الأحد ٢٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم هشام آدم

صلوات مالك الحزين

كانت هذه الريح في ذات رمل حارق، تلهو بمناخٍ يعرفه البدو بأنه قاسٍ، وتسكنه الحمى الترابية، تألفه الأفاعي ذوات الدم البارد، وتعشقه اللافقاريات! كانت هذه الريح قاب رملين أو صفير من سرابٍ موغلٍ في القدم. حطّ على جناح طائرٍ خرافي أوسع الأساطير ضرباً وطار في سماءٍ حمراء للأبد. دمه – الذي هو علامة التفاؤل الوحيدة – كان غارقاً في شبر ماء، لُعابه – الذي قد سال للمرة الأولى عندما رآني – رآني مرةً أخرى ولم يسلْ! لا مجال للمُراهنة، الجرح غائرٌ في شوكة الصبّار، وفي حراشف السحالي التي تجيد التخفي. السرابُ وحمةُ الصحراءِ الغربية، ونقطة ضعفها الوحيدة.

على مدار أُغنيةٍ كاملة، ظل المُغني يُتابع السلّم الموسيقي، لكنه سقطَ عند حافة النهر فجأةً عندما تصاعدت أصوات الضفادع المزعجة. ولنعد إلى الصحراء حيث هذه الريح مليكةٌ وحيدة، على شعب كله يعشقُ السخونة. حتى هؤلاء البدو كانوا يرهبون غضبة الريح عندما تبصقُ الرمالَ في وجوههم، وتهِبُ الخيولَ طريقها إلى الفِرار. أيتها المليكة العادلة! مازال بعض الشعب يُعاني من الصُداع و( الأشف ) ولا ملاذ منكِ إلاّ هذه الشقوق! أحبكِ لأنّك الوحيدة التي تستطيع أن تخونني ولا أجرؤ على الكلام! أحبكِ لأنني أُحب أن أنام! أحبكِ لأنكِ التي أهابها وأعشق اقترابها! أحبكِ لأننا عتيقان في قافلة الرق المُتجهة شمالاً. حيث هذا الجرح قِبلةٌ مهجورة، ومحرابٌ غيرُ معترفٍ به. البدو يعبدون الريح سراً، ويدفنون القرابين تحت رمال هذه الصحراء.

أين يختبأ الوجدُ في هذا النهار!
من أي ناحية يتبخر الشوق؟
من أي فاصلةْ ؟
ومَنْ – على امتداد الدمِ القاني –
يعرفُ النارَ التي بين أضلعي
إنما بيني وبين أن أموتَ فاصلةْ
ها هي الصحراءُ تمدّ لسانها لي
وتعلنني المسافة
بين كل خطوةٍٍ وأختها
في العلاقةِ الحميمة بين
سرابٍ لا يُمكن الرِهَانُ عليهِ
وبين صحراءَ قاحلةْ
مَنْ – على امتداد هذه الحُمى –
يبيعني قُرصاً من الثلج
واحةً من الارتياح
آهٍ . . كم أشتكي من الصُداع

هذه الريح قاموسٌ للغةٍ غير مقروءة! وأطلسٌ لجغرافيا تستعصي على الفهم. هذه الريح كانت – ولا تزال – ملاذَ القبائلِ البدوية في رحلةِ البحثِ عن حربٍ من أجل ناقةٍ عوراء! أنا الوحيد الذي يستطيع أن يمشي حافي القدمين في رمالكِ الحارقة، والوحيد – صاحب المهابةٍ – الذي يعرف سرّ كيمياء الحرارة. ها هي اللعنة الآن على أعتاب بابي الخشبي، آآآآهِ يا لُعبتي الصغيرة! كم بكيتُ – فقط أمامكِ – قبل أن أُغيّر اللكنة الحزينة قبل آذان الفجر! كم – يا صغيرتي – خلعتُ كبريائي الوحيد، لأرتديكِ! هذا سرٌ بيننا، فلا تبوحي بالسر إلاّ للريح والصحراء. أنتِ التي تفهمين لغتي التي لا يفهمها أحد، كُلّهم – بلا استثناء – لم يفهموا، وكأنني كان يجب أن أتعلم لغاتهم كي يُتاح لي أن أصرخَ بلغةٍ يفهمونها! كُلّهم – بلا استثناء – ظنّوا أنني أبيع خرز الساحرات، وأوهام القراصنة الباحثين عن كنزٍ ما في بحرٍ لا يعرفه أحد! كُلّهم – بلا استثناء – نعتوني بالجنون، فلم أستطع أن أبوح أكثر.

للبدو هذه الصحراء، ولي هذا الشارع النائي، المُرصّع بالضوضاء والعابرين. قال لي عابرٌ ما: " لا تقف على قارعة الطريق، ولا تُغني حيث لا يسمعُك أحد!" ولكنني أُريد أن أُغني . . أُريد أن أغني. ولذا استعرتُ صوتي من مالك الحزين! ( جَبَلٌ ) من القطن!!
 أين شموخكَ أيها الجبل؟
 جَفَلْ !
 أين البريق الذي – في كل صخرةٍ – يضيء من بعيد؟
 أفــلْ !

آهٍ . . من هذه الحمى السفلية! ومن هذه الصحراء، ومن هؤلاء البدو. لقد تعبتُ من الدعاء، سئمتُ من الاستجابة! سئمتُ من الذين لا يجيدون العزف، ومن الذين لا يفهمون هذا الغناء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى