًا شاملاً بشكل ملحوظ عن حالات ذهان الصرع من النصوص الخاصة بالمتحف البريطاني ومتحف برلين الوطني. هنا يلاحظ البابليون بوضوح ويصفون ما يُعرف اليوم بالذهان الانفصالي أو ذهان الصرع الشبيه بالشيزوفرينيا schizophrenia-like psychosis of epilepsy.. يمكن ترجمة النصين على الشكل التالي:

"إذا كان هناك شخص يعاني من نوبات seizures، أو هجمات غياب absence attacks، أو نوبات صرع ليلية أو نوبات آليّة، وإذا بدأت روح شريرة في إصابته بأفكار الاضطهاد بحيث أنّه يقول - على الرغم من عدم موافقة أحد معه على أن الأمر كذلك - أن إصبع الإدانة يتم توجيهه إليه خلف ظهره وأن الإله أو الإلهة غاضبون منه ؛ إذا رأى "رؤى" فظيعة أو مزعجة أو غير أخلاقية، ويكون بالتالي في حالة من الخوف المستمر، إذا انخرط في نوبات الغضب الدورية ضد الإله أو الإلهة، إذا كان مهووساً بأوهام عقله، ويطوّر دِينه الخاص، ويقول - على الرغم من (مرة أخرى) أن لا أحد يتفق معه - أن عائلته معادية له وأن الإله والملك، ورؤساءه وشيوخ المدينة يعاملونه ظلما... وليس لديه رغبة في العلاقات النسائية.

• الوسواس القهري والرهابات Obsessive compulsive disorder and phobias
في Shurpu، وثق البابليون بعناية، ولكن متحيرون أكثر من الحالات السابقة، الوسواس القهري والرهاب. هكذا على سبيل المثال: Shurpu الثاني، وفي السطور 83-103:

"إذا كانت المعضلة الغامضة تكمن في أنه لا يعرف لماذا هو مضطر إلى أخذ أشياء، لإخفاء أشياء... للإشارة بإصبع من الإدانة إلى الإله الحامي... للخطو على الدم أو المشي حول على المكان الذي يسفك فيه الدم... أو لماذا لديه رهاب من مقابلة شخص بغيض أو أن شخصاً بغيضاً يلتقي به، أو يخاف من النوم في سرير، أو الجلوس على كرسي، أو الأكل من مائدة، أو الشرب من كوب شخص بغيض... ’.

ومرة أخرى: يصف Shurpu الثاني، فس السطور 105-125:

"سواء كان المعضلة الغامضة تكمن في أنه لا يعرف لماذا لديه الخوف المرضي من الأسرة، والكراسي، والطاولات، والمواقد المضاءة، الخ... أو الخوف من مغادرة أو دخول مدينة، بوابة مدينة أو منزل، شارع، معبد أو طريق.

• السلوك السايكوباثي Psychopathic behaviour

وقد تحيّر البابليين بشكل متساوٍ بسبب السلوك السايكوباثي (العدواني، المعادي للمجتمع)، كما هو موصوف في Shurpu. وهكذا، على سبيل المثال: يصف Shurpu II، في السطور 37–61:

"سواء كانت تلك المعضلة الغامضة تكمن في أنه لا يعرف أنه خطأ... عندما يعطي مع تدبير صغير... يستخدم منطقاً كاذباً... يأخذ مالاً ليس له قانونياً... يضع حجر حدود كاذبة - يدخل بيت صديق، يمارس الجنس مع زوجة صديقه، ويسفك دمه، ويسرق ثيابه... عندما يقول فمه "نعم"، لكن قلبه يقول "لا"، وكل ما يقوله غير صحيح على الإطلاق ؛ عندما يهتز ويرتجف (من الغضب)، يدمّر (الأشياء)، يرميها (من المنزل) أو يجعلها تختفي ؛ عندما يتهم، أو يُجرّم، أو ينشر عن طريق القيل والقال، أو الأخطاء، أو السرقة، أو يدعو الآخرين إلى السرقة... ".

على الرغم من أن البابليين يبدون بعقل متفتح وصحي حول أسباب اضطراب الوسواس القهري، والرهاب، والسلوك السايكوباثي، وأنهم لم يلوموا الآلهة أو الشياطين أو القوى المادية، فقد وحّدوا جميع فئات التشخيص الثلاث حول مفهوم لفكرة الماميتو māmītu. كلمة māmītu تعني "اليَمين أو القَسَم" حيث بدا لهم أن العادات السلوكية غير قابلة للكسر وكأن الفعل المرصود راسخ كما لو أن الشخص قد أدى اليمين للقيام أو عدم القيام به.

• الاكتئاب والقلق Depression and anxiety

لا ينتمي النص المعروف باسم BAM 234، المنشورة نسخة عنه من قبل الباحث الألماني كوشر عام 1967 منتمياً إلى المجموعة الرئيسية للنصوص الطبية أو النفسية. ومن غير المؤكد ما إذا كان يصف حالة واحدة تنطوي على "رب أسرة" أو، في التقليد الطبي البابلي المعتاد، الصورة السريرية الكاملة المستمدة من ملاحظة العديد من الموضوعات. الترجمة تقرأ من السطر 1:

"إذا واجه رجل (أو رب أسرة) نوبة طويلة من سوء الحظ - وهو لا يعرف كيف أتت عليه - حتى أنه عانى باستمرار من خسائر وحرمان (بما في ذلك) خسائر في الشعير والفضة وخسائر العبيد والفتيات العبدات، وكانت هناك حالات من موت الثيران والخيول والأغنام والكلاب والخنازير، وحتى الآخرين في منزله ؛ إذا كان يعاني من أنهيارات عصبية متكررة، ومن إعطاء الأوامر باستمرار دون أن يلتزم بها أحد، والمناداة دون أن يرد عليه أحد، ومن السعي لتحقيق رغباته وفي في نفس الوقت عليه رعاية منزله، يرتجف من الخوف في غرفة نومه وأصبحت أطرافه ضعيفة إلى درجة شديدة ؛ إذا كان مليئا بالغضب ضد الإله والملك ؛ وإذا كان مرعوباً في بعض الأحيان لدرجة أنه لا يستطيع النوم ليلاً أو نهاراً ويرى باستمرار أحلاماً مزعجة ؛ إذا كان ضعيفًا من عدم تناول ما يكفي من الطعام والشراب ؛ وإذا كان (في الكلام) ينسى الكلمة التي يحاول قولها ؛ فإن غضب إلهه وإلاهته عليه.

لقد نُظر إلى الحالة على أنها خطيرة، ناتجة عن غضب إلهه الشخصي وإلاهته الشخصية. هذا يتطلب الخدمات الروحية للأسيبو ašipu وطقوس نداء إلى إله مشترك أعلى، وهو في هذه الحالة الإله شاماش Shamash، إله العدالة.

لم يكن البابليون لديهم كلمة واحدة عن الاضطراب الذي وصفوه بموضوعية. لم يكن مفهوم "الاكتئاب" إما كعرض أو ككيان سريري معروفًا لهم. ربما كان الاسم البابلي ašuštu، أي "الضائقة"، قد اشتمل على "الاكتئاب" ولكن كان له معنى أوسع. وبعد ألف عام، كان اليونانيون هم الذين أدخلوا مصطلح "السوداوية melancholia"، ولم يتم التخلي عنه إلا مؤخرًا لصالح "الاكتئاب depression " في التصنيفات الدولية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي.

(ملاحظة من الدكتور حسين سرمك حسن:

لكن إذا رجعنا إلى قاموس كوبلاند الإنكلزي الأكدي الذي وضعه "ميل كوبلاند" وأصدره المعهد الشرقي في شيكاغو بالولايات المتحدة سنجد أن الكلمة ašuštu تعني dejection و despair و depression، أي أنها تعني "الكآبة" ايضاً).

(غلاف عدد مجلة دماغ Brain البريطانية التي تُشر فيها هذا البحث المهم)

• مناقشة Discussion

لقد سعينا لبناء نظرة عامة على الأوصاف والمفاهيم والعلاجات البابلية لما نطلق عليه، في المصطلحات الحديثة، الاضطرابات العصبية والنفسية. على خلفية موجزة عن التاريخ والثقافة البابلية، قمنا بتوضيح هذه المراجعة مع أمثلة من ترجماتنا الأصلية للكتابات البابلية عن الصرع، السكتة الدماغية، الذهان، اضطراب الوسواس القهري، الرهاب، السلوك السيكوباتي، الاكتئاب والقلق، التي يرجع تاريخها بشكل رئيسي إلى النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد.

كما أشرنا، لم يكن لدى البابليين أي تصنيفات منهجية خاصة بهم، ولن يفهموا فئات التشخيص الحديثة لدينا. كان إنجازهم العظيم، في غضون حوالي ألف وخمسمائة عام من ظهور الكتابة، هو مراقبة وتوثيق تفاصيل مذهلة عن الظواهر الموضوعية لمرض الإنسان وسلوكه، مما لا يدع شكاً في أنهم كانوا يصفون العديد من نفس الاضطرابات السريرية الشائعة التي نتعامل معها اليوم.

تتضمن الأوصاف، على سبيل المثال، للصرع معظم أنواع النوبات الشائعة التي نتعرف عليها اليوم، على سبيل المثال، النوبة الصرعية الكبرى (التوترية الرنعية tonic clonic)، ونوبات الغياب absence، والجزئية المركبة complex partial، والبؤرية الحركية focal motor، وحتى الأنواع النادرة مثل الصرع الضحكي gelastic seizure. وشملت أيضا العوامل المثيرة أو ااستفزازية، والأعراض الاستباقية أو المنذرة، الهالات auras، والظواهر التي تلي النوبة وما نسمّيه الحالة الصرعية status epilepticus.. هناك محاولات مبكرة للتنبؤ، لا سيما فيما يتعلق بالحالة الصرعية، حيث اعترفوا أنها يمكن أن تؤدي إلى الموت.

وصف البابليون بوضوح الطبيعة الأحادية للسكتة الدماغية، بما في ذلك الأطراف والوجه والكلام والوعي. لقد ميّزوا ضعف الوجه في السكتة الدماغية من ضعف الوجه المنعزل، الذي نطلق عليه شلل بيل. وأدركوا المتغيرات المستقبلية للسكتة الدماغية، من الموت إلى الانتعاش الجزئي أو الكامل. لم يستطيعوا وصف ما نسمّيه "هجمات إقفارية عابرة transient ischaemic attacks" حيث لم يكن لديهم طريقة للتعبير عن وحدات صغيرة من الوقت مثل الثواني أو الدقائق. كان من الصعب التمييز بين الأحداث الإقفارية العابرة وبعض نوبات الصرع، كما يحصل اليوم.

بمعرفتهم المحدودة للتشريح، ربما لم يكونوا على دراية بالحبل الشوكي، لكنهم وثّقوا بصريًا كيف يمكن أن تؤدي إصابة سهم في منتصف ظهر اللبوة إلى شلل في الأرجل الخلفية (الشكل أعلاه). نحن لم نحدد حتى الآن أي تقرير مفصل عن الآثار السريرية لصدمة الرأس head trauma.

كان البابليون يدركون جيدا جنون الاضطهاد paranoia وأوهام الاضطهاد elusions of persecution، التي تحصل عادة من السحرة أو غيرهم من الأشرار. في الطب النفسي الحديث، ظهر وتطوّر مفهوم ذهان الصرع في القرن التاسع عشر، لكنه لم يتبلور بالكامل إلا في منتصف القرن العشرين. ولكن، وبشكل ملحوظ، يصف النص البابلي أيضًا معظم هذه الأعراض السريرية الكلاسيكية، بما في ذلك الأوهام بجنون العظمة، والهلوسة، وعدم الاستقرار العاطفي مع الأفعال الاندفاعية، فضلاً عن التديّن والنقص في القدرة الجنسية، وكلاهما إضافات حديثة نسبياً على المفهوم السريري الحديث.

يشمل السلوك الاستحواذي الذي وصفه البابليون في نص شوربو Shurpu فئات حديثة مثل الخوف من التلوث وتنظيم الأشياء والعدوان والجنس والدين. لكن من المثير للاهتمام أن التقارير البابلية موضوعية تمامًا ولا تتضمن وصفًا ذاتيًا للأفكار الهواجسية أو الاجتهادات أو موقف الأفراد تجاه سلوكهم الخاص، والتي تعد مجالات بحث أكثر حداثة.

من الواضح أن العلماء البابليين مفتونون ومتحيّرون بسبب ما نسميه الآن السلوك السايكوباثي، كما نحن بالفعل اليوم، على الرغم من بعض التقدم المحدود في فهمنا الحديث. مرة أخرى التقارير السلوكية هي موضوعية بالكامل وتشمل الكذب، والغش، واللصوصية، وإثارة المشاكل، والاعتداء الجنسي، والجنوح غير الناضج، والانحراف الاجتماعي، والعنف وحتى القتل.

كما سيتعرف الطبيب النفسي الحديث على وصف دقيق بشكل ملحوظ للاكتئاب المهتاج agitated depression مع السمات البيولوجية بما في ذلك الأرق، وفقدان الشهية، والضعف (وربما فقدان الوزن)، وضعف التركيز والذاكرة. وكما هو الحال في حالة اضطراب الوسواس القهري، لا يصف المؤلف أفكارًا ذاتية أو مشاعر حزن، لكنه يلاحظ حدوث يأس أو خوف أو اهتياج، أو ربما نوبات فزع، مما أدى إلى التفسير الأولي كحالة قلق. يبدو أن المعذب الأصلي هو رب الأسرة، وهو مالك ثري من أصحاب الأرض، ولديه عدد كبير من العاملين. كان هناك العديد من العوامل المثيرة بما في ذلك فقدان العمال والعبيد والحيوانات والمحاصيل والدخل، جنبا إلى جنب مع الإحباطات الشخصية والطموحات المُجهضة.

إن التفسير والعلاج البابليين للاضطرابات والسلوكيات العصبية النفسية السابقة التي لاحظوها وسجلوها بمثل هذه التفاصيل الدقيقة قبل 3500 إلى 4000 سنة كانت، بشكل مفهوم، مختلفة تمامًا عن تصوّراتنا. كما سبق ذكره، فقد أدركوا الأسباب المادية لبعض الأمراض الطبية. ومع ذلك، ربما لأنه لم يكن لديهم معرفة بالدماغ (أو الوظيفة النفسية)، فإن معظم الاضطرابات النفسية العصبية السابقة كانت تُعتبر خارقة للطبيعة. كان الاستثناء الرئيسي هو السكتة الدماغية، التي كان يُتوقع، على الأقل جزئيًا، أن يكون هناك تفسير مادي محتمل لها، ربما لأنهم أدركوا أن الشلل قد ينجم أحيانًا عن أسباب جسدية أخرى مثل لدغات الثعابين أو لدغة العقرب. على الرغم من أن الأساس الجسدي للسكتة الدماغية غير معروف وكانت الأسباب الخارقة للطبيعة حاضرة أيضا، كان العلاج في كثير من الأحيان يتضمن جهدا تعاونيا بين الطبيب أو الآسو asû، مع الطرق الموصوفة بالفعل، والكاهن أو الأسيبو. كان من الواضح أن علاج النوبات، والذهان المصحوب بجنون العظمة والاكتئاب هو حقل الأسيبو، مرة أخرى عن طريق الطرق التي قمنا بتلخيصها. بدا أن البابليين لديهم عقل متفتح حول اضطراب الوسواس القهري، والرهاب والسايكوباثي، الذي يشيرون إليه على أنه لغز لم يتم حله بعد. ومع ذلك، فقد اعتبروا أنه في جميع الحالات الثلاث يبدو أن الأشخاص يتصرفون كما لو أنهم أقسموا اليمين على العمل أو عدم التصرف في العادات التي لا يمكن كسرها. ما إذا كان المرضى قد خضعوا للعلاج أو ربما للعقوبة، لم يتم تسجيل ذلك.

من وجهة نظر طبيب أعصاب أو طبيب نفسي حديث فإن هذه الوصفات الموضوعية القديمة للظواهر العصبية النفسية تشير إلى أن البابليين كانوا يراقبون بعض الاضطرابات العصبية والنفسية الشائعة التي ندركها اليوم. الصرع والسكتة الدماغية هي الاضطرابات العصبية الشائعة الآن كما كانت في بابل. عندما تمّ إنشاء أول مستشفى للأعصاب في لندن في عام 1860، كان يُطلق عليه المستشفى الوطني للمصابين بالشلل والصرع. وبالمثل، فإن الاكتئاب والذهان هما أمران أساسيان في الممارسة النفسية الحديثة، وكانا معروفين لدى البابليين بوضوح. وبالطبع لم يكن علم الأوبئة موجودًا في بابل، ولكن من العدل أن نستنتج أن ما هو شائع في علم النفس العصبي اليوم كان معروفًا وموصوفًا حدّ التفاصيل الدقيقة المثيرة للدهشة من قبل الكتبة البابليين.

أحد الإغفالات الرئيسية والمُذهلة من هذه التوصيفات البابلية الموضوعية تمامًا للاضطرابات العصبية النفسية هو غياب أي حساب لأفكار أو مشاعر ذاتية، مثل الأفكار والاجترارات التسلطية في اضطراب الوسواس القهري، أو الأفكار الانتحارية أو الحزن في الاكتئاب. لم تكن هذه الظواهر الذاتية الأخيرة إلا مجالًا حديثًا نسبيًا من الوصف والتحقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ربما تحت تأثير الحركة الرومانسية. وهذا يثير أسئلة مثيرة للاهتمام حول تطور الوعي الذاتي البشري.

تم إغفال النصوص الطبية البابلية، بما في ذلك تلك المتعلقة هنا بالاضطرابات العصبية والنفسية، حتى تم فك رموز اللغة الأكدية وترجمتها من قبل العلماء الأوروبيين في القرن التاسع عشر. لا يوجد شيء مماثل لهذه الأوصاف السريرية التفصيلية في الطب المصري القديم، وبالتأكيد في مجالات علم الأعصاب والطب النفسي. على الرغم من أن اليونانيين لم يكن لديهم سوى القليل من الفهم للنص المسماري، إلا أن الثقافة البابلية، بما في ذلك الطب، أثرت بلا شك على الثقافة والطب اليوناني والروماني، لأسباب ليس أقلها أنه يمكن افتراض أن طرق العلاج قد تم ترحيلها على الأقل محليًا في الشرق الأدنى عن طريق التقليد الشفهي. ومع ذلك، قدّم الإغريق والرومان تفسيرات طبيعية جديدة للصرع والسلوك القائم على الأخلاط الأربعة ومعرفة محدودة في الدماغ وعلم الأمراض. الميلانخوليا (السوداوية) Melancholia، ترتبط مع وتعني "الصفراء – أو المِرّة – السوداء ‘black bile "، هو مثال جيد. لكن أوصافهم السريرية للاضطرابات العصبية النفسية كانت مجزأة وليست مفصلة وشاملة مثل تلك الخاصة بالبابليين. وعلاوة على ذلك، استمرت النظريات الخارقة للطبيعة للاضطرابات النفسية العصبية في السيطرة على الممارسة حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، عندما بدأت نظريات الدماغ في التجذّر. وعلى حد علمنا لم يكن هناك سوى في الأدب الأوروبي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أن الأوصاف السريرية التي يمكن مقارنتها مع أوصاف البابليين قد عادت إلى الظهور، وعزّزها الآن علم الأمراض العصبية، وفي وقت لاحق، عن طريق علم النفس المرضي.

في الطب الحديث، فإن المراقبة الدقيقة والوصف هما الخطوات الأولى في التعرف على فئات مختلفة من الشذوذات السريرية. تشير التقارير السريرية الكاملة التي درسناها واستعرضناها إلى أنّ البابليين كانوا أول من وصف الأسس السريرية للأعصاب والطب النفسي الحديث.
.. وبعد هذه الأدلة المُذهلة وفي مجال مُحدّد ثانٍ من الممارسة الطبّية البابلية هو الأمراض النفسية، كيف يقول هيرودوتس أنّ المرضى في بابل كانوا يُعرضون في الساحات العامة لأن البابليين لم يكن لديهم أطباء؟!

• المصدر:

Neurology and psychiatry in Babylon
Edward H. Reynolds James V. KinnierWilsonBrain, Volume 137, Issue 9, 1 September 2014, Pages 2611–2619,


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى