الاثنين ٢ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٩

الساحر محمود عبد العزيز والخلود

الأب يوسف جزراوي (سيدني)

تمر علينا بحزن كبير الذكرى الثالثة لرحيل الهرم الشامخ الفنان المصري محمود عبد العزيز، الذي رحل عن عالمنا دون استئذان.

بموت ساحر الشاشة العربية غارت الينابيع في الأرض ويبست عروقها..بحيث أشعل موته عود ثقاب في قلبي الذي يتلظى بنيران رحيله إلى الآن.

وقع علي نبأ وفاته كوقوع الصاعقة في الهشيم؛ بل صلبني على ألف جلجلة جلجلة، وقلبني على ناره كما تقلب الريح أوراق الخريف.

لم اشاهد الراحل الكبير سوى في التلفاز، لكن علاقة روحيّة ربطتني به عَبرَ فنه الجميل، إذ عرفته من خلال احاديث والدي رحمه الله عن قدرته في تقمص الشخصية؛ إذ كان من أشد متابعيه. وأذكر أنني شاهدتُه للمرّة الأوّلى في فيلم الكيف ثم في المسلسل المصري الشهير "رأفت الهجان" عَبرَ تلفاز العراق في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ومنذ تلك الفترة دخل قلبي دون أن يخرج وصرت من محبيه و متابعيه. فهو فنانٌ ملتزمٌ بفنه واسمه على الساحة الفنيّة المصريّة والعربيّة إن لم أقلّ العالميّة..بعد أن قدم أوراق اعتماده الفنية للمشاهد بإبداع لا يوصف.

نحتَ اسمه بالصخر، ونقش فنه الجميل في ذاكرة البشر، فأسر العقول والقلوب، وأصبح واحدًا من أولئك الفنانين الكبار الذين يتمتعون بقاعدةٍ عريضةٍ من جمهور الرّجال والنساء من مختلف الأعمار، بعد أن أمسى من الأسماء المرموقة التي تحظى بقيمة إنسانيّة كبيرة...بحيث ارتبط اسم مصر به؛ فحين يلتقي أي شرق أوسطي بمواطن مصري؛ يقول له: "أنت من بلد نجيب الرياحاني و محمود عبد العزيز وعادل إمام وعبد الحليم وسناء جميل ونجيب محفوظ ومفيد فوزي....".

كان "صانع البهجة" كما وصفه الناقد المرموق طارق الشناوي، أحد المهمومين بالإنسان المصري وبمصر، والمهمومون بمثل هذه القضايا مبدعون، لكنهم مُتعبون، والمتعبون هم الفنانون والعلماء والشعراء والأدباء والمصلحون... ، لأنهم يفكّرون في كلّ شيء يهمّ الإنسان ويدور في صالح الإنسانيّة.

لقد عايش الهمّ المصري في أيامه الاخيرة من تِلكَ الغرفة في مشفى الصفا بمصر/ حي المهندسين، وليس جديدا إن قلت لكم:

إن مصر شغلت حيزًا كبيرًا وواسعًا من فنه؛ فمن منّا ينسى :" رأفت الهجان، محمود المصري، باب الخلق، الكيت كات، جبل الحلال؛ اعدام ميت...."، وكيف لا!، وهو صاحب عبارة "خلو بالكم من مصر"، فقد عرفتُ من خلال اعماله الفنيّة كم هو مهموم بشأن بلاده، بشكلٍ أثر على حالته النّفسيّة والصحيّة. ومن يتطلع مليًا إلى افلامه ومسلسلاته ومقابلاته التلفازية القليلة سيلحظ حتمًا إشارات ضوء تُبدد ظلمات التعصب وتفك قيود القهر وتفتح الأبواب أمام إنسان جديد في زمنٍ كادت تترهل فيه قيمة الإنسان في المجتمع المصري؛ إذ لخص رحمه الله في مشهد (فوقوا يا مصريين) في مسلسله المشوق -باب الخلق- مدى حرصه على الوحدة الوطنية في زمن كانت تلتهب منه لأدنى الأسباب المشاعر والالسنة والعقول؛ إذ تلمس بصدق وجرأة بعض الحالات الشاذة التي توافدت في ذلك الزمن على المجتمع المصري العريق، فتصدى لها فنيا بموضوعية بناءة، لأنه يدرك المفهوم الصحيح للمواطنة، ويعرف حق المعرفة أهمية التعدد والتنوع وإن الإختلاف لا يعني خلافا؛ بل تكاملا وتناغما؛ لأن الحديقة لا تبدو جميلة إلا بتنوع ورودها.

كان مشهدا عبقريا من فنان لم ولن يتكرر، لخص خلاله بمحبة ومصداقية ألهم الذي كان يشغله وهو وحدة شعب أرض الكنانة.

كما تميز رحمه الله بالنيل وعفة الكلمة وبموهبة فريدة ويزرع براعم الأمل في النفس القاحلة كما فعل في دور الشيخ حسني الكفيف ( الكيت كات)؛ فهو مبدع لا يدعي الابداع، لم ينل منه الغرور، بل كان بسيطا عميقا. ترك بعده الأثر الحسن والذكر الطيب ومقدارا هائلا من النجاحات والانجازات بعد أن انكوى بنار الابداع..ورغم هذا لم نجده يمجد في ذاته ولم يلهث وراء الأضواء أو يسعى لمحاربة الغير؛ بل كان يعيش في عالمه الإبداعي الخاص ينافس نفسه؛ يحضر ( يطبخ) أعماله على نار هادئة؛إذ لم يقبل بأي عمل يقدم له، احتراما لتاريخه الفني الرصين ولقيمته ولجمهوره الواسع، لهذا اتسمت جل أعماله بالخلود، وكان يبتهج لنجاح الاخرين ، وهنا تكمن قيمة الكبار. وأظن وليس كل الظن إثما أن " صانع البهجة" كان يؤرقه دوما شعور الترقب إبان عرض اعماله، متسائلا كيف ستكون ردة فعل الجمهور؟ فاحسبه كان يحيا في ترقب مستمر لا يبرأ من قلق فيه استهلاكا للصحة واستنزافا للتفكير. إنه عذاب الفنان المبدع الذي يطمح باستمرار لتقديم " وجبة فنية" عالية الدسم؛ لذيذة المذاق، هكذا كانت ولادة أعماله السينمائية والتلفزيونية؛ أشبه بالولادات القيصرية إن صح القول. فكل فيلم أو مسلسل درامي له كان بمثابة ولادة، فإذا كانت المرأة تتعذب بالولادة بضع مرات في حياتها؛ فإن مبدعا على شاكلة فنانا الكبير محمود عبد العزيز كان يتعذب كل يوم؛ لأنه يمتلك رؤية مغايرة؛ جعلته أشد عمقا وأكثر أساسا ودفئا؛ لهذا وجدناه يبدع بمهارة؛ مفكرا في النوع غير مبال بالكم.

إنه حبيب الجماهير الفنان الخالد محمود عبد العزيز، الذي هوى، والفارس الذي ترجّل دون سابق انذار بعد صراع مع المرض لم يمهله سوى شهرا! حقًا تبًا للموت الذي أقنع محمود عبد العزيز بالذهاب معه قبل آوانه وحرمنا من سحر فنه!

برحيله فقدَت مصر أمُّ الدنيا وخسر الفن العربي واحدًا من عباقرة الفن ورّجال الإنسانيّة الجهابذة، لكن مصر ستبقى أرضًا للإبداع، لأنها وطنٌ خلاّقٌ وولاد.

قد فارق محمود عبد العزيز فناني المفضل الذي أُحب، هذه الدنيا عن عمرٍ ناهز الـ70 عامًا إلى العالم الآخر حيث لا يعود الناس، لكنه سيبقى ماكثًا في قلوب الجماهير، لان المبدع لا يموت، ومحمود عبد العزيز من أولئك المبدعين الخالدين، وما الخلود؟

سوى أنّ يمرّ المرء بالوجود فيترك أثرًا عميقًا فيه، وبقدر ما يكون حجم الأثر وكثافته ونوعيته بقدر ذلك سيكون حجم خلوده في قلوب الناس.

محمود عبد العزيز شخصية ستبقى في قلبي وصلاتي، محفورة في وجداني طوال ما حييت. وسيظل كل الذين عرفوا الساحر سواء عن قرب او من خلال السينما والتلفاز والمسرح أو الذين عملوا وعاشوا معه يتذكرونه بالخير طويلاً، لأنه بصم في نفوسهم وفي جبين الفن بصمة لا تمحى، كما سيبقى اسمه منقوشًا في القلوب وعلى صخرة التميز، لأنه علامة مضيئة في إنسانيته التي جسّدها بفنه العريق.

لنصلَّ من أجله ليشمله الرب في ملكوته البهي..وعلى روحه الطيبة الرحمة والسلام.
عليه رحمة الله. آمين


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى