الجمعة ٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٩
بقلم علي القاسمي

البحث عن قبر الشاعر البياتي

في أوائل شهر تشرين الثاني/ أكتوبر، سافرتُ من مقرّ عملي في المغرب إلى سورية للمشاركة في مؤتمر مجمع اللغة العربيّة في دمشق وتقديم دراسة تتناول بنوك المصطلحات المفهوميّة وبنوك المصطلحات اللفظيّة والمفاضلة بينهما. كان المؤتمر سيبدأ يوم الأحد، ولكنَّني وصلتُ قبل يومَيْن بسبب مواعيد الرحلات الجويّة.

وعلِم أحد أشقائي الأصغر منّي سنًّا بسفرتي هذه، فاستقلَّ حافلةً من بغداد إلى دمشق ليراني بعد أكثر من ثلاثين عامًا من الفراق. جاءني إلى الفندق ضحى يوم الجمعة، وبعد سلام وعناق وحديث طويل عن الأهل والأصحاب، سألني وقد رآني أتهيّئ للخروج؟

ـ أين ستأخذني؟

قلتُ: "سنذهب إلى ضريح الشيخ محي الدين بن عربي للبحث عن قبر المرحوم عبد الوهاب البياتي، لأتلو الفاتحة على روحه." (وكنتُ قد قرأتُ ما ردّده النقّادُ بعد وفاة البياتي من أنّه وُلِد بالقرب من صوفيٍّ ـــ الشيخ عبد القادر الجيلاني ـــ ودُفِن بالقرب من صوفيٍّ ـ الشيخ ابن عربي ـ).

قال أخي مازحًا: " ألَمْ نشبع من القبور والمقابر في العراق؟"

قلتُ: "هذا قَدَرُنا." (وتبادر إلى ذهني أنّه كان يرغب في اصطحابه إلى مطعمٍ فاخرٍ في أحد المصايف الجبليّة الرائعة.)

بعد أن أدّينا صلاة الجمعة في مسجد الشيخ محي الدين بن عربي، اهتديتُ إلى القَيِّم على ضريح الشيخ، وسألتُه عن قبر البياتي الذي كنتُ أظنّه بجوار الضريح أو في فناء المسجد. فقال القيِّم:

ـ "لا يوجد أيُّ قبر بجوار الضريح، ما عدا قبر الأمير عبد القادر الجزائريّ وقد استعادته الدولة الجزائريّة بعد الاستقلال." (فتساءلتُ في نفسي: ومتى يستعيد العراق رفات البياتي والجواهري ورُفاتِ مئاتٍ من نوابغه الأحياء والأموات؟)

وتابع القيِّم جوابه قائلاً: " إنّ البياتي مدفون في مقبرة الإمام زين العابدين بحيّ الشورى في جبل قاسيون."

شكرتُه وخرجتُ وأخي، وفضّلتُ أن لا نستقلَّ السيّارة التي وضعها مجمع اللغة العربيّة تحت تصرُّفي، بل نسير على الأقدام إكرامًا للبياتي، ولم أعلم أنّ المقبرة في اتّجاه قمة الجبل، وكان علينا التسلُّق صاعدين، فما وصلنا إلا والإجهاد بادٍ علينا.

ولجتُ مقبرة الإمام زين العابدين واتجهتُ إلى بنايةٍ بين القبور خمّنتُ أنّها مقرّ محافظ المقبرة. فعلاً، وجدتُ جماعة يتناولون طعام الغداء على بساطٍ على الأرض، فسلّمتُ عليهم، فعرفنا المحافظ من لهجتي التي لم يندثر لحنها بعد خمسةٍ وثلاثين عامًا على فراق العراق، فنهض مرحِّبًا وخارقاً قاعدة ( لا قيام على طعام )، وهو يقول بإصرار:

ـ "الإخوة من العراق، أرجوكم تفضّلوا تغدّوا معنا."

وعندما شكرتُه معتذِرًا، وبيَّنتُ له قصدي، قال:

ـ "نعم، لا، قبر المرحوم البياتي ليس في هذه المقبرة، وإنَّما في مُلحَقها وهو ليس بعيدًا من هنا. وقد اختارت وزارة الثقافة السوريّة ذلك المكان له، بناء على وصيته. وسيرافقكم ولدي ليدلّكم عليه."

فنهض أحدهم من المائدة، وتناول مفتاحًا من على الجدار، وقادنا إلى نهاية الشارع، ثم فتح قفلَ بوابةٍ حديديّةٍ ودخلنا. وأشار بيده إلى قبر عند يسار المدخل مباشرة، تظلِّله أغصان شجرة صفصاف وارفة ينبعث منها نوح حمامة محزونة. ويربض القبر وحيدًا على ربوةٍ صغيرةٍ تطلُّ على بقية القبور وعلى سفح جبل قاسيون حيث تلوح معالمُ ضريح الشيخ محي الدين بن عربي، وأحياء كثيرة من مدينة دمشق، ومئاتٌ من منائر المساجد ونواقيس الكنائس المشرعة إلى السماء ذات الزرقة الصافية اللامتناهية. للقبر شاهدٌ مرتفعٌ نوعًا ما كُتب عليه : " قبر المرحوم الشاعر عبد الوهاب البياتي، تولّد العراق 1926، توفي 21 ربيع آخر 1420 الموافق 3 آب 1999" ( بعد كلّ تلك الآلاف المؤلَّفة من العبارات الشعريّة الأخّاذة التي أبدعها البياتي وأغنى بها اللغة العربيّة لفظًا ونحوًا ودلالةً، كُتِبتْ على قبره عبارةٌ واحدةٌ فقط، مبتسرة ركيكة التركيب!)
وقفتُ مُطرِقًا، ورفعتُ يديّ لأقرأ الفاتحة، ولكنّ ذهني حلّق بعيداً في فضاء حزين من الذكريات، عندما كان البياتي يقيم في مدريد بإسبانيا، وكان يأتيني إلى المغرب في بعض المناسبات الثقافيّة، وأحياناً بلا مناسبة. وكنتُ أعلم أنّه كان يأتي إلى المغرب ليرى ملامح الوجوه العربيّة وليسمع اللغة العربيّة في الطرقات، وليتناهى الأذان من المنائر إلى أذنيه، وليشاهد المنازل والبنايات المشيّدة بالعمارة والريازة العربيّتين، ويروّي عينيه بالأزياء العربيّة التي يرتديها الناس؛ وبعبارة أخرى كان الشاعر بحاجة لرؤية جمهور قرّائه العرب وهم في بيئتهم العربيّة ليتمكّن من قول الشعر باللغة العربيّة.

وعندما انتقل البياتي إلى عمّان في الثمانينيّات، كنتُ أغتنم رحلات عملي إلى الدول الآسيويّة، للتوقّف في عمّان وتمضية يومٍ أو يومَيْن قبل تغيير الطائرة، من أجل أن أستمتع بلقاء البياتي. كنتُ كثيرًا ما أسأله عن تأويل بعض أشعاره، ولكنَّني لم أجرؤ على استفساره عن مقطع ورد في ديوانه " قصائد حب على بوابات العالم السبع "، أحسستُ أنَّه يتنبأ فيه بمكان موته ودفنه، وهو:

"عدتُ إلى دمشقَ بعدَ الموت/ أحملُ قاسيون/ أعيدهُ إليها/ مُقبّلاً يدَيها/ فهذهِ الأرضُ التي تحدُّها السماءُ والصحراء/ والبحرُ والسماء/ طاردني أمواتها وأغلقوا عليَّ بابَ القبر."

تذكّرتُ في وقفتي الصامتة تلك كيف أنّه ذات مرَّة ـ وكنتُ في طريقي إلى باكستان ـ طلب إلي ّ أن أجلب له بعض كتب الشعر الباكستانيّ المعاصر المُترجَم إلى الإنكليزيّة ليطّلع على توجُّهاته. وعندما سألني وزير التربية الباكستانيّ الدكتور محمد سيد في آخر المقابلة ما إذا كنتُ بحاجة إلى أيّة خدمة شخصيّة، أخبرتُه عن رغبة البياتي، فقال بتواضع:

ـ "إنّني متخصِّص في التكنولوجيا، ولا أعرف كثيرًا عن الشعر، ولكنّني سأخبر عددًا من شعراء باكستان اللامعين بطلبك، وسأدعوهم من جميع المقاطعات لتناول العشاء معنا في آخر ليلة من زيارتك."

وعندما نزلتُ في طريق عودتي بعمّان، وقدّمتُ ما حملتُه من مطبوعات إلى البياتي، تصفَّحها ثمَّ توقَّف عند أحدها، ورأيتُ ملامح وجهه تتغيَّر، ثمَّ شاهدتُ الدموع تتجمَّع في عينيْه مثل غيوم تسوقها الريح. سألتُه عن السبب، فقال: إنّها قصائد الشاعر المرحوم أنصاري الذي كان زميلي في المنفى بموسكو.

تذكّرتُ كيف توقفتُ ذات مرة في عمّان، وأنا في طريقي إلى إندونيسيا، وعندما قصدتُ شقَّة البياتي، أخبرني البوّاب أنّ البياتي انتقل إلى دمشق قبل أيام للإقامة فيها. فتبادر إلى فكري ذلك المقطع الشعريّ الرهيب، وتصاعد وجيب قلبي، وتوجّستُ في نفسي خيفة. وبعد أشهر قليلة رحل عنا البياتي إلى الأبد.

تذكّرتُ هذا وأشياءَ كثيرةً أُخرى. تذكّرتُ غربة البياتي، وتذكّرتُ غربة الشيخ محي الدين بن عربي الذي لم تطالب الأندلس باستعادة رفاته، وتذكرتُ غربة العراقيِّين في بلادهم، وتذكّرتُ غربتي، وبدون أن أدري ترقرقتْ دمعةٌ في عيني، وعندها استدرتُ خارجًا من المقبرة صامتًا واجمًا، وأخي يتبعني من غير أن يتكلَّم.

الدكتور علي القاسمي أديب وباحث أكاديمي عراقي مقيم في المغرب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى