الأحد ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٩
بقلم مريم علي جبة

أحمد بلحاج في حوار مع ديوان العرب

قرض الشعر منذ نعومة أظفاره، فكان شاعرا يعزف بالكلمات أرق القصائد التي حملت نكهة بحر مراكش، وتراثها. أديب، وناقد، وقانوني. ولد عام ١٩٤٨ في المغرب.
 يشتغل محافظ خزانة كتب بمراكش.
 عضو بيت الشعر في المغرب، ورابطة الأدب العالمي، ومنتدى الديوان للشعر والشعراء.
 نشر كتاباته بعدة صحف ومجلات عديدة، منها: الأديب، الآداب، الأقلام، الثقافة المغربية، المناهل، الوحدة، الشعر، البوابة، مواسم، العلم، المحرر، الاتحاد الاشتراكي، الفكر، آفاق، إبداع، الميثاق.

إنه الشاعر، الدكتور أحمد بلحاج الذي كرمته ديوان العرب عام ٢٠١٩ كواحد من الشعراء المجددين، والمبدعين في ساحة الشعر، والأدب. له العديد من الإصدارات منها:

 زمن الغربـة: شعر، دار المامون، 1979.
 كتابة على ألواح الدم: شعر، دار الرياح الأربعة، 1989.
 العبور من تحت إبط الموت: شعر، دار وليلي، 1995.
 شعرية الحمامات: دراسة، دار وليلي، 1997.
 موقف ابن رشد من إشكالية المعرفة الصوفية: بحث، دار وليلي، 2001

ديوان العرب أجرت معه هذا الحوار الممتع:

- بداية لا بد من أن نعرف أحمد بلحاج طفلا، ومن ثم شابا،وكيف بدأ يكتب الشعر؟

 وُلدت في مدينة مراكش التي تتنفس العبَق الروح ،وتتزيا بسمت المحافظة،لم أعش الطفولة كما أترابي من الأطفال، فقد قُمِّطت بتصورات الأب الدينية والصوفية،وكانت مدارج طفولتي هي الكُتَّاب والمدرسة والزاوية،ولم أكد أضع قدمي على أول درجة في سلم المراهقة حتى شُيِّخْتُ،فصرتُ أؤمُّ بالناس صلاة التراويح،وأتصدَّر حلقات الذكر والأمداح الدينية في مختلف الأعياد والمناسبات التي لها صلة بالشأن الديني. ولذا فإنني لم آت إلى الصوفية من فراغ روحي أو معرفي،أو طلباً للجوء من غبش سياسي.فجذوري ممتدة عميقا في هذا الحقل،بحكم نشأتي في محيط تسوده المحافظة والتدين.فقد كان والدي مشربا بالصوفية حتى النخاع،ولكنها صوفية معاصرة تجمع الأرض والسماء في بُردة المحبة،وتبث أنوارها في الناس داخل الزاوية وخارجها.ولم يَأْلُ جهدا في إغرائي بانتهاج نهجه،حيث نقعني في أحواض الذكر،وشحنني بعلوم القوم،وشَيَّخَني وأنا صبي لم يبقلْ وجهه بعدُ،فصرت أؤمُّ بالناس التراويح،وأسرد عليه بعض كتب الرقائق والدقائق التي كان يتصدَّر لشرحها.ولكن أهواء المراهق العاصفة فيَّ بأَلْسٍ أخضر عصفت بكل جهوده،ورمتني في خضَمّ اليسار إسوة بأخداني،فكان ما كان من خطى سرقت العمر الجميل مني،وأرَتْني كيف تقتل السياسةُ الحميميةَ في الناس،وكيف يشي الأخ بأخيه من أجل وهمٍ يتجسَّد في كرسي،وكيف يتلاعب القطبان المتحكِّمان آنذاك في مصائر الشعوب وإرادتها.فساءلت نفسي بعد انسلال وهَج شبابي مني:هل أنا حر؟أم مجرد كائن منزوع الإرادة تلعب به يد اليسار لتصل إلى محلومها،كما تلعب يد اليمين بالذين انسحروا بوعودها؟وهل المنخرطون في لعبة اليسار واليمين هاته أحرار افرادا وجماعات وشعوبا ؟ لقد رجني السؤال ، وظهر لي الزمن نضاخا بأشباح العبودية ، فاشتعل فيَّ قول الشهرزوري :
أَتَمَنَّى عَلى اٌلْزَّمَانِ مُحَالاً أَنْ تَرَى مُقْلَتَايَ طَلْعَتةَ حُرِّ
ولم ينقذني من سيف الإيديولوجيا ذي اللسانين المرفوع فوق الرقاب إلا ضوءٌ بعيد صاعد من جذوري المومأِ إليها . فهو الذي بصرَّني بمعنى الكينونة ، ومعنى أن يكون الإنسان ضوء يتوقد منه الزمن ، لا تابعًا تسوَدًّ منه الجهات ، وتتناسل فيه الإحَن .
فمن هذا الحقل تعلمت كيف أنتقل من الخشية إلى المحبة ، ومن ظواهر فمن هذا الحقل تعلمت كيف أنتقل من الخشية إلى المحبة ، ومن ظواهر الأشياء إلى بواطنها ، التماسا لسر الوحدة في الكون بعيدا عن ظواهر الاختلاف الحاجبة لهذا السر الممثلة فيه ( حقيقة الحقائق ) ، والتي يقول عنها ابن عربي إنها : ( أصل العالم وأصل الجوهر الفردي وفلك الحياة والحقُّ المخلوق به ) .
فما تفرق في العالم الأكبر تجده في العالم الإنساني ، فالإنسان (= العالم الأصغر ) مماثل للكون (= العالم الأكبر ) ، وبرزخٌ بين المطلق والعالم ، فإذا نظرت إليه من حيث العالم كان هو الأخِر ، وإذا نظرت إليه من جهة الألوهة كان هو الأول ، وبتعبير الشيخ الأكبر : ( هو الأول بالمرتبة والأخر بالوجود ، رتبته أقدم منه من حيث جسميته )، موصوف بالظاهر والباطن وبطونه متعلق بأوليته الروحية ، وظهوره متعلق بآخريته الكونية .
فقد وجدت في الصوفية من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كله ، حيث تدعو إلى احترامه وتقديره ، وتحذِّرُ من الاستهانة به وتحقيره ، الأمر الذي لا نظير له عند حماة البيئة الآن ، لأنه أرحب مجالا وأوسع آفاقا ، فكل جزء في العالم ، بل كل شيء فيه مستند في وجوده إلى نفَسِ رحمانيّ ، فمن حقره أو استهان به فإنما حقر ذلك النفَس . ومن ثمة صرت لا أخجل من الاعتذار إلى حجر إذا عثرت فيه .
فالصوفية من هذا المنظور تتيح للإنسان عامة ، وللمحترق بالشعر خاصة الاطلاعَ على الخفي في الوجود ، وعلى الغائب المجهول منه ، وعلى الحب الذي هو علة وجود العالم ، وعلى الجمال الذي هو الصورة التي ظهر عليها الكون بعد أن كان ثابتا في العدم ، إذ لولا الحب ما وجد شيء في هذا الكون ، أما الكره فهو عَرَضٌ ، والعَرَضٌ مصيره الزوال . وبما أن الخلق متجدد على الدوام أجسادا ومعانيّ وأشكالا وصورا ، وليس فعلا وقع في الماضي وانتهى ، وإنما يحدث في كل آن ، فإن حب المطلق متجدد كذلك مع الأنفاس ، فهو خَلق والَخلق حب . فلحظة خلق شيء – شكل ، صورة ، معنى- ما هي إلا لحظة حب متجددة ، وذلك لأن الحب هو مبدأ الوجود، وأصل كل موجود بعينه ، والأساس الوحيد لمعرفة الله والإنسان والكون ، والأصل الجامع لكل الاعتقادات والعبادات .
وما أحوج الإنسانية المُغَرْغِرَة إلى هذه الصوفية المعاصرة للخروج من الصراعات والنزاعات العَقَدِيةِ المُفنية ، والدخولِ في جمال العالم الذي هو جمال الله . فمن أحب العالم أحبه بحب الله ، لكونه مَجْلىً لجماله المطلق ، ومن عين حب المطلق حبُّ الرجل للمرأة باعتباره الصورةَ التي خلق الله الإنسان الكامل عليها ، وهي صورة الحق ومجلاه الجمالي ، فإذا أحب الرجل المرأة رده حبها إلى الله ، باعتباره الصورةَ التي خلق الله الإنسان الكامل عليها ، وهي صورة الحق ومجلاه الجمالي ، فإذا أحب الرجل المرأة رده حبها إلى الله ، إذ فيها يتحقق حب الإنسان لربه ، فاكتشاف الله يتم عبر اكتشاف الذات ، واكتشاف الذات يتم عبر اكتشاف المرأة .
ومن أهم ما تفيد به الصوفية الشعر هو أنها تخرجه من لغة العبارة التي لا تنتج شعرا موصولا بأحاسيس الكون ، لأنها لغة عقل مقيد ومحدود ، وتدخله في لغة الإشارة التي تنتج شعرا بكل جزئيات الكون لكونها أصيلة وبليغة . فحينما اهتديت إلى هذه اللغة استطعت أن أنفذ إلى ما وراء حدود العقل وحدود الظواهر المادية ، فاللغة الإشارية هي لغة الوجود التي وسعت آفاقي توسيعا كاملا وروضت خيالي على اقتحام اللانهائي ، فهي قد غيرت مداركي ، وحولت ولونت المعارف التي اكتسبتها من قبل ، ونقلتني من الشعور بالذات إلى الشعور بالآخر الكوني ، أي الشعور بالانتماء إلى الوجود انتماء عضويا نورانيا ، ورفعت القيم الأخلاقية عندي إلى درجة جمالية ، أجد فيها من الاستمتاع والاستلذاذ ما لم أجده على مستوى القيم الأخلاقية المؤطَّرَةِ بالعقل ، بحيث غدوت أرى الأشياء من حولي، وكأنها تحمل أسرارا روحانية يصعب تجسيدها باللفظ ، فأصواتها هي بمثابة تسبيح ، وحركاتها بمثابة خشوع ، تتغشَّؤاني وكأني في عالم أشبه ببيت من بيوت الله في ملكوته .
وخطاب الأشياء هذا هو خطاب جمال وذوق لا يفهمه إلا عقل بصائري أدق وأرق ، لا يروم استحضار القوة المودعة في الأشياء من أجل تسخيرها لأغراضه ، وإنما يروم إرادة الرقة في تلك الأشياء ، مما يجعل الكون بالنسبة إلى متلقيه مسرحا جماليا يريد أن يصل فيه إلى أسرار اللطافة والنعومة المودعة فيه .
فالتجربة الصوفية – كما خضتها – هي طريق التحبب إلى الكون وإقامة علاقة تودد وتقرب إلى الأشياء ، لا طريق تسلط وتصرف فيها وفق الشهوات والأهواء .
ومن هنا امتزج عندي الشعر بالتصوف،فقد علمتني المرجعية الصوفية أن أتكلم لغة العمق العاطل،وأن أصوغ الوجود والمجرى الأنطولوجي للذات بدناً وجسما وجسدا في قوالب جمالي تتعالق فيها اللحظات: الصوفية والشعرية تعالقا مشهديا بصائريا،يشكل سياقا زمنيا آخر،مختلفا كليا عن التمثلات الإنسانية الأخرى،ورافضا الاستمرارية الهادئة للإحساس والاستنباط والاستراحة Catagénique ،لأنه حلمٌ وحركةٌ وتوق وفضاءٌ يتضمَّن كل القِيَم.فتأويل الذات Herméneutique du sujet وتحريرها شعريا هو الذي يجعلها ذاتا خلاقة ،يمتلك وجودها بُعْدا جماليا هو حقيقتها التي لا تحجبها السلطة المختبئة بكل أشكالها تحت أقنعة إنسانية.فالفرد في زمن التعولم غدا مُتَهَوِّساً بفيروس السلطة،فهو في أناه الباطنة The inside ،ومن ثمة أضحى حاملا لسلطة تلاحقه وتتعقل في كل حركاته وسكناته. والشعر في هذه النقطة بالذات هو الذي يعطينا ميكانزمات وتقنيات تخييلية وجمالية تستطيع بها الذات الانفلات من ضغوطات السلطات الخارجية والداخلية المحَدِّدة لسلوكاتها وممارساتها،والانزياحَ خارجَ المعرفة الرتيبة. فتحرير الذات شعريا من أوهام السلطات وفخاخها ، وأشراكها المُقَنَّعَة،يتضمن تحرير الجسد كذلك،والاحتفاءَ به شعريا،وبخاصة بعد أن احتقرته الثقافة الدينية ،وامتهنتنه،وأقصته من الحياة الفوَّارة بأسنى الرغبات وأصفاها،لصالح ما تسمِّيه بالنفس،ألم يقُل شاعرها:
عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ وَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا فَأَنـْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجسْمِ إِنْسَانُ
فحين نلغي الجسم من الوجود،أو نضعه على الرف،لأجل إعلاء النفس،فإننا نكون قد أحدثنا خللا في وجودنا،وأفقدناه التوازن.وهذا هو ما نبهتني إليه المرجعية الصوفية الخالية من التدروش،ومن البعد الاستيهامي،وأوصلتني إليه عن طريق النظر إلى العالم باعتباره جميلا بالأصالة.وما قد يتراءى لنا فيه من قبح فهو طارئ عليه من لدن الذين لم يُدركوا بُعد جماله هذا في مَظْهَره ومَخْبَره.
فالرؤية الصوفية حين تتشكل إبداعا لا ترتبط بمعتَقَدٍ خاص،فكل المعتقدات ماؤها،تسقي به مُكَوِّنات الكون إلى حد الامتلاء والشفوف والرهافة،بحيث أن من شرب منه يستحي أن يقوم بإذاية أيٍّ كان في الكون،فإذا عث ر بحجرٍ مثلا لا يأنف من الاعتذار إليه،لأنه يُدرك ذوقا ،وبعين البصيرة،أن مفردات الكون امتدادٌ له،فإن هو آذاها يكون قد آذى نفسه.بهذا الزخم الصوفي تأثثتْ ذاكرتي ووجداني،وتشكلت لغتي،فجاء الخيال في شعري توأما للخلق والحرية.فالشعر هو ماهية الخيال،ولغة اللغات التي كلم الله بها العالم،ولذلك سنَّ له العرب القدامى سجدة سمَّوها ب(سجدة الشعر).فهم كلما سمعوا شعرا أخذ بمجامع قلوبهم خَرُّوا سُجَّداً،زمن هنا كانت الحاجة إليه،فهو الذي يحرر الإنسان من الزمن المُستبدِّ،ومن الأقنعة الماسخة التي تسحق وجوده،وتشل فيه رعشة المستحيل المتوهجة في البعيد الأبعد،ووردة اللانهائي الفواحة بألوان الطيف. 
وللإشارة فإن منجزي الشعري صدر عن رؤى نسقية خاصة به، تتغيى الكشف عن أرض لا يوجد فيها إلا نفَس متوهِّج في بِلَّوْرِ الرغبة، بينه وبين الجسم برزخ. فالجسم من حيث هو مُرَكَّبٌ فيزيولوجي خاضعٌ لنظام الحاجة التي تعمل فيه لإشباع الضرورة وتحصيلها. أما الجسد فهو نظام رغبة وإمكانٌ جمالي وتشوف رؤيوي، تعمل فيه الرغبة لإشباع الحرية، ومن ثمة كان حقلا للحرية بامتياز،لأنه ينتزع الوجود الإنساني من الضرورة التي يفرضها نظام الحاجة على الجسم، ويضعه في أفق الفن والجمال والإبداع والخيال الذي هو حضرة الحضرات ـ حسب ابن عربي ـ . فتصور الجسد خارج التحام الرغبة بالحرية هو تصور للجسم أي للضرورة، والضرورة نقيضٌ للرغبة والحرية.
فالجسد بهذا المعنى الصوفي الفلسفي يُجرر الوجود الإنساني من كل شكل ناجز، ويجعله نَزَّعًا إلى ما لم يحصل بعدُ، ولذلك كان متعددا، فهو أجساد: جسد الكائن، جسد النور، جسد اللون، جسد العطر، جسد الماء، جسد الهواء، جسد النبض، جسد الحب، جسد المعنى، جسد الشكل....وهكذا.
وإذن؛
فالإنسانية جسد لا جسمٌ، منه تبدأ بوصفه نظامَ رغبة لا نظامَ حاجة، وتنطلق في تحرر دائم للابتكار والإبداع وتجديد أسلوب style حياتها الخاص وعلى أساس بُعدها الفردي في الوجود.
وما ليل الجسد إلا أقنعة الضرورة التي تتغيى تحويله إلى جسم خاضع منحرفٍ عن أفابتكار وجوده.

- من من الشعراء أثر بك؟

 بناء الذات الشعرية هو أشبه ببناء وجود جمالي،لا يتم بلبِنَة واحدة،وإنما بملايين اللبنات،وعلى طول الحياة.فالشاعر بقدر ما يعطي بقدر ما يأخذ،فهو يؤثر ويؤثَّر فيه من أطراف شعرية عديدة منذ عُرف الشعر إلى وقتِ صعوده في سلم القول،ومن قارات شعرية مختلفة.ومن ثمة فإن الشاعر الحقيقي لا يكتفي بشرب ماء غيره من الشعراء لبناء ذاته،وإلا لن يكون شاعرا له بصمته الخاصة، بل مجرد صدى للذين نهل منهم.وأنا لا أحب أن أكون نسخة من الآخر، مهما كنت شهرة هذا الآخر وقوته الشعرية،فالصدى سرابٌ،ولو تزيا بزي الشعر.
ولذا فإن ذاتي الشعرية هي وجود مختلفٌ،انصهرت فيه كثير من الشعريات المشعة في الأرض،بأطيافها، وألوانها، ولغاتها،وتضاريسها.قد تتعب إن بحثتَ فيها عن خلية من خلا يا هذه الشعريات.فهي تنغمر في ماء الشعر بقوتها الروحية،باحثة عن لؤلؤة تسمى مجهول القصيدة ، غير مكترثة ،ولا منصتة لصوت المعايير والقواعد،وذلك لأن هذه لا يمكن أن تلد القصيدة، وإن كانت القصيدة لا توجد إلا بهذه المعايير والقواعد، غير أن مضايق تلك ليس من قبيل مضايق هذه. فالفرق بين القصيدة وقاعدتها هو فرق فسحة كامنة في الأزرق لا تستطيع الإمساك بها أبدا، وكل ما في وسعك هو الاقتراب منها، والإنصاتُ إليها، وإلى ما في كلماتها من مجهول وضعه الشاعر ليبقى مجهولا، تسكن حقيقته ما يتعدى الكلمات، إذ الكلمات دائما ينقصها شيء عندما يتخلى عنها الشعر. وهذا الشيء هو الأسرار الكبرى التي تتنفس المجهول في فضاءات القصيدة.
فالقصيدة لها حقيقة خاصة بها ممعنة في الصيرورة، بها تؤسس معرفة متفردة خارج المعارف المتداولة، وتنطق بما يختلف عن الحقيقة الراكضة في كلمات أخرى غير كلماتها. إن حقيقة القصيدة أطول من زمن إنصاتنا إليها، إنها تجدُّدُ التكوين في منعرجات أسرار كبرى، تنفتل من سلطة الإخضاع إلى ما لا حقيقة له، لتقاوم ما يعتقلنا من خطابات، وما يبتر وجداناتنا، وما يُلوث ذاكرتنا ويُنمطها. فهي تعلن عن طريق غير الطرق المعتادة، تزُجُّ بنا فيه لنعانق ما لا ينتهي بجسدها الشعري الذي هو أحد الأشكال الرمزية الأكثر تأثيرا في وجدان البشر،والأفضل استجابة للانتظارات الروحية، والأعمق إضاءة للوجود.

بالقصيدة؛ وفي مجهولها الراعش بالمستحيل، يحسُّ الناس على الدوام بكونٍ ينشأ ولا ينتهي..كونٍ تجذبهم الأسرار التي يتكلمها، فيتسابقون نحوها...ولكنهم لا يصلون إليها لكونها ممعنةً في الهروب كما نقطةُ سر التكوين، ضوؤها متوجٌ برعشة الخلق، يُعيد تشكيل ذواتنا ووجوداتنا لتنطلق بحقيقة عالمِ حيوي، تَضُوع منه إرادة هذه الذوات والوجودات، وتتنافذ تنافذ الضوء مع الماء والعطر مع الصوت، وتسكن فيما نتوحَّدُ فيه من أسرار الوجود على الأرض.
إن هذا السري هو الذي تُسكننا فيه القصيدة، فتشَدُّ إلى اللانهائي سائرين على طريق المجاهدة والمكابدة لبلوغ صفاءِ اللمعة، والنزول ضيوفا دائمين فيه، حيث تكون الرؤية بحجم الماء واللغة بحجم الإبرة، مما يجعل التوتر المتولد عن هذا التباين صرخة راجة مندفعة، تحت ضغط قوة الرؤية؛ باتجاه الذات لحثها على السهر على اللغة في قصيها الأقصى، وإنقاذ الشعر من أجل إنقاذ اللغة. فالشعر مطلقا هو المتعدد الذي ينفرد بالإقامة في اللغة، وباستضافة لغة الآخر،إذ (اللغة حضورُ وجودٍ في الوجود)؛كما عبر عن ذلك ذات مرة الروائي إبراهيم الكوني؛ في أقصاها شعريات تلتقي وتتحاور من خلال مؤشرات لا تنتهي، وبمجرد ما نزوغ عن الأقصى اللغوي بحجة الوصول إلى الجمهور العريض نكون قد قتلنا مجهول القصيدة، ودخلنا في عَقد المنفعة الماحي للغة وللشعر معا. والشعر لم يكن شعرًا إلا حينما ألغى العقود، وانفرد بالرحيل في الوعد، وفي المجهول، ونحو الأقصى المنصتةِ لغته إلى ما لا ينصت إليه في المنعرجات والهوامش والتخوم الكونية. يتجه نحو الحيوي الإنساني كأفق لمعنى جديد، ونحو المجهول كنغمة يتيمة، ضدًّا على خرائب المنفى، ومنطق الاستهلاك الماسخ.
أواصل السير في الشعر وبه كمُسَرْنَمٍ مفروض عليه أن يواصل الحلم كيلا يسقط.فالشعر هو الرئة التي مازالت قادرة على التنفس في وجود معطوب وملَوَّث وموبوءٍ بما يًخجل إنسانيةَ الإنسانِ،وحين أندغم فيه أحس أني أمارسُ حقي في عشق الوجود الأمثل الحي،لا أعادي فيه إلا الأشياءَ الكريهة والسافلة التي تُشَوِّه موضوع عشقي.ومن ثمة أسعى إلى فضح أقنعتها المُتَحَرْبِئَةِ المرعبة الماسخة،والتي تجعل روحي كلما لمست الوجود مشتعلةً بالارتعاش ومرتابةً من الطبيعة لكونها مصدرَ الإغاظة للجميع،ولكونها تبدو وكأنها تغتصبنا بأيدٍ خفيةٍ تعشق انتهاك آدميَّتنا،وقتلَ إنسانِ الحرية فينا كيلا يتماشَى مع إيقاع الزمن المعافَى.

- ما حال القصيدة الآن؟

 القصيدة الآن قفزة في التيه،لا تعرف مجهولها الذي تسير إليه،ولا تحبل بوعود ممطرة بالمحلوم به،ولا تؤسس سماء جمالية ترتفع إليه الأرض،وتنفض عنها ما يثقلها من قبح.فهي قد دخلت في لعبة المزايدة على المنجز السابق عليها،وفي سبل المخالفة من أجل المخالفة،والتجريب من أجل التجريب، مما أدى بكثير مما تقدمه إلى التشابه،والسقوط في ظلام تتماثل فيه الغالبية العظمى من نصوصها، وتتصادم كالأشباح،وذلك لكونها قد تخلت عن البحث في مجهولها الفني والجمالي واللغوي والرؤيوي.ولن نستطيع أن نُصافي مجهول القصيدة، ونهدمَ منطق الاستهلاك إلا بالدخول في منطق الجمال الشعري ،بوصفه كتابة رمزية بامتياز، وكتابة مجاهدة وانفتالةٍ لتخليق الوجود مظهرا ومخبرًا، وبكل مكوناته، باعتبارها كتابةً لا تقوم على إقصاء الآخر وإلغائه أيًّا كان، أو إهمال قيمه أو تجاهل خصوصياته. فهي طريق الحداثة الحق في الهنا والآن، في الذات والزمان، بها وفيها ندرك أن اليقين الحقيقي يثوي خلف المدركات الظاهرة. إن الصوفية بعدٌ شعري حداثي رحيب يُخرج الذات من الراكض الراهن، ويحقق ذاتية المبدع، ويؤصِّلُ فرديته كإنسان فاعل متفرد في الوجود ومتفاعل معه.

فالشعر مقياس لمعافاة نبضنا في الوجود، يتطور ويتغير في الزمن بقوة الإحساس،وقوة تمثل فوران الحياة، وتشابكات أطرافها.ولا يحصل له هذا إلا إذا كان مسكونا بهاجس التعبير، وديناميته. إذ التعبير في كل فن من الفنون تتطور أساليبه مع الزمان، فيزداد القصد منه غموضا وخفاء من خلال تغير هذه الأساليب، حتى ليتعذر يوما الوقوف على دلالة فن ما، لأن أساليب الأداء الجديدة تقطع كل سبل التواصل، وهذا هو ما يُسمَّى صيانة مجهول القصيدة أو الفن بصفة عامة. ومن ثمة يتعين البحث عن سبل أخرى جديدة للتواصل مع هذا التطور في أساليب الأداء.
وحُرقة تخطي أدوات التعبير هي حُرقة كل مبدع، وكلما كان هذا التخطي حكيما كانت مقومات الإبداع عابرة الزمن، ومحتفظة بشيء لا يزول، ذلك أن جوهر الشعر يكمن في الانفلات من المواضعات. فروحه تُعرف بهذه الوثبة غير المتزنة، ولأجلها يتحفَّزُ على المادة، ويشع من خلالها، فتستقر استقرارا نهائيا، ويتجدد شبابها كلما عرف الشاعر كيف يكتشف فيها حضور الروح.
وهذا التجاوز والاكتشاف مشروطان بالحرية، والحرية سِمتها أنها تقبل الشك، مثلها في ذلك مثل سائر القيم الإنسانية. إذ لا حرية ولا حقيقة أُنجزت وفُرغ منها فأمكن عرضها كمسلمة مطلقة. وكما أن الحقيقة لا تصاغ في القوالب، فكذلك الحرية لا تُبسط بالبراهين، والحقيقة لا أحد يتلوها علينا إذ هي عرضٌ لذواتنا على الواقع، بحيث لا مناص لنا من الدخول فيها على هَديها، ذلك أنه لا بُرهان عليها مثلها في ذلك مثل الحرية، لأن البرهان عليهما للنفس أو للآخرين هو إنكارٌ لهما ومنعٌ لهما من أن نحيا فيهما ونعاينهما إلى حد المخاطرة بأنفسنا من أجلهما.
وعليه؛فإن أفق الشعر الآن- ومعه أفق السرد- مفتوح على المعرفة الصوفية باعتبارها معرفة المدهش الممتد في البعيد الأبعد من الروح،تتجدد كل لحظة وفق إيقاع الزمن الداخلي للإنسان،وتَمْثُلُ في جوانيته لاإراديا بحكم تناظره للعالم.فالعالم كتاب كبير،والإنسان مختصَرُه المضاهي له في المعنى،فكل منهما نسخة من الآخر،ومُناظرٌ له.والشعر حين يدخل العالم بقدم صوفية لا يدخله بوصفه عالما واحدا،بل بوصفه عوالم غير مكتشفة جماليا،كالعالم الأعلى (=عالم البقاء)،وعالم الاستحالة (=عالم الفناء)،وعالم التعمير (=عالم البقاء والفناء)،وعالم النِّسَب.فكل عالم من هذه العوالم له نظائر في الإنسان،عجز العلم المادي عن ولوجها و استقرائها،وولجها العِلم الَّلدُنِّي.فهي أراضٍ بِكرٌ تُقَدمها الصوفية للشعر ليبني فيها ومنها لغته وصوره ورؤاه،ويقاربها بنظائرها في الكائن البشري مقاربةَ وحدةٍ وتعدد في إطار جمالي غير مسبوق.


ـ تعلم أن شعر المقاومة، كان ساطعا في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي،برأيكم ما سبب انحسار شعر المقاومة؟

 فالذات النازفة تحت ضغط انعدام اليقين الروحي في عالم متلاطم زاخر بالنفعية المادية قد تفجرت، وتولد فيها الشعور بسلوك التصوف كمخرج طبيعي من ظلمة الفوضى Chaos بالمعنى الفلسفي. فالبديل المناقض للواقع لن يتحقق إلا في الذات الشاعرة وعالم التصوف، شريطة أن يكون هذا العالم عالم إبداع، وتصوفه تصوف قوة خلاقة، لا تصوف تخاذل وخنوع، وانكسار وهروب، واجترار وإحباط.
فبالرؤيا الشعرية يتقوى رفضُ الشاعر للظواهر الخارجية العيانية، وينفسح أمامه المجال لخلق عالم مُفارق يستند إلى داخليته وجوهره المُغاير للظاهر، فيتمثل الحقيقة في أجلى حالات الصفاء عن طريق الرؤيا الكشفية.
وعليه؛ فإن نزوع الشعر إلى الكتابة بحبر المقاومة المضيء هو نزوع إلى البحث في مجال إثبات الذات القلقة،والمهددة بالاجتثاث من الوجود، والتسامي بها عن طريق تلاشي الحواس الظاهرية للاستمداد من ينبوع الحياة بصفها مصدرًا لطاقة كامنة يتسرر في طبقاتها الإشعاع الروحي، وبحكم كون الشعر ينزع من الداخل إلى الخارج، ويهتضم الواقع ويتمثله عن طريق الرؤيا التي تحيل التناقض إلى انسجام و ألفة.
ولذلك؛ فإن شعر المقاومة ليس شعر حرب قط،بل هو شعر ذات ترفع نفسها من أنقاض الإبادة، وتصر على امتلاك حقها في الوجود، وممارستها بالطريقة التي تتفق وهويتها. فهو تعبير عن الوجود المهدَّد بالمحو،تشكل شعراً نابعا من معاناة الذات الشاعرة كفاعلة في الوجود متفاعلة معه، تتجاوز أفقها الإنساني برؤيا شاملة تُمكنها من أن تظل مُفاعلة للوجود مُفاعلةَ الرافض المغير المكيف. فإضافته إلى المقاومة هو بمثابة إضافةِ نورٍ جديد إلى كل حياة يستفزها الظلام،ويخنقها الغصب ، لا يمكن بتاتا تهميشه، ولا تَذْبيله ، مادام هناك اغتصاب للأرض .فهو انبثاق من وجدانية أدبية ذوقية حدسية، تلاحظ الواقع، وتنقده إشارة لا تصريحا، وفيما هي تفعل ذلك بالأشياء المرئية والمعلومة، تُشير إلى الأشياء غير المرئية والمجهولة وتدُلُّ عليها.
هكذا يكون شعر المقاومة شعر وجودٍ،يتقاطع مع الشعريات الكونية في:
1 ـ الرؤية الإنسانية للإنسان.
2 ـ الارتقاء بالروح إلى مدارج السمو.
3 ـ استشفاف المجهول، واكتشاف ما يختبئ وراء هذا الستار الكثيف الذي هو الواقع اليومي الأليف.

قد يجنح إلى الغفوة في لحظة من اللحظات،تحت إكراهات شتى ،وتصورات مغرضة ،دفعت بها الإمبريالية والأخطبوط الصهيوني إلى الواجهة الإعلامية،للجم المقاومة،وتشويه صورتها كونيا،ونسف جسور التعاطف معها دوليا،إلا أن هذا كلها في تصورنا،لن يمحو شعر المقاومة من صفحة الحياة والبروز،فما دام هناك احتلا،فمن الطبيعي أن تكون هناك مقاومة،وأن يكون لها تعبيرها الجمالي الخاص بها في كل الفنون،وليس في الشعر وحده.هذا ما يعلمنا إياه التاريخ القديم والمعاصر في كل البلدان التي ابتليت بالاحتلال.

إن شعر المقاومة هو شعر اللقاء مع الحرية ،والحرية من تعَرَّفَ إليها أمست لديه حضورا خلاقا في الكيان وفي الأشياء، يراها في حدود ذاته، وقد أخذت تتسع في تدريج بفعل ذلك الحضور، وفي المادة روحًا موعودة بالاكتشاف، أي أنها حضور في العالم وفي الذات، وفي هذا "الشيء الأكثر" الذي يحمله كل إنسان وحده. إن حرية الشعر هاته، ومشيئتها فينا هي التي تدفعنا إلى أن خرق كثافة العالم كلها، فنسخرها وكأنها مادة ابتسامنا الذاتي الفردي التي تدورُ في صميمه مأساة العالم. وما أصدق كاليغولا في مسرحية "كامو" لما صاح " ما أصعب أن تكون إنسانًا"، وبخاصة في هذا الزمن المتعولم الذي يندر أن تقع فيه على يوم للإنسانية أصيل، فالعالم فيه هو عالمٌ في منتهى التصادم والتسطُّح.. عالمُ منْ ليس له غد ولا أملٌ.
 س 5 ـ برأيكم أين هو المثقف العربي الآن في ظل الأزمات التي تعصف بالعالم العربي،وما هو دوره أمام كل هذا الكم من الأفكار التكفيرية التي تهدد مجتمعاتنا وأمتنا ككل؟

- برأيكم أين هو المثقف العربي الآن في ظل الأزمات التي تعصف بالعالم العربي،وما هو دوره أمام كل هذا الكم من الأفكار التكفيرية التي تهدد مجتمعاتنا وأمتنا ككل؟

 حينما نتحدث عن المثقف العربي الآن ينبغي أن لا
نغيِّب الظرف الذي يوجد
فيه،كغيره من أفراد الناس،فهو لَبِنة من لبنات الجسد المجتمعي المنقوع في توجهات العولمة،والمحكوم بإكراهات داخلية،وإملاءات خارجية.وأن لا نعتقد أن ثقافته هي العصى السحرية التي سيضرب بها جبل الأزمات المختلفة،فينهدُّ،وسيشير بها إلى المعضلات فتنحل.ولقد كان مثل هذا متصورا في مثقف العقود الثمانية الأولى من القرن الماضي،الذي كان يرفع عاليا مشعل الوعي بالحرية والعدالة والكرامة وحقوق الإنسان،ويناضل من أجل القضايا الإنسانية العادلة،وبخاصة في العالم الثالث الذي أذله الاستعمار وقهره،وأدخله سرداب التخلف،حيث كان دائما مصطفا مع المقموعين،ومع المنادين بوضع حدٍّ للتفاوتات الصارخة بين الشمال والجنوب في نمط الحياة،كما كان في الصفوف الأولى للتظاهرات الشعبية المطالبة بالوجود الكريم على هذه الأرض،وبإيقاف الحروب التي يكون البسطاء والأبرياء أعظم وقود لها.
هذه الصورة التي كان المثقف في الماضي القريب جدا يصنعها، لم يعد في مُكنة مثقف العقد الثاني من الألفية الثالثة أن ينجز مثلها أو أقرب منها،وذلك لأن السياسة ؛التي من المفروض فيها أن تدبر الحياة العامة تدبيرا عقلانيا،وتقيَها مما قد يرجها من صدمات خارجية؛قد سقطت في أيدي وحوش المال،وخادمي التوجهات الإمبريالية ،ومنتهزي الصيد في بحار الأزمات الإقليمية والدولية.فأقصى القاعدون على كراسيها العليا جدَل الأفكار،وأحلو محلها نوعا من المراوغة الإيديولوجية التي تفتح لهم سبل النفعية،والتحكم في الناس بتنسيق مع مالكي رؤوس الأموال.فهم قد دفعوا إلى الصدارة بمزيفين ومرتزقة ليحموا مصالحهم،ويبقوا الناس في دائرة الجهل الأعمى،لتسهل السيطرة عليهم،وإيهامهم بأن ما يعيشونه ليس أسوأ ما في الوجود،وبأنهم بشيء من الصبر سيصلون إلى محلومهم.وهؤلاء المتصدرون المأجورون يحظون بمعاملات تفضيلية،لكونهم جدارا تتكسر عليه رؤوس المثقفين الحاملين همَّ أوطانهم،والمنادين بطلب الدقة في كل ما يتعلق بشؤون الوطن،فهم غير قادرين على التخلي عن قواعد النزاهة الفكرية والعملية،وغير راضين عن أي تفسير للإفلات من العقاب.
فالسياسة المحشورة في جبة التبعية قد أفرغت الحياة من القيم المثلى،بحيث لم تعد فضيلة الشرف والكرامة والوطنية والنزاهة تُقابل بالاحترام،بل الأدهى أنه حل محلها قيمٌ سفلى دنيئة،رفعها الإعلام ـ بما يتقنه من مهارة في المكر ـ إلى مقام الأولوية التي لا غنى عنها للعصر.فالملاحظ البصير سيدرك أن السخافة لم تعد تَقْتل، بل هي في بعض الحالات نبضٌ للحيوية والتطور،وأن النزاهة كذلك لم تعد معيارا للحكم على الأمور في وسائل الإعلام.فالتناقض والكذب سمة السياسة في المحيط العربي.ولذلك كان المثقف الحق ينأى بنفسه عن الارتباط بأي نظام،لأن طبيعة النظم السياسية في جغرافيتنا مضادة للواقع،يتشبه القائمون على رأسها بالآلهة،وهذا ما ينسف كل الروابط،فعلاقات النظم بالناس هي علاقة قمع واستبداد.النقطة البارزة فيها تتمثَّل في السؤال الذي تلقيه عليك: أأنت مع إيديولوجيتي أم لا؟ فإذا لم تكن معها فلا شك أن مصيرك ستحفه من الشدة؛أبسطها التهميش،وأشدها التصفية.
وإذن؛فإن المثقف ؛ في مثل هذه الوضعية ؛ مثقفون عديدون يتمرأون في الحالات والنماذج التالية:
1 ـ مثقفٌ دجَّنتْه السلطة،واحتوته،فصار بوقاً لها ،يتلون بألوانها،ويصيح باسمها في كل واد.وهذا سُمٌّ في جسد المجتمع، لا يعول عليه في رفع التحديات،وحل التناقضات التي تُدخل المجتمع في شرنقتها.
2 ـ مثقفٌ يناضل من أجل الدفع بآرائه إلى قمة الصراع السياسي،دون اصطدام مع السلطة،فهو يعمل بالتقية حتى لا تكتشف السلطة إيديولوجيته المناوئة لها.وهذا لا تهمه من الوطن إلا تلك اللحظة التي ستصير فيها إيديولجيته ممسكة بالسلطة.
3 ـ مثقف جَاهَر بمعارضته للسلطة،ولكل ما يجري في بلده من ترديات وانتكاسات،فالتقمه السجن، ومُورست عليه فيه أنواع العذاب التي لا تُتًصور حتى الجحيم.وهذا كيان مُحطَّمٌ لا يرتجَى منه ما هو منتظر من مثقف متنور،لكونه ذُوِّبَ في صمتٍ أبدي،وخوفٍ قسري.
4 ـ مثقفٌ غيور على بلده،مهموم بما آل إليه،ولكنه من شدة ما رأى من أنواع التنكيل بزملائه اختار النجاة بذاته وأولاده،فاختار المنفى،معتقدا أنه سيمارس فيه الحرية،وينشر قضايا بلده كما يحب.وكأنه نسيَ أن الغربة ما هي إلا حقلٌ تُفَرَّخ فيه أوهام الحرية،وليست تربةٌ لإخصاب الحرية والهُوية،والارتفاعِ بالوطن من وحل الزمن.
فأي مثقف من هذه الأصناف الأربعة باستطاعته أن يحل الأزمات التي تتخبط فيها البلاد العربية،وأن يمنحها مرهما فكريا لجراحاتها،وهي لا تتنفس إلا إرادة الحاكم الوحيد المشبَع بنرجسيته؟
إن المثقف العربي اليوم مشلول الإرادة،منزوعة منه وسائل المشاركة في البناء الديمقراطي وفق أفقه الفكري العالي،وأفقِ طموحات ناس وطنه البسطاء،وإن الثقافة لم تعد تصنع أفق السياسة، لكون المال همَّشها،وحل محلها في صنع أفق السياسة.

- هل تتابع ديوان العرب؟وكيف تقيم دوره على الساحة الأدبية؟

 في ذهني تدور دائما مقولة :(الشرق مصدر النور)،وعلى ضوئها أفهم شرط الكائن الإنساني،وأتملى صورته في البعد الكوني،دون أن أخضع لإرادة إمبريالية ثقافية تحاول طمس نور الشرق بإيديولوجية عمياء، لصالح الغرب.وإذا كانت العولمة تمثل وحدة جديدة بين الشرق والغرب،فإنها وحدة مزيفة،أملاها الطرف الأقوى والأغنى.وما ديوان العرب إلا واحد من مصادر هذا النور الذي لم تشبه شائبة التزييف التي طالت الكثير من المواقع التي تدعي الاشتغال بالثقافة.فالثقافة هي ضخ الأمل في نفوس الناس،ومحو اليأس منها،لا الترويج لدُرَجٍ(=موضات) ماجنة باسم التسلية الثقافية،ومتى كانت الثقافة تسلية؟إنها بناء الإنسان وتحصينه من الأوبئة المادية والمعنوية.وهذا هو الدور الأسمى الذي يقوم به ديوان العرب الآن في الحياة.
أتابعه بمحبة وشغف،لأنه لا يسقط في الابتذال،ولا ينحني إلى الرغبات السفلى المبتذلة والمقنَّعة بقناع الأدب والفن والثقافة،بدعوى أن عامة شباب اليوم لا يصْبُون إلا إلى ذلك.وأقرأ ما ينشر فيه لأحس بحركة الإبداع وهي تصعد إلى الأوج.فالقراءة إبداع ،واكتشاف للجميل والجليل فيالوجود،وتحفيزٌ على التشبث بالحياة في أعتى العواصف واللحظات.


 حبذا لو تعطينا نبذة عن الأدب في المغرب؟فنحن نلحظ نشاطا ثقافيا،وأدبيا متصاعدا في المغرب،فهل أنت راض عن النهوض الثقافي والأدبي في المغرب حاليا؟

 في مجال الثقافة والأدب لا يمكن للمبدع الحق أن يرضى ويغتبط بما هو منجز في محيطه،وذلك لأن هذا المجال هو مجال طموحٍ لا نهائي لتحقيق أوسع مساحة من الجمال في الوجود،وهذا لا يتحقق إلا بالخيال الخلاق الذي لا حدود لاجتراحاته.وكلما أشرق الخيال بقوة في مجتمع ما أشرقت جهات الإبداع فيه،وامتدت في الزمن،متلونة برغبات العصر،مستبطنة محلومات الناس،مفجرة فيهم قوى الصعود إلى الأجدِّ الأسمى والأبقى.
بهذا أنظر إلى الأدب في المغرب الآن،فهو أدب جديد حي،ينبع من أرض الحاضر ،لا من أرض الماضي التي يُخيِّم عليها غبار الموتى،هاجسه النظر إلى الآتي بعين التفاؤل والقوة.سواء أكان هذا الأدب شعرا أم رواية أم نقدا،فالخيط الناظم بين هذه الثلاثة هو التنافس على الريادة ،وعلى التفوق في طرح القضايا الوطنية والإنسانية بروح جمالية، ونظرة كونية إنسانية،وخطوة تضاهي خطوات الإبداع في الجهات الأخرى من الأرض.
فمثلا الشعر المعاصر في المغرب هو شعر بصيغة الجمع،أي أنه أشعار، تتسم بتعدد لغاتها وألوانها وأشكالها واتجاهاتها، وبتمثلاتها للكون. فهناك الشعر المكتوب بالعربية الناسجُ لقطاع من الحساسية الشعرية عريضٍ، وهنالك الشعر المكتوب بالفرنسية، والإسبانية، والإنجليزية، والأمازيغية بشعبها الثلاث.

وهذا الشعرٌ المغربي المعاصرٌ لا تستطيع القراءة الراصدة لجسد الإبداع الشعري في الجغرافيا العربية أن تمحوه أو تكابر فيه،فهو شعرٌ له خصوصياته وتميزاتُه التي تنآى به عن التصادي مع الآخر الشرقي أو الغربي، وله أسماؤه التي تمتدُّ قاماتها الفارهة في فضاء الابتكار والإضافة باقتدار بصير، ودأَب مضيء. غير أن هذه النظرة لا ينبغي لها أن توقعنا في شرك الاطمئنان الساذج، والاغتباط الضرير، وجاذبية الرِّضا الزائف، ونحنُ نتحدث عن هذا الشعر.

إنه بأشكاله المتعايشة/المُتنابذة، وتياراته المتجلية / المحتجبة، يدعونا إلى الإصغاء الجادِّ لنبضه السِّرِّي، وإلى الكشف عن منطقة استتاره، وآليات تلاقي أشكاله وتبايُنها، قصدَ الإمساك بميكانيزمات استمراره وإواليات انتعاشه وتجدُّدِهِ في راهنٍ يكفر به.
وبعد الشعر تأتي الرواية لتكون أوسع طريق وأرحبه لإدراك العالم،فأهم مقوماتها السردية والتخييلية يتمثل في الالتصاق بجزئيات الحياة الكونية،وإلحامها بجزئيات الحياة الداخلية قصد تصوير ما لم يُصور،وقول ما لم يُقَل.وبهذا تكون الرواية في المغرب عامة تمززج استنساغات الروائي باستنساغات المتلقين،ومحلوماتهم،وتطلعاته بتطلعاتهم،وموروثه بالموروث الإنساني الكوني،لأجل تشييد محطة ينطلق منها للإصغاء إلى عصره وتياراته المتناغلة،وفهمِ ما يتطلبه من رؤية،ومن ثمزة الانعطاف إلى إدخال اللامعقول في صلب السرد،لخلخلة البدَهيات المُحَنِّطة،وكسحِ ألغام التوقعات المُلجِمة،ليتعرَّف المتلقي على جوهره المنسي. وعموما فإن الرواية في المغرب تكاد تكون سفرا في الذات، وفي الوجود، وفي الزمن، فالروائ فيها يبدو وكأنه يَنذُرُها إلى الديمومة، فهو يفارق أرض الذات المألوفة، وأرض الواقع الحابلة بالتناقضات، ويسير على غير هُدى إلى ضوء يومئ إليه من البعيد الأبعد. فقدَر الرواية ومصيرها هو أن تنفصل عن صاحبها وزمنها، ومن العبث محاولة ثنيها عن السفر في متاهات الآتي. فما أن تُبدَع حتى تنطلق هائمة على وجهها بحثا عن متلقين مجهولين في بطن الزمن.
وبهذا تصبح الرواية المغربية شمسا تُغنِّي حب العالم، في إطار اجتراح أسئلة جديدة مقلقة ومستفزة لكل المفاهيم المحنَّطة والمُقبِرة للجمال.
أما النقد فهو القامة التي تطل بها الثقافة المغربية على العالم،وذلك لأنه اشتغل بمعارف عليا على المتون السردية والشعرية،وأبرز ما فيها من جمال فني،وفكري ولغوي،وفلسفي،وقيمٍ كونية خارقة للزمن.وبهذا كانت له الصدارة في الحقل الثقافي،والصيت الأبرز في الداخل والخارج.وتتبعه الرواية في المرتبة والذيوع والانتشار،تاركة الشعر ينافس نفسه.

فالتعدد والتميز هو سمة الإبداع المغربي، وبخاصة في ظل ثقافة الاستهلاك المُنمطة، فالذي لا يتعدد لا يمكن أن يكون له وجود، ولذلك فالثقافة في المغرب لا تنحاز إلى الأشكال، وإنما إلى الزمن الذي في داخلها، فهو الذي يبدع أشكالا جديدة لوجود جديد؛ إذ لا يمكن أن تكون للوجود دينامية إلا إذا كانت هناك أشكالٌ أخرى تُصاحبه. وبذلك تُفتح الذائقة على مباهج الجمال الكوني، وتُخلص من سجن التنميط الذي وضعتها فيها المؤسساتُ والمُواضعاتُ الماضوية. فالمؤسسات بكل ضروبها وأشكالها لا تتخلى عن خِنجرها المقَّنع، والمبدعُ لا يتخلى عن جناح الحرية.


مشاركة منتدى

  • الدكتور احمد بلحاج هذا صنديد الشعروالفكر في العالم العربي..
    كلما قرات له شعرا او نثرا زدت هيبة و ثراء..فوعيه محيط من المعرفة و الدراية..
    كنت اقرا له في مجلة(افروديت) مع الشاعرة نجاة زبايير..

    ربنا يحفظه و يعطيه سعة في العمر بخير و سلامة.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى