الخميس ٢٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
أوطان صغيرة.. (متتالية قصصية عن الرؤى والألم)
بقلم زكرياء أبو مارية

(1) انفلات

لا أفهم، أو أنني لا أريد أن أفهم، إذا كان هكذا يمكن للأبيض أن يصبح فجأة داكنا، لماذا لا يستطيع الداكن أن يستحيل إلى ناصع.. أن يلمع ويضيء.

نحن لن ننام غالبا في كل مساء، كانت تقول لي "فاء"، قبل أن نتمنى لبعضنا أو لأنفسنا وإن سرا وعن أنفسنا أيضا أحلاما سعيدة، وسننتظر ذلك بلهفة وتوق مادام أغلب ما نراه شر وانتقام، كوابيس نفتح أعيننا منها فيفاجئنا الظلام والعمى اللذان يحيطان بيقظتنا.

"فاء" نفسها كانت حلما جميلا كوطن، وعندما تحققت كانت كالأوطان تماما حين تنفلت قليلا من سلطة جمالها عندما تتحقق، لأنها تصبح واقعا يخدش ويجرح ويؤلم، ولأن لها أصلا في الأحلام فإنها لم تنفلت بالكامل من سلطة غيابها، فظل الذهاب يتربص بها إلى أن تمكن من أن يخفيها مرة أخرى، وما عاد بمقدوري سوى أن أنتظر الليل لعله يحضرها.

أول ما كان يستيقظ في عينيّ شراهتهما للنوم الذي يكون قد أتعب ليلي في الهروب من جفنيهما، سارقا معه أغلب تفاصيل ذهاب "فاء" المزمن، وكان النوم أخيرا بأقراص منومة غالبا ما يسلمني للبقايا الأكثر إيلاما في حلمي لأواصل خلاله تذكري القسري.

أقصد البيت من جديد، ولا تكاد "فاء" تفتح الباب حتى تعود لتغلقه في وجهي، أتطلع ناحية أقصى اليسار حيث الطريق المؤدي نحو مقهى قصر البحر معفرا بالذكريات، أطأطئ فأتذكر أيام كانت تجيبني "فاء" قبل أن تتوارى كعادتها وراء الباب:

 مانا سخون.. سر للقهوة واشرب.

لقاءاتنا غالبا ما كانت تتم على نفس هذا النسق المشفر، وأنا أعرف أن شيئا لم يعد ليبشر بلقاء من ذلك النوع، فماذا يجعلني أطمع بعدُ في الحرارة أو الدفء على الأقل من "فاء"؟ شهر يوليو أم دوائر الدخان داخل رأسي الذي لم يفهم أن الألوان التي تصنع الجمال في قوس قزح وتبشر بالخصب هي نفسها التي صنعت الكرم أخيرا في وجه "فاء" لتحيط بها الأطماع.

غريب كيف أنني ظللت أختزن آلامي، ولم أتشقق ولو بمقدار رمانة تشبعت عن آخرها، واكتمل نضجها ولم تقتطف.

نغادر البرج الشمال غربي لقصر البحر، حيث الفضاء المخصص كشرفة في القهى، ننزل من أعلى حزينين وشاردين، نعبر الممر الحجري الطويل والمنحدر مطرقين، وعند الباب تلتفت نحوي "فاء" وتقول لي: ما رأيك لو أننا نضرب عصفورين بحجر واحد؟

كان عقد المدير معها لصفقة زواجي بعشيقته، لأجل ستر فضيحته، مقابل حصولي على وظيفة عصفورا أولا، وبقيت للحظة أتساءل مع نفسي مخمنا بعض مكامن تواري العصفور الآخر في كلامها، ومراقبا ترددها إلى أن واتتها الفرصة أخيرا في صمتي واستسلامي فأفصح تساؤلها عن رأيي حول اقتراح المدير بأن تصبح هي عشيقته في المقابل.

ضحكت وقلت لها:

 أجمل ما فيك أنك دائما ما تختتمين لقاءاتنا المريضة بنكتة تشفي.

ثم عدت لأقول لها، عندما رأيت الإصرار في عينيها:

 حسنا، إما أنه عصفور واحد سنضربه بحجرين، وإما أنهما فعلا عصفوران سيُضربان بحجر واحد، ولكن المدير هو من سيرميه.

وعاودتني ضحكتي قبل أن أسمع "فاء" تفتح بتعقيبها طريقا نحو مقتلي:

 إذن فقد صوب المدير بدقة بالغة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى