الخميس ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٩
بقلم محمد متبولي

ابتسامات ساحرة

إنه يومه الأخير فى تلك البلدة الصغيرة فى قلب الريف الإيطالي، والتى كثيرا ما كان يتعجب من أن أغلب سكانها من كبار السن.

اعتاد أن يمر فى طريقه اليومى من أمام محل الورود، لفت انتباهه الرجل العجوز وهو يقف ينتقى الورود، وردة وردة بنفسه، كان يعرفه من وجهه، فكثير ما كان يراه بصحبة زوجته المقاربة له فى السن وهما يتجولان فى شوارع البلدة مساءً، متكئين على بعضهما البعض، والسيدة تحمل فى يديها صحبة صغيرة من الورود ألوانها تشبه تلك التي وقف زوجها ليشتريها.

تصاعدت الأسئلة إلى رأسه، ما الذى يدفع رجلا تخطى الثمانين، أن يستيقظ مبكرا ويسير متثاقلا على نفسه متكئا على عصا والسعادة تغمر وجهه، فيشترى الورود لتكون هى أول شئ تفتح عليه رفيقة دربه عينيها عندما تستيقظ، لابد أنه لا يراها كما يراها المارة من حولهما، مجرد امرأة عجوز نالت التجاعيد من أغلب ملامح وجهها، وترك الزمن علاماته عليها، أغلب الظن أنه يراها كما رآها أول مرة ربما منذ نصف قرن من الزمان أو يزيد، فتاة جميلة جذابة، منحته قصة حب تحدت الزمن وصمدت أمام ضربات القدر، تشهد جنبات البلدة عليها، يظهر ذلك جليا في تلك الألفة والمحبة التي يعاملهما بها أهل البلدة، والتي كان يراها بوضوح، فوجودهما في أي مكان كان يبعث على البهجة.

وما إن غادر الرجل العجوز، حتى وجد نفسه بشكل تلقائى يتوقف طويلا على غير العادة أمام المحل، تملكته رغبة جامحة فى أن يشترى صحبة من الورود، وما إن فعل، حتى تذكر أنه ليس لديه أى شخص يهديها إليه لا فى تلك البلد ولا فى أى مكان آخر فى العالم، تصادف ذلك مع اقتراب شابة تتحرك فى اتجاهه يبدو أنها غريبة عن البلدة، ملامحها الأوروبية تنضح من وجهها الملائكى، تسير بخطى ثابتة كلها حيوية، وتعلو وجهها ابتسامة خفيفة، تخيل للحظة ابتسامة عريضة تفترش وجهها وهو يهديها الصحبة، فشعر بالسعادة تغمره، هو لا يريد منها أى شئ على الإطلاق ولا حتى أن يعرف أسمها، فقط يريد أن يرى تلك الابتسامة الساحرة والسعادة على وجهها وهو يهديها الورود ثم يرحل، وأن يحتفظ بتلك الذكرى، ذكرى ابتسامة فتاة جميلة أهداها الورود يوما ما.

وبينما هو متجه نحوها، لفت انتباهه سيدة عجوز تمسك فى يدها عكاز وتحاول وحيدة أن تتخطى الطريق، وهى ترمق محل الورود بنظرة عابرة، كان وجهها هي أيضا مألوفا بالنسبة إليه، فدائما ما كانت تتجول وحيدة في البلدة، فذهب إليها ليساعدها فى عبور الطريق، وما إن وصل معها حيث كان يقف، حتى أهداها صحبة الورود تزامنا مع مرور الفتاة، ليرى ابتسامتان ساحرتان فى لحظة واحدة، إحداهما من السيدة العجوز والأخرى من الشابة الجميلة، لتغمر وجهه ابتسامة عريضة وتتملكه حالة من النشوى، توقف بعدها للحظات ثم أكمل طريقه مسرعا، تاركا العجوز فى حالة مختلطة من الذهول والفرح، بينما وقفت الفتاة معها وهي ترمقه بنظرات الإعجاب، ليكونا بذلك أول من رأى ثغره وهو يبتسم منذ زمن بعيد، وتكون تلك أكبر ابتسامة ساحرة رسمت تعابيرها على وجهه فى حياته.

تمت


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى